تعود أصول نظرية (نهاية التاريخ) إلى محاضرة ألقاها فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama(المواطن الأمريكي من مواليد عام 1951،) في معهد النظرية الديمقراطية التابع لجامعة شيكاغو عام 1989. ليتم نشرها على شكل مقال في مجلة The National Intrest, Summer 1989 تحت عنوان: The End of History،و بالتالي تطويرها في كتاب حمل اسم (نهاية التاريخ و خاتم البشر) عام 1992. وتقوم الفكرة الرئيسة لديه، حول موضوعة الصراع الأيديولوجي الذي نال العالم، والهزائم التاريخية التي نالت من مجمل لأيديولوجيات التاريخ؛ الملكية المطلقة، النازية، الفاشية، والسقوط الذي تعرضت له الشيوعية أخيرا، فيما قيض للديمقراطية الليبرالية من البقاء والصمود. وعلى هذا فإن الخلاصة التي ينتهي إليها فوكوياما، تقوم على أن (الديمقراطية الليبرالية تمثل نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري) ص 8، غير أنه يعمد إلى تقديم سلسلة من الاستدراكات المتطلعة نحو توسيع مجال الاحتمال وليس تضييقه، بدليل إشاراته القائمة على:
1. أن هذا التطور (قد يشكل) نقطة النهاية.
2. أن الديمقراطية الليبرالية (قد يمكن القول أنها خالية من التناقضات الأساسية).
3. النظم الديمقراطية الراهنة، ليست خالية من العيوب والظلم والمشكلات الاجتماعية الخطيرة.
4. سوء تطبيق مبدأي (الحرية والمساواة).
5. (لا يمكن أن نجد أفضل من الديمقراطية الليبرالية، مثلا أعلى) ص 8، حيث الإقرار النهائي بالأفضلية على الباقي من النماذج.
القوام النظري الذي يميز جهد فوكوياما الفكري، يقوم على الانطلاق من مسألة الطريقة التي يتم فيها التعامل مع مفهوم التاريخ، و الذي يرى فيه (وعيا يقوم على عمليات التطور المستمر لمجمل الفعاليات البشرية)، وليس باستناد إلى القوام الحدثي الذي يسند إليه فعل التورخة.إنه البحث في العلاقات الواعية التي جسدها العنصر البشري على مدى تاريخه، للانتقال من المرحلة البدائية نحو الحداثة، حيث الاستناد إلى التجليات النظرية التي أسس لها الفيلسوف الألماني هيغل، الذي يشير إلى أن نهاية التاريخ تقوم على سيادة الفكر الليبرالي، وتنظيرات كارل ماركس حول نهاية مسيرة التاريخ البشري، والتي تقف عند قيام المجتمع الشيوعي.إنها النهاية المتعلقة بالرؤى الأيديولوجية والتصورات التنظيمية الرئيسة، فيما تبقى التفاعلات الإنسانية قائمة ومستمرة، وغير قابلة للنهاية أو التوقف. والخلاصة النظرية التي تميز جهد فوكوياما إنما تقوم على فرضية التجسيد لمبادئ الديمقراطية الليبرالية، التي يتوجه نحوها العالم الراهن، باعتبار الاستناد إلى عاملين أساسيين؛ (النشاط الاقتصادي الفعال) و (توكيد القيمة الذاتية)، هذا الأخير الذي يتم استعارته من توزيعات أفلاطون الذي حدد قوى الروح بـ (الغريزة، العقل، القيمة الذاتية Thymos)، والذي اعتبره هيغل مرتكزا أساسيا في تقعي مسار التاريخ البشري، لتوكيد آدميته، من خلال صراعاته،و مخاطراته، وتعزيز مجال سيادته وسطوته، والبحث عن المنزلة والمكانة الخاصة، حيث المسعى نحو تطمين الحاجات الروحية، وليس المادية.
القيمة الذاتية
الاعتماد على مبدأ التقدم في تفسير التاريخ، كان قد اصطدم بالجملة من التفاصيل التي ميزت موجهات العلاقات الدولية، في العصر الذي قيل عنه بأنه تتويجا للعقل والتحديث، فكانت الإشارات تترى حول الحربين العالميتين، والصدامات الدموية التي شهدتهما، وبروز الأنظمة الشمولية والدكتاتورية في أعقاب صعود العسكر إلى السلطة، وما رافقه من قمع وتنكيل للشعوب،، لكن خلف هذه الصورة القاتمة والمعتمة تبقى دالة الموجهات التي تدعو للتفاؤل بالتغيير تبقى قائمة ومشجعة نحو التحول الليبرالي الديمقراطي، هذا بحساب، حالة التطلع الواسع نحو تفيل مجال اقتصاد السوق حيث حرية التنافس في التبادل التجاري، وحالة التساقط التي راحت تشهدها الأنظمة التوتاليتارية. وبوتيرة ملفتة للنظر.
هل يمكن الاكتفاء بالمنهج التجريبي لتفسير التاريخ، هذا بحساب حالة التطور التي شهدتها علوم المنهج التجريبي في السيطرة على الطبيعة، حتى تبدى الإنسان و كأنه قادر على صناعة قدره، باعتبار حالة الوضوح التي شملتها مجمل الفعاليات استنادا إلى ؛ (التوسع في النمو، تنامي التراكم، وضوح الأهداف). فيما يفصح الواقع عن الحضور الطاغي لأثر الطبيعة. لكن فوكوياما يركز على أهمية الدور الذي لعبته الثورة التقانية وما ترتب عنها من تطلع واسع نحو التحديث، الذي راح يتوسع في العالم، ما يترتب عنه من تطورات تسير نحو التطبيق لمدركات الرأسمالية، بناء على المدركات المباشرة والتي تمثلت في:
1. دور التقانة في توفير التسليح الحديث، والذي يوفر الوسيلة الناجعة في صيانة السيادة للدولة.
2. التنظيم الاقتصادي القائم على عنصري؛ الوظيفة الأدائية، و الكفاءة.
3. فسح مجال التراكم للثروة، وما يترتب عنه من إشباع للحاجات المادية للإنسان.، وتوفير مناخ التفاعل الاجتماعي.
4. حالة التفاعل العالمي مع المعطيات الحديثة وتمثلاتها المستندة إلى؛ الدولة القومية، نشوء المدن، ضمور العلاقات التقليدية من قبيلة وطائفة، الإيمان بالكفاءة الشخصية، تعميم التعليم الحديث،
5. سيادة منطق السوق العالمي، حيث التنافس الحر والبحث عن الربحية.
6. شيوع منطق ثقافة الاستهلاك.
7. هيمنة وطغيان دور الثورة المعلوماتية والاتصالية في تغيير نمط العلاقات العالمية، حيث العولمة والقرية الكونية، والوسائل المتمثلة في الإنترنت و القنوات الفضائية.
محرك التاريخ
تعكس النظرة إلى البلدان ذات التجربة العريقة في التطبيق الديمقراطي، عن ارتفاع معدلات النمو وتوسع النشاط الصناعي فيها، لكن التجارب التاريخية كانت تشير إلى إبراز البعض من النماذج التي تتقاطع مع هذا القول، حيث تعكس التجربة اليابانية في عهد الميجي، والألمانية في عهد بسمارك، عن تطور التصنيع من دون التطبيق الديمقراطي، فيما تمكنت البعض من الأنظمة الشمولية من تحقيق نسب معدلات نمو عالية بزت بها البعض من البلدان الديمقراطية، ومن هذا فإن الأمر لا يقوم على شكل التطبيق، بقدر ما يستند إلى الآليات التي تحكم العلاقات والوعي السائد، هذا باعتبار بنية التنظيم السائدة، والقائمة على الجهاز الوظيفي المنضبط، والعمل النقابي الذي يشكل هوية الانتماء إلى العمل، والتفاعل مع مفهوم العمل بوصفه مسؤولية أخلاقية و جزء أصيل من مكونات الثقافة. ومن هذه المعطيات يكون الوقوف على الفكرة القائمة على أن محرك التاريخ لا يقوم فقط على القوى المادية، بقدر ما يقوم على أهمية عامل توكيد القيمة الذاتية، هذا العامل الذي كان له الأثر البالغ في ترسيم معالم تاريخ العلاقات البشرية، فعلى الرغم من توجه الإنسان البدائي نحو محاولة إشباع غرائزه الرئيسة في الطعام والمأوى والمسكن، إلا أنه كان على استعداد للتضحية بحياته في سبيل الحصول على توكيد (قيمته الذاتية) والمنزلة الخاصة، و ما ترتب عليها من نشوء أولى العلاقات الإنسانية التي راحت تقسم المجتمع إلى سيد وعبد، وما ترتب عنها من صراعات قوامها المحاولات الدائبة من قبل العبيد من أجل توكيد (القيمة الذاتية)، أو المحاولات الدابة من قبل السادة أنفسهم في سبيل توكيد (القيمة الذاتية) داخل مجتمع السادة، حتى كانت الصراعات والتنافس والحروب، ليعمد فوكوياما إلى استعارة هذا المفهوم عن هيغل، ليؤسس إلى الفكرة القائلة، بأن (توكيد القيمة كانت بمثابة المحرك الفاعل والرئيس في توجيه التاريخ). وهو لا يتوان من تقديم أهمية الثورة الأمريكية 1776، على الثورة الفرنسية 1789، في إبراز مجال التحول التاريخي للعلاقة بين السادة والعبيد، حيث المساواة بين الموطنين، والعمل على ضمان الحقوق المدنية والدستورية.
مفهوم الليبرالية
يقف فوكوياما على أعتاب التمييز في صلب مفهوم الليبرالية من حيث تفاعلاتها في المجالين (الاقتصادي، السياسي)، وإذا كان الفاعل الاقتصادي تتمايز مفاصله من خلال الفعالية العقلية الساعية نحو تحقيق إشباع الحاجات الرئيسة من خلال تحقيق مجتمع الرفاهية(وهذا ما يميز موجهات المدرسة الأنكلو سكسونية) فإن هيغل يبقى مؤكدا على أهمية (القيمة الذاتية) في رسم موجهات التحول التاريخي، لكن فوكوياما يتوقف عند حالة التفاعل التي تبرزها مقومات مجتمع الرفاهية وما ينجم عنه من متطلبات تقوم على ما يفرزه سياق العلاقات الجديد، والمستند لا على تحقيق المزيد من الأرباح والثروة، بقدر ما يكون التطلع نحو توسيع الرأسمال الرمزي والبحث عن توكيد القيمة الذاتية و السعي إلى التميز والاستقلال.
كيف تنجح الديمقراطية، سؤال يطرحه فوكوياما، ليجد الإجابة وقد سارت بعيدا عن مسار العقلانية والمادية الذي ميز مسار الفعاليات الليبرالية.حتى أنه في معرض الإجابة يضع ترسيمة شديدة المباشرة قوامها:
1. الولاء لمفهوم الديمقراطية بوصفه قيمة عليا.
2. تفعيل دور الجماعات الصغيرة، المنضوية ضمن مفهوم التقدير للعمل.
3. اعتبار العمل قيمة عليا، ومفهوم أخلاقي.
4. أهمية ترسيخ مفهوم القيمة الذاتية ونيل التقدير، وغرسه في صلب الرؤية الديمقراطية.
والواقع أن ما يطرحه هنا إنما يتطابق مع طروحات ماكس فيبر في (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) فيما الفرق الوحيد أن التوصيف لديه يقوم على الديمقراطية، فيما يكون لدى فيبر الرأسمالية، لكن فوكوياما يضرب صفحا عن ذكر فيبر، ويتوجه بالمرجعية الفكرية للنهل عن هيغل.
نذر المستقبل
يعيش العالم لحظات الرعب والقلق حول موضوعة المستقبل، ويأتي هذا الرهاب في ظل المجمل من العلاقات المتداخلة التي تفرضها الأنظمة الشمولية وطريقة العسف والظلم الذي تمارسه بحق مواطنيها، وتصاعد موجة أيديولوجيات التعصب وتنامي العداء بين الثقافات بشكل ملفت. فيما بلغت الصدامات مداها، حيث التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي راحت تنتشر تفاعيلها في أكثر من قارة. و تأتي مسألة الرواج للروح الاستهلاكية لتزيد من أعباء المجتمعات وعلى مختلف الحقول والقطاعات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث إفراز العواقب التي تتمثل في ترسيخ التبعية لبلدان الهامش.فيما تبرز المشكلات الكبرى، تلك التي راحت تتمثل في مجال الطبيعة إلى الحد الذي بات يجد نفسه وجها لوجه مع القدر. فبعد أن راح يتفاخر بأنه استطاع أن يحقق مبدأ السيطرة على الطبيعة، من خلال المنهج التجريبي، وتلاحق الابتكار والاختراع والتصنيع، بات اليوم في أشد حالات عجزه بإزاء ثقب الأوزون والاحتباس الحراري، فيما تبقى الخشية قائمة من سباق التسلح والخشية العارمة من شتاء نووي قد يتم من خلاله القضاء على الكوكب.
الشمولية
إذا كانت الدولة بمفهومها الدستوري تقوم على الاستخدام المباشر للعنف المنظم من أجل إدامة زخم العلاقات العامة، فإن الشمولية راحت توجه هذا العنف من خلال جعل المؤسسة الأمنية في خدمة النظام، بل أن تلك المؤسسة سيتم تفعيلها بالضد من مجمل المصالح، والسعي نحو تركيز دورها في المعاقبة والمراقبة المباشرة، لتتصدر صورة المشهد نموذج الدولة البوليسية، فيما تتشكل ملامح التعبئة الجماهيرية، من خلال تحييد دور الجماهير والسعي إلى جعلها أدوات ووسائل، لا دور لها سوى رفع الشعارات المؤيدة. إنها أيديولوجيا السيطرة والهيمنة المباشرة، تلك التي تبدت في ممارسات الحزب النازي في ألمانيا الذي استثمر فرصة الحياة الديمقراطية، ليعمد إلى تسلق السلطة وبالتالي الانفراد بها، وجعلها وسيلة للتجييش، وهو القمع الذي مورس من قبل ستالين بحق الفئات المعارضة لتوجهاته، تحت دوى حماية مكتسبات المجتمع الاشتراكي.والواقع أن الأنظمة الشمولية إنما هي تمثيل للوجه المعكوس لفكرة الحداثة، أو الصورة المادية منها، باعتبار توجيه التفوق التقاني في خدمة الأهداف الخاصة بالنظام، حيث السعي لامتلاك الأسلحة الحديثة والمتطورة، لتركيز مجال القوة، والعمل على استخدام هذا السلاح بالضد من المناوئين.
العالم في خضم المواجهات
قيض للغرب أن يزحف نحو العالم، بعد أن تمكن من استنهاض قواه المادية والفكرية، فكان للتحولات التاريخية الكبرى التي شهدتها أوربا وعلى مجمل القطاعات (نهضة فكرية وفنية، إصلاح ديني، كشوفات جغرافية، تطوير السلاح)، دورها في رسم ملامح صورة المستعمر، تلك التي بقيت قابلة للتداول حتى الحرب العالمية الثانية، وصولا إلى نشوء الحرب الباردة بين القطبين، ليتم ترسيم ملامح صورة الغربي بوصفه مدافعا عن العالم الحر، بإزاء عالم الشمولية والأنظمة الدكتاتورية الراديكالية. و فوكوياما يتوقف عند مفصلين جوهريين، في سياق توصيفه لعلاقة الغرب مع العالم غير الغربي، حيث يتبدى المفصل الأول، حين يعتمد أسلوب تمرحل العلاقة، من (سادة مستعمرين، حماة في الحرب الباردة، أندادا من الناحية النظرية) ص 24، لاسيما بعد ظهور الدولة الوطنية وقيام مشروع الاستقلال القومي في منصف القرن العشرين. فيما يتمثل المفصل الثاني في حالة التعدد في أهداف التاريخ البشري، بحساب تعدد توجهات وغايات الأنظمة المختلفة، تلك التي راحت تؤسس لهويتها الحضارية في أعقاب حصولها على الاستقلال، ليشير (وليس للديمقراطية الليبرالية بينها أي وضع متميز). ص 25.
شموليتان لا شمولية واحدة
تبرز أهمية التمييز في الأنظمة الشمولية، فإذا كانت موجهات النظر قد ركزت على صورة النموذج الذي يمثله النظام السوفيتي بحكم المواجهة خلال الحرب الباردة، وطريقة تحكمه الدقيق بالسلطة، والهيمنة الكلية على مفاصل النظام، وتركيز الدور في مجموعة تحتكر السلطة باسم الأيديولوجيا وتقديمها على أنها مثل أعلى، والإفادة من التوزيعات والتنظيمات الحديثة، فإن التمييز في الشمولية يعد من المسائل الضرورية في الجانب، فإذا كان هناك النموذج الشمولي الساعي إلى السيطرة على نظام القيم، فإن الأنظمة الدكتاتورية تتوجه بمجمل قواها نحو حماية مصالح النظام، من دون المساس بمنظومة القيم والعقائد السائدة.إنه الحد الفاصل الذي يجعل من الأنظمة الدكتاتورية تسعى للنهل عن الشمولية، في سبيل حماية مصالحها، بإزاء الإعراض عن الديمقراطية الليبرالية، تلك التي يمكن أن تشكل تهديدا لصورة الستار الحديدي. والوقع أن شرعنة الدكتاتورية كانت من الحضور بمكان، أن توجهت نحو العمل على توفير الرعاية الصحية وتعميم التعليم، والحرص على الأمن، إنها صورة الصالح العام، تلك التي راح المواطن يتلمسها، ضمن إطار التوجيه والضبط، لكن الملامح الوهن تبقى تعتاش في صلب هذا الهيكل، الذي يتبدى في أشد حالاته حضورا، فالأزمة تبقى تستعر داخل مضمون الشرعية ذاتها، باعتبار التوقف عند المدركات الذاتية للأفراد من حيث رؤاهم وتصوراتهم ورهاناتهم وقناعاتهم،، وإذا كان القوة قد مثلت سبيلا للسيطرة والتحكم، فإن هذا الحال لا يمكن أن يستمر مع توجيه أمة بأسرها، ومن هذا فإن فوكوياما، يتوقف عند مقولة سقراط: (حتى في عصابة اللصوص، لابد من توافر العدالة في تقسيم الأسلاب)، باعتبار أن الدكتاتور وهما بلغ فيه البطش والقمع، فإن لا يمكن له أن يستمر من دون أن يكون لديه جماعة مؤمنة بشرعيته.
الليبرالية ndash; الديمقراطية
يتوقف فوكوياما عند موضوعة الفصل بين المفهومين، الليبرالية بوصفها فكرا، والديمقراطية ممارسة، حيث الإشارة إلى العديد من النماذج التي قد تعمد إلى الممارسة الديمقراطية، من أن تعتقد بالفكر الليبرالي، ومن واقع حالة الارتباط ما بين النشاط الليبرالي الاقتصادي نحو التنافس على الأسواق، فإن مفهوم الرأسمالية قد تعرض للمزيد من التحميل السلبي، مما جعل التداول الخطابي أن يتوجه نحو استخدام مصطلح السوق الحر، فيما يبرز السؤال حول النشاط الاقتصادي، وثنائية القطاعين الخاص والعام، ومدة مساهمة دور الدولة في التوجيه والسيطرة والتنظيم.، والواقع أن التحولات العالمية كان لها الأثر البارز في تفاقم هذا السؤال، حيث الإشارة الدائمة إلى مشكلات الانتقال في التنظيم الذي عانت منه منظومة دول أوربا الشرقية، أو صورة النظام السياسي في دول شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية. والواقع أن التوجه الذي يميز قسمات التفاعل العالمي، إنما يقوم على تركيز مبدأ السيادة، باعتبار تحمل أعباء المواجهة مع الفكر الزاحف. ولكن عبر استخدام الوسائل الديمقراطية(حتى غير الديمقراطيين يضطرون للحديث بلغة الديمقراطية من أجل تبرير خروجهم على المعيار العالمي الأوحد) ص 56.
يتوقف فوكوياما عند الإسلام بوصفه نموذجا يقوم على العدالة والجاذبية العالمية، لكنه يعالج حالة المواجهة بين الإسلام والغرب، بتمييع يخلو من الحسم، باعتبار استحضار المواجهة التي تمت بين الغرب والعراق في أعقاب غزو الكويت عام 1990 حين يصف تلك المواجهة(وهو ما قيل عن حق أو غير حق إن الإسلام كان أحد عناصره) ص 56. فيما يبقى متوقفا عند حالة التقاطع في السياق الثقافي، باعتبار أن الصحوة الإسلامية إنما ترتبط وبوثوق من الخشية المفرطة من زحف القيم الغربية على القيم التقليدية الإسلامية.من دون التعرض لمجمل السياقات المرتبطة بها. وهو لا يتوان من فسح أفق التوقع حول الإمكانية المتاحة في مجال التحول، والتي يحصرها في؛ (توفير المأوى، العناية بالأقليات، العناية بحقوق المرأة، تعزيز روح التنافس، فسح فرص التوظيف). لكن هذه الإمكانية تبقى عرضة للتوقف بل والتدهور في ظل تفاقم أوضاع الصراعات العرقية والطائفية، ونشوب الحروب والمنازعات، و تدهور الأحوال البيئية.
وتبقى الممارسة الديمقراطية خاضعة للظروف المحيطة، على الرغم من القوة والعافية التي تبدو عليها، وليس أدل من الإشارة إلى أزمة الثلاثينات، إن كان في الأزمة الاقتصادية العالمية 1929-1933، أو تنامي المد الفاشي والنازي في وسط أربا، وصولا إلى الحرب العالمية الثانية. فيما تأتي أزمة نهاية الستينات والسبعينات التي يوردها فوكوياما في ؛ (حرب فيتنام، فضيحة ووترغيت، الأزمة النفطية، الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية. وعلى هذا فإنه لا يستبعد احتمال الظاهرة الدورية في التوجه نحو التطبيق الديمقراطي.
لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين
ينطلق فوكوياما من فكرة الربط بين الديمقراطية والاندماج في تفاعلات السوق الحرة، باعتبار قدرتها على توفير المناخ الملائم نحو توكيد حرية الدولة وتفعيل مجال المشاركة السياسية. ومن هذا فإنه يعمد إلى ترصد أربعة نماذج سياسية، أولها أسبانيا والتي ارتبطت تجربتها الديمقراطية بارتفاع معدل التعليم، والتوجه منذ العام 1958 نحو الاندماج في السوق العالمي، مما قيض لها أن تحقق معدلات نمو مرتفعة. وكان للتحولات الاجتماعية قد تبدت في توسع المدن، تلك التي ترافقت مع زيادة معدلات التعليم، وارتفاع دخل الفرد وسيادة النمط الاستهلاكي، مما كان الدور في تمهيد الطريق نحو فسح المجال أمام التعددية، و توكيدا لحالة الربط بين ارتفاع معدلات النمو والتطبيقات الديمقراطية، فإن فوكوياما لا يتردد عن اقتباس مقولة لوريانو رودو وزير التنمية الاقتصادية في عهد الجنرال فرانكو (أسبانيا ستكون مهيأة للديمقراطية بوصول متوسط دخل الفرد إلى 2000 دولار) ص 109.
على صعيد قراءته، للنموذج الآسيوي، فإن التوقف يتم عن التجربة اليابانية والتايوانية و الكورية الجنوبية، حيث التركيز على أهمية دور التعليم في إعداد الكوادر القادرة على تمثل القيم الديمقراطية، وعلى صعيد تجربة جنوب أفريقيا فإن التركيز على تنمية التعليم كان له المساهمة الفاعلة في خلق الكوادر القادرة على استلهام واستيعاب منطق التحولات التاريخية، تلك التي بدأت ملامحها منذ العام 1970 حيث تم الاعتراف بنقابات العمال السود، وصلا إلى العام 1990 وخطوة دو كليرك في المصالحة مع الزعيم نيلسون مانديلا. ولا يغف فوكوياما عن إسقاط ذات العوامل على الاتحاد السوفيتي، حيث التتبع للانتقال من المجتمع الريفي نحو الحضري، والنمو الكبير في معدلات التعليم والحصول على الكوادر والخبرات، تلك التي شكلت المناخ الملائم للتغير والتحول.وتبقى منطقة الشرق الأوسط تنأى بنفسها عن التغيير الحقيقي والعميق نحو التطبيقات الديمقراطية، باعتبار أن التغير وارتفاع معدلات الدخل، إنما ارتبطت بالريع النفطي، وليس بناء على التغيرات المستندة إلى العمل. ص 111.
لم نصل إلى نهاية التاريخ
هل يمكن الاكتفاء بالنظر إلى ما هو ظاهر للعيان، والعمل على تجاهل التناقضات، وهل يمكن القول وبثقة لا لبس فيها بأن الليبرالية الديمقراطية تمثل النهاية القطعية لمجمل التطور في مسار تاريخ الفكر البشري.كيف يمكن الوثوق بأن نظاما ما، يمكن أن يتم من خلاله ضمان السلام وتعزيز الحرية والمساواة بين الناس، وما هي الضمانات التي تؤكد على أن القوى الفاعلة فيه لن تتحول إلى قوى ضاغطة، تعمل في سبيل مصلحتها الخاصة، من يستطيع أن يحدد الطريقة التي يمكن من خلالها فهم الطبيعة البشرية، وما هو النظام الاجتماعي الذي يمكن أن ينال الرضا والقبول.وتاريخ البشرية يبقى يشير دائما إلى حالة التنافس المستمر، سعيا للحصول على التفوق، إن كان عن طريق الحرب، أو إحراز النمو الاقتصادي، أو الاستناد إلى النموذج السياسي الفاعل.، وسيبقى التاريخ طالما كانت تتمايز ملامح القدرة على البقاء، والتكيف مع المتغيرات.
وصلنا نهاية التاريخ
بمعنى أن يقوم التحليل على أساس المنهج التجريبي، الساعي نحو تقديم الغريزة والعقل على حساب القيمة الذاتية، إنه الإطار الساعي نحو التخطي التاريخي، من خلال التأكيد على أنه يمكن أن يتم فهم الخصائص والسمات التي تميز الإنسان، ومدى تطابقها مع منظور الليبرالية الديمقراطية، ومدى تلبية هذا النظام لحاجاته الرئيسة.إنه المنطلق الذي يقول بأن طبيعة الإنسان ثابتة وحاجاته قد يبدو عليها التغيير والاختلاف، لكنها في المضمون تبقى واحدة.
[email protected]