جاء في لسان العرب: (... وأصل الخلق التقدير... قال أبو بكر بن الأنباري: الخلق في كلام العرب على وجهين: أحدهما الإنشاء على مثال أبدعه، والآخر التقدير...).
الخلق التقدير بلغة العرب، وفي ذلك يقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في أحد قصائده
ولانت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
إن مراجعة المادة (خ، ل، ق) بدقة في المعاجم اللغوية نشاهد الإشارة بشكل وا ضح ومكثف إلى أن معناها التقدير، وتقدير شي يتطلب مادة سابقة يجري عليها التقدير، كما في قوله تعالى: (أخلق لكم من الطين خلْقه)، أي تقديره، وكما في قوله تعالى: (يخلقكم في بطون إمهاتكم خلقا من بعد خلق) وعملية الخلق هذه عبارة عن تقدير متلاحق لخلقٍ (ما) له بداية (ما)، وهو هنا كما يبدو النطفة المنعقدة في الرحم. وكما جاء ايضا في الكتاب الكريم: (وتخلقون إفكا) فإن الأفك لا ينخلق من فراغ، بل هناك مادة سابقة يجري عليها تقدير الأفك بلا شلك ولا ريب، أو هناك عناصر سابقة يستل منها الافك بطريقة وأخرى.
نقرا في مقاييس اللغة: ((ا لخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشي، والآخر ملاسة الشي، فأما الاول فقولهم: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته... والخلق خلق الكذب،وهو أختلاقه واختراعه وتقديره في النفس. قال تعالى: (وتخلقون إفكا)...)).
والإختراع لا يحصل من فراغ، كذلك التقدير لا يجري في فراغ، والاختراع نلحظ فيه جهة إشتقاق لا محالة. والتقدير تفصيل زمان ومكان وقوة وشدة وحجم وهيئة وعمر وهوية ومسيرة كلا أو بعضا على ما دة سابقة من أجل موجود جديد.
يبدو من إستعمالات المادة إنها تعني (التقدير) بل التقدير هو الأصل، ولكن كما يظهر لي ليس المقصود هنا التقدير النظري الذهني، بل التقدير الفعلي، أي التقدير على مادة مطروحة كأن تكون خشبا أو حديدا أو ورقا أو أي مادة قابلة لان تكون وسطا لتقدير ذهني. أو الخلق عملية مزدوجة تطلق على تفاعل ذهني مع الواقع، أي تقدير ذهني يتجسد بواقع خارجي، أما إذا انصرف التقدير هنا إلى الصورة الذهنية وحسب، فإنّها تحتاج إلى المادة السابقة بشكل آكد، فيما لو أُريد لها أن تتحقق خارجيا كما هو و اضح، ولم يرد في مقاييس اللغة إن الخلق يفيد الإيجاد من لا شيئ.
نقرا في معجم الصحاح : (الخلق التقدير، يقال: خلقت الاديم،إذا قدّرته قبل القطع...)، ولم يرد في قاموس الصحاح أي إشارة إلى الخلق بمعنى الإيجاد بعد عدم مطلق، أي إيجاد شيء من لا شيئ كما يدعي بعضهم.
نقرأ في القاموس المحيط: (الخلق التقدير. والخالق في صفاته تعالى: المبدع للشيئ، المخترع على غير مثال سبق، وصانع الأديم ونحوه...).
والحقيقة إن خلق شي على غير مثال سابق، لا يعني خلقا من عدم، بل هو خلق غير مسبوق الهيئة والصورة، أي غير متكرر سابقا. ولم نقرأ صراحة في قاموس المحيط أي إشارة إلى الخلق بمعنى الإيجاد من عدم أو المسبوق بعدم مطلق.
جاءت المادة بمعنى الإيجاد (بعد عدم) على لسان (ابن سيده) كما يورد ابن منظور في لسان العرب ـ إذ لم توجد عندي نسخة معجمه المسمى بالمخصص ــ، إذ نقرا فيه: (خلق الله الشيء خلقا أ حدثه بعد أن لم يكن) وذلك على لسان (ابن سيده) المتولد سنة 398 للهجرة مما يعني أنه من أهل المنتصف الأول من القرن الخامس الهجري، وأنه ألف معجمه في أوائل القرن الخامس كما يرى بعض الباحثين. والنقطة المهمة هنا هي نهج بن سيده في المعجم، فهو يستعين دائما بالمنطق وعلم الكلام في شرح معاني الكلمات، وهذه نقطة ضعف لا قوة على صعيد الناحية المعجمية، فهو مثلا يعرف (الدهر: مدّة بقا ء الدنيا إلى إنقضائها) في حين لا تتفق بقية المعاجم معه! فالرجل كان من حذّأق الصناعة المنطقية، وخطبته في كتابه تشبه مقالة أبن سينا في الشفاء كما يقول الباحثون، وهذه رغم كونها نقطة قوة في الرجل ولكن في نفس الوقت تستدعي الحذر في التعامل مع معجمه اللغوي. والزمخشري يخبرنا بأن استخدام المادة للدلالة على (الإيجاد) إنماعلى نحو المجاز، فهو يقول في معجمه أساس البلاغة: (... ومن المجاز: خلق الله الخلق:أوجده على تقدير أوجبته الحكمة).ويعطي الدلالة الأصلية لظواهر طبيعية كـ (الملس) و (الحظ)!
قال صاحب مجمع البيان في تفسير آية 141 من سورة الأنعام: (... والخلق هو التقدير والترتيب...) / المجمع جزء 4 ص 577 /
وتأتي بمعنى (جعل) كما يستفاد من قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) مقارنة بقوله تعالى: (وهو الذي خلق الليل و النهار...).
هنا أسجل الملاحظات التالية: ــ
الملاحظة الأولى: إن الخلق بمعنى التقدير الخارجي المتحقق بمواد هذا العالم له ما لا يحصى من الشواهد في المعاجم اللغوية، فيما الخلق بمعنى: (إحداث شيء بعد أن كان عدما بالمرّة وذلك من لا شيء) لا شاهد له من شعر أو نثر للاستشهاد بلحاظ شروط الاستشهاد على المعنى اللغوي للمادة من قدم وسلامة نسبة وغيرها.
الملاحظة الثانية: إن صاحب مقاييس اللغة صريح في قوله بأن الأ صل في الكلمة هو (التقدير)، كذلك غيره من أصحاب المعاجم المشهورة.
الملاحظة الثالثة: إن الرجوع إلى المادة باشتقاقاتها واستعمالتها المتعددة تتصل جميعها بواقع خارجي مشخص وليس هنا أي تواصل بين المادة والإنشاء بعد عدم مطلق وبالتالي، إنشاء شيء من لا شيء، فنحن نقرأ الخارطة التالية من الاستعمالات: (... الخليقة هي الطبيعة، خلْقُ الله هو هذه المخلوقات، والخلق الدين، والخلقة السحابة المستوية المخيلة للمطر، ومضغة مخلقة أي تامة الخلْق...).
الملاحظة الرابعة: إذا راجعنا المادة في المعاجم فسوف نرى هذه الخارطة الهائلة: ــ
1: التقدير.
2: الإنشاء على مثال أبدعه.
3: خلق الله: دين الله (لا تبديل لخلق الله).
4: الخليقة: الطبيعة، السجية (وإنك لعلى خلق عظيم).
5: خَلَقَ: جعل (خلق لكم من أنفسكم أزواجا، وجعل لكم من أنفسكم أزواجا).
6: الإبداع.
7: الإنشاء.
8: وثوب خلق: بال.
9: الخلق: كل شيئ مُمَلَّس، والخلوقة:الملوسة.
10: الخُلق: المروءة.
11: أخلولق السحاب: استوى.
12: الخلاق: النصيب.
13: الخِلقة: الفطرة.
هذه الاستعمالات كما نرى تشكل خارطة مشتعبة للمادة، ولا نعرف تسلسها التاريخي، وإن كانت تنتمي إلى مجال دلالي يكاد يكون متقاربا، ولكن رغم ذلك هناك مستويات من الدلالة بين استعمال وآخر، ونجابه صعوبة كبيرة في استجلاء الدلالة بشكل واضح وبين، فإن تفسير الخلق ب(الإبداع) لا يقدم توضيحا ما دام الإبداع هو الآخر يدخل في دائرة معقدة من التشعبات والتفريعات، كذلك الإنشاء، وليس من المعقول أن تكون كل هذه الاستعمالات منذ البداية، ومن المعقول أن يكون الاستعمال في بدايته المتقدمة ذا مستوى بسيط، ثم تطور الا ستعمال، ولم أجد الاستعمال الذي يزعم إن المادة تفيد الإيجاد من لا شي حاضرا بوضوح، وليس هناك شاهد واضح، فيما الاستعمال الذي يفيد أن الخلق هو إيجاد شي من شي شائع بدرجة سيالة خاصة في الإستعمال القرآني الكريم.
وإذا كان حقا إن من استعمالات المادة هي إيجاد شي من لا شي، فهو استعمال متأخر حتما، لأنه يتطلب تقدما عقليا، ودربة فكرية، ويستوجب مقدمات حول الكثير من المفاهيم، وهو استخدام مثير للغاية، وإذا كان كذلك يعني، فإن القرآن أولى بمثل هذا الاستعمال ولجاء بشكل مكثف، لان مسألة الخلق تشكل أهم نقطة في سرده الوجودي العام.