[ 2 ndash; 2]

1- غلوكسمان والحروب الإنسانية:
أشرنا في القسم الأول من هذا المقال، إلى كتاب المفكر الفرنسي أندريه غلوكسمان المعنون (غرب ضد غرب) أو (غرب في مواجهة غرب)Andre Glockmann - Ouest contre Ouest-- Plon 2003
المؤلف كان من بين قلة نادرة من المثقفين الفرنسيين في تأييد الحرب على نظام البعث الصدامي، سواء قبل نشوبها أو بعدها، ونحن نستعرض أفكار المؤلف لكونها مرتبطة بالضجة والمواقف الحالية من الحرب، والحمى المسعورة في الشارعين العربي والإسلامي بعد quot;الغزوةquot; الحذائية المظفرة!
لقد انتقد المؤلف بصرامة ما سماه quot;الحمى العقليةquot; التي اجتاحت الشوارع الأوروبية ضد القرار الأميركي بالحرب، وانتقد بوجه خاص مواقف الحكوميتين الفرنسية والألمانية وموقف روسيا، وهي الدول التي شكلت جبهة صاخبة ضد الموقف الأميركي، وتساءل كيف يمكن للجماهير الأوروبية وحكومات فرنسا وروسيا وألمانيا عن حاكم غاشم مارس عمليات إبادة ضد شرائح واسعة من الشعب العراقي، وكان يهدد جيرانه، والواقع أن التيارات والجهات التي نظمت المظاهرات كانت متعددة المشارب، من يسار متطرف مصاب بهوس معاداة أميركا، إلى جماهير واسعة مؤمنة بأن كل حرب مأساوية وتؤدي لخسائر بشرية كبيرة، فضلا عن أن تلك الجماهير لم تكن مطلعة على فظائع النظام العراقي ضد الشعب. إنها إذن لم تعارض حبا بسواد عيون صدام، كما يقول. أما الحكومات المذكورة، فقد عارضت الحرب منطلقة من مصالحها النفطية والتجارية، لا من عواطف نبيلة، ناهيكم عن أن كوبونات صدام أفسدت العديد من الساسة والصحفيين في أوروبا، خصوصا في فرنسا. أما الحملات في العالمين العربي والإسلامي فكانت، ولا تزال، من طبيعة أخرى، حيث أنها، وعدا كراهية أميركا لما تعتبره تحيزا مطلقا لإسرائيل، تعتبر صدام رمزا للوقوف بوجه أميركا وإسرائيل، وحامي العروبة والإسلام، ولا تزال هذه النظرة والموقف كما كانا لدى أوسع شرائح الشارعين العربي والإسلامي كما دلت أخيرا واقعة quot;البطولةquot; الحذائية البعثية، التي يكون قدرها في ميزان التاريخ بقدر قشر بصلة عفنة أو نعال متهري ملقى في المزابل.
1- منطلقات مؤلف المؤلف وحيثياته:
أ ndash; 11 سبتمبرquot;الحد الفاصل بين عهدين منذ نهاية الحرب الباردة:
بعد انتهاء الحرب الباردة استسلم الغرب إلى تفاؤل مفرط عن انعدام أخطار جديدة كبرى، ولكن الأحداث بينت خطأ ذلك التفاؤل وذلك بظهور أخطار الإرهاب الإسلامي، والأنظمة الاستبدادية الدموية التي لا تحترم القانون الدولي والأمم المتحدة، وهي فوق ذلك تسعى لحيازة أسلحة الدمار الشامل.
يقول غلوكسمان إنه منذ 1995 كان يكتب عما يدعوه بـquot; الحروب الإنسانيةquot;، أي حرب المجتمع الدولي على الأنظمة التي تهدد شعوبها بالإبادة، وتمارس كنهج ثابت أساليب التعذيب ضد المواطنين. إن quot;تدمير من يدمرونquot; هو واجب البشرية، وإذا كانت الجريمة مفزعة فإن السماح باقترافها هو الرعب الأكبر كما يقول فيكتور هيجو. إن حق التدخل الإنساني حق غير مكتوب، ومعقد فكريا، وليس سهلا الدفاع عنه دبلوماسيا، ولكنه، مع ذلك، يجب أن يمارس عندما يتهدد مصير شعب من الشعوب. كان الردع خلال الحرب الباردة ردعا محددا وثنائي القطب، كالردع النووي أو الكيميائي، أما ما بعد الحرب الباردة فيجب الانتقال إلى quot;الردع الإنساني الكونيquot;، أي quot;الحرب الإنسانية.quot;إن 11 سبتمبر قد كشف هذه الحقائق، وإن الانقسام الحقيقي في الغرب ليس بين معسكر الجرب ومعسكر السلام، بل بين المتخلفين عن استيعاب دروس 11 سبتمبر من دول وساسة ومثقفين، وبين الذين أيقظتهم تلك التفجيرات واستخلصوا الدروس والعبر منها.
لقد أحدثت فرنسا وألمانيا شرخا بين دول الأطلسي بنقدهما العنيف للموقف الأميركي ولحد أن دوفيلفان، وزير خارجية فرنسا عهد ذاك، راح يطرح المسألة كما لو كان هناك معسكران غربيان، أحدهما يحترم الشرعية الدولية والاعتبارات الأخلاقية ويريد تعددية الأقطاب، وهناك من يريدون الانفراد بالقرار والهيمنة، قاصدا الولايات المتحدة. ويذكر غلوكسمان انه حضر مع لفيف من رؤساء تحرير الصحف مؤتمرا في وزارة الخارجية، راح الوزير خلاله يعيد هذا الطرح مرة بقوة ومرة بلباقة، ولما انتهى المؤتمر خيم الصمت، باستثناء صحفي راح يزايد ويطلب قطع العلاقات مع واشنطن، في حين أن الآخرين، طالبوا بالتأني والانتظار؛ وفيما كانت خطب التوبيخ الفرنسية هذه تفرقع، حدث غير المتوقع، إذ أصدرت ثماني دول أوروبية بيانا ينتقد الموقف الفرنسي ويؤيد الموقف الأميركي، وكانت في مقدمة الثماني بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا.
يقول المؤلف إن تقدم التصنيع العسكري يستغله الإرهابيون والأنظمة الدموية quot;السيئة السلوكquot; لممارسة العدوان على الشعوب، وإن غريزة العنف الكامنة في الإنسان تتحول إلى قوة تدمير شامل وعدوان عندما تسيرها أيديولوجيا منغلقة، معادية للحضارة، والحرية وحقوق الإنسان.
إن من يحرر شعبا لا يقدم حسابه أمام المتخلفين عن نصرة ذلك الشعب، بل يكون الحساب أمام غيره من المحرِرين، [ بكسر الراء] وأمام الشعب المحرَّر [ بفتح الراء المشددة.] إن من يرفض حربا لا يمكن تجنبها سوف يخسرها. إن الإرهاب، والتعذيب، وتشريع الرق جرائم ضد الإنسانية، فعلى الإنسانية أن تتدخل لوقفها ومحاسبة المقترفين. إن الإرهاب، كما يقول المؤلف، ليس بدعة أميركية، وإن واجب التدخل ليس واجبا أميركيا وحسب.
ب ndash; السيادة والاستقلال:
إن الحكومات المستبدة قد استغلت عنوان السيادة والاستقلال لتدمير شعوبها حتى صار الاستبداد الدموي يقترف بكل استقلالية وباسم السيادة. إنها تحول حق الشعوب في الاستقلال إلى حق أية حكومة في اقتراف المذابح والانتهاكات الجماعية، ولذا فعلى المجتمع الدولي أن لا ينظر لمفهوم السيادة والاستقلال من منظار الأنظمة الشمولية التي تهدد شعوبها وجيرانها، وتسعى فوق ذلك لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، كنظام صدام.
ج ndash; مجلس الأمن:
إن مجلس الأمن لم يقم دائما بواجبه الإنساني، ووفقا لجوهر ومبادئ ميثاقها، لنصرة شعوب تتعرض للإبادة، كما حصل في رواندا، وفي كمبوديا حين سيطرة الخمير الحمر، وكذلك سكتت عن عمليات التطهير العرقي في البوسنة وكوسوفو، مما اجبر أميركا وحلف الأطلسي للتدخل العسكري، ونضيف ما يجري في دارفور رغم اتخاذ بعض القرارات، ولكن النظام الإسلامي في السودان مستمر في عمليات التطهير والإبادة.
إن مجلس الأمن ليس حكومة عالمية بل مؤسسة دولية تجمع دولا ذات مصالح مختلفة، والدول الخمس الكبرى لها حق الفيتو، مما يسمح لدولة أو دولتين بتعطيل أي مشروع قرار، كما هو موقف روسيا من كوسوفو، ولذا فإن quot; المبالغة في مراعاة مجلس الأمن قد تقتل شعوبا.quot;
إن مجلس الأمن، وبرغم قرارات هي أكثر من عشرة ووفق الباب السابع، عدا ما يخص حقوق الأقليات والإنسان [؟؟!!]، بقي عاجزا عن التصدي الحازم لنظام البعث وإرغامه على تنفيذ القرارات الدولية، وذلك جراء مواقف فرنسا وألمانيا بوجه خاص مما شل المجلس. ويرى المؤلف أن المجلس ربما كان سيحول بين نشوب حرب فيما لو اتخذ قرار إنذار صارم وحاسم، يطالب صدام بالتخلي عن السلطة وبدون ذلك فإن المجلس سيستعمل حق استخدام القوة وفقا للفصل السابع من الميثاق الدولي.
بناء على كل ما مر يكتب المؤلف ما يلي:
quot; هذه، يا أصدقائي السلميين الأعزاء، هي أسباب أنني ليس لدي أي تردد لشكر انجلترا وأميركا، وجنودهما، وحكومتيهما، للتدخل ضد صدام حسين.quot; [ ص 96 ]

2 - موضوع الأسلحة:
لا يناقش المؤلف موضوع الأسلحة ولكنه يتفق مع الحكم القائل بأن صدام كان أكثر أسلحة الدمار الشامل خطرا وتدميرا، وقد سبق لنا مرارا قبل الحرب وبعدها التوقف تفصيلا لدى قرارات مجلس الأمن عن الأسلحة، ومناورات النظام العراقي لعرقلة التفتيش ولحد طرد فريق التفتيش. إن قضية أسلحة الدمار الشامل الصدامية لم تكن من اختراع أميركا بل إن مجلس الأمن كله هو الذي كان يشك بوجود الأسلحة وبرامج صنعها، فضلا عن أن ذلك النظام استخدم فعلا الكيميائي، وأنذر إسرائيل بquot;الكيمائي المزدوجquot;، وفي 1995 كشف حسين كامل في عمان بعد هروبه وجود كميات كبيرة من الأسلحة الجرثومية، وقد اضطرت الحكومة لأخذ فريق المفتشين لمزرعة خارج بغداد وكشف مخابئ تلك الأسلحة، مدعية أن حسين كامل كان وحده مسئولا وقد أمر بصنعها من وراء ظهر صدام ومجلس قيادة الثورة!.
لقد وصف بتلر، الرئيس التنفيذي السابق للجنة المكلفة بإزالة الأسلحة العراقية المحظورة، سلوك النظام العراقي عهد ذاك بأنه quot;لا يزال قائما على النفي والإخفاء، ثم الاعتراف بأقل ما يمكنquot;، [ الحياة عدد 11 تشرين الأول 1998 ]؛ أما عن النووي، فكان المجلس كله يشك بوجود برنامج لصنع السلاح النووي، وإن لم يكن متطورا كما حال البرنامج الإيراني اليوم.
3- الخلاصة:
كانت إزاحة النظام المنهار مطلبا شعبيا ووطنيا عراقيا، سوى أن قدرات المعارضة كانت محدودة جراء الاضطهاد الدموي، وبالتالي كانت عاجزة عن التحرير لوحدها، وهذه حقيقة قيلت عشرات المرات قبل الحرب وبعدها. من ناحية أخرى كان من مصلحة الولايات المتحدة إزاحة النظام لعدة أسباب تمس الأمن القومي أولا.
إن الحرب نشبت لأن صدام، وعدا الاضطهاد الفاشي للشعب، كان يهدد حلفاء واشنطن في الخليج وإسرائيل، ويعرض للخطر تدفق نفط الخليج للأسواق العالمية، أما القول بأن الحرب جرت من أجل إسرائيل حصرا فباطل، وقد نسب عنوان تقرير أخير في إيلاف إلى الرئيس العراقي جلال طالباني قول أن الحرب نشبت من أجل إسرائيل، غير أن من يقرأ تصريح مام جلال لا يجد مثل هذا الحصر، بل يعدد مخاطر صدام على الكويت والسعودية وممرات النفط الخليجي،، وإسرائيل، بجنب اضطهاد الشعب العراقي.[ نقطة ضوء: إن وضع عناوين كهذا يتكرر مع الأسف في إيلاف، وآخر مثل العنوان التالي يوم 27 ديسمبر: quot;الإعلام الأميركي يودع بوش طاويا أسوأ لفترات بتاريخ السياسة الخارجيةquot;. هذا عنوان لتقرير يلخص مقابلة تلفزيونية مع وزير الخارجية رايس تدافع فيها عن قرارات إدارة بوش].. هنا لخصنا أهم أفكار الكتاب ولم نتطرق لجوانب أخرى سبقت الكتابة عنها مرات. [ 29 ديسمبر2008 ]