(كل واقع يفرز حقائقه الخاصة) أفلاطون

كان للتبدلات الواسعة التي طرأت على النظام الاقتصادي في العراق، وذلك بدخوله نظام الإنتاج الاقتصادي الرأسمالي، إن طرأ تغيير واضح في نمط العلاقات السائدة. وكان لهذا التغير أن برزت آثاره بصورة جلية في قطاع الزراعة، لاسيما إذا ما أخذ بنظر الاعتبار السعة والأهمية والحجم الذي كان يحتله هذا القطاع في علاقات الإنتاج السائدة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وعلى هذا بدأت في البروز ظاهرة بالغة الأهمية، ممثلة في اتساع الهوة بين الشيخ والفلاح، اللذان يمثلان الأركان الأساسية في البنية الاقتصادية الزراعية، وإذا ما تركنا جانبا الأثر الحاسم الذي لعبه عامل الاندماج في السوق العالمية وانكباب الرؤساء العشائريون للحصول على الأرباح التي توفرها هذه الخطوة لهم، فإن من الضروري أن نقف إزاء العلاقات السابقة بين الشيخ والفلاح ومدى الترابط الوثيق الذي كان يجمعهما لاسيما على الصعيد الاجتماعي وهو بالتأكيد يمثل دالة عميقة الأثر في صياغة تأثير الأبعاد الأخرى. فعلى أدنى ما يمكن لنا أن نصله في وصف الوشائج التي كانت تربطهما، يتاح لنا القول أنها علاقات تلاحمية تقوم على الاعتماد المتبادل، والمسؤولية المشتركة، والروح الواحدة الحميمة، بل أن الشيخ في بنية المجتمع الفلاحي، يمثل دلالة عميقة الأثر في نفس الجموع الفلاحية، فهو الواجهة التي يطل من خلالها ذلك المجتمع نحو العوالم الأخرى، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار، المجال المحدود الذي كان يتحرك من خلاله ذلك المجتمع المتواضع. وسعة التواضع والبساطة هذه، لا نطلقها من باب التجني أو القفز على الحقائق، بقدر ما هي نتاج موضوعي للأوضاع الاقتصادية التي كان يعيش في كتفها الشيخ والفلاح على حد سواء. فلم تكن هناك ثمة فواصل أو تباين في نمط وأسلوب الحياة. فاقتصاد الكفاف يشمل الجميع بما فيهم الشيخ نفسه، إلا أن الفلاحين ولاعتبارات اجتماعية ونفسية صرفة، يعمدون إلى اقتطاع حصة من محصولهم، يقدمونها إلى دار الشيخ، انطلاقا من جملة مبررات يقع في مقدمتها العرف والتقاليد، لاسيما إذا ما أخذ بالاعتبار أن الشيخ يقع عليه الوزر الأكبر في توفير شؤون الضيافة للمارين في quot; الديرة (1)، إضافة إلى الالتزامات الكبيرة والعديدة التي يفرضها مركزه الأدبي والاجتماعي على صعيد أفراد قبيلته ذاتها أو القبائل الأخرى.
والسؤال الأكثر إلحاحا يتركز حول التبدل السريع الذي طرأ على العلاقة فيما بين الشيخ والفلاح، وهل يكفي فقط أن نشير إلى أن الشيوخ في سعيهم وتركيزهم على زيادة كمية المنتجات الزراعية المخصصة للتصدير، تحولوا من مكانتهم العزيزة والأثيرة والكريمة إلى سلطة قمعية تعسفية، لا هم لهم سوى الحصول على المكاسب المادية؟ وثمة سؤال آخر ينحصر في الضغوط التي خلقها نمو التبادل البضائعي للمنتجات الزراعية التي أدت إلى تعقيدات ومشاكل شائكة منها على سبيل المثال ارتفاع بدلات إيجار الأرض إضافة إلى التعقيدات التي خلفها تسرب رأس المال الأجنبي في السوق المحلية العراقية. وازدياد نفوذه. ثم ما هي المبررات التي تصل إلى درجة من الأهمية بحيث تجعل من القطاع الزراعي خاضعا لرأس المال الأجنبي إلى مستوى التبعية، وإذا كان عامل تقرير أسعار الشراء بالنسبة للحاصلات الزراعية قد جعل العديد من المناطق الزراعية تخضع لإنتاج محصول واحد، مما أسبغ على القطاع الزراعي في العراق صفة إنتاج الخامات الزراعية فما الذي منع العوامل الأخرى من الظهور على مسرح الأحداث. وعلى هذا يمكن لنا أن نستشف ودون كثير من عناء. أن هذه المرحلة قد عبرت وبوضوح لا يقبل اللبس، عن النوايا التي كانت تعتمل في نفوس الدول الرأسمالية إزاء المناطق الخصيبة، وبقدر تعلق الأمر بالعراق، فأن التجربة تختلف بين هذا البلد أو ذاك بحكم تباين التجربة التاريخية ومدى الاعتبارات والمخططات التي وضعتها عناصر الضغط من أجل تعزيز رصيدها الاقتصادي وبالتالي توطيد مركزها على أوسع رقعة جغرافية من العالم(2).
أن الواقع الذي كانت تعيش في كنفه الجموع الفلاحية، يتمثل في حالة فريدة من التنوع، حتى أنها تقود الدارس إلى تصورات قد تحمل بين ثناياها بعضا من سمات المبالغة. وعلى هذا، كان من الواجب التمييز بين المراحل الأساسية quot; الأهم quot; التي مر بها المجتمع الفلاحي في مراحل تطوره على صعيد نمط الإنتاج بدرجة التخصيص. فلابد لنا أن نميز بين مرحلة ما قبل دخول العراق نظام الاقتصادي العالمي، والمرحلة التي تلتها بكل حجم التحولات التي طرأت في الهيكل الاجتماعي وبالتالي رصد التأثيرات التي مكنت العلائق الجديدة من الهيمنة والبروز، وهي على أية حال حسبة تكون لصالح المرحلة الجديدة، لما لها من سعة وتنوع ومراكز نفوذ وقوة. واعتمادا على العلائق الجديدة التي أفرزتها مرحلة الارتباط بالسوق العالمية يعمد الدكتور وميض جمال عمر نظمي للإشارة إلى أنماط مختلفة ساهمت في رسم ملامح يصفها quot; بالتناقضات الجسيمة quot; في بنية المجتمع الفلاحي quot; فيشير إلى التباين الواضح بين فلاح الأراضي الديمية quot; الإرواء بمياه الأمطار quot; والفلاح الذي يعتمد الري بالواسطة(3). والتي تمثل استقلالية الأول بشكل نسبي إزاء تبعية الثاني للشيخ أو مالك الأرض بحكم امتلاكه لواسطة الري، وارتباطه بشكل مباشر به. إن تقويم مثل هذه العلاقة ينحصر إجمالا بالشكل العام الذي تقوم عليه العملية الإنتاجية والمدى الذي ينبع من إشكالية العلاقة التي تحددها مشكلة الأراضي والتناقضات المنبثة عنها. يضاف إلى ذلك الفروق الجسيمة التي بلغت نوع الإنتاج، فعلى سبيل المثال يمكن رصد تباينا واضحا بين زراع الحبوب وأصحاب بساتين التمور الذين يعتمدون على عملية المد والجزر التي تجري في شط العرب لإسقاء بساتينهم. كما تلمح بونا شاسعا في العلاقة القائمة بين الفلاح وملاك الأراضي وفلاحوا المجتمع العشائري وشيوخهم، والدالة هنا لا تحتاج إلى كثير عناء، فالمرتبية تكاد تتضح معالمها بشكل فاضح في النموذج الأول، إذ لا تخرج عن علاقة رئيس ومرؤوس أو عامل زراعي ورب عمل: أما في الثاني فهي تخضع لاعتبارات قيمية يحمل العامل الاجتماعي أثره الأكبر في ترسيمها وتخطيط معالمها الأشمل.
فالتكوين المتعدد للمجتمع العشائري جعل منه عالما يحفل بالمتناقضات فعلى الرغم من الوطأة التي كان يتكبدها الفلاح في ظل النظام العشائري، إلا أنه بقي وفيا بصورة مطلقة نحو تراثه الاجتماعي الذي يستند على التقاليد التي تفرضها الزعامة العشائرية، مما مكن الشيوخ توظيف هذه العلاقة لصالحهم. إن حالة التعميم التي يعمد إليها الدكتور شاكر مصطفى سليم، لا يمكن بأي حال من الأحوال الركون إليها في بحثنا هذا، فإذا ما أريد لنا تقصي بعض الافتراضات التي يقدمها، كان حريا بنا أن نقف إزاء التعميمات التي يطلقها بشأن نظام المشيخة كوحدة سياسية مستقلة، حيث يمعن في إضفاء مصطلح الإقطاع عليها، ويوغل أكثر حين يصف الشيوخ بالحكام المستبدين إذ يقول quot; فلقد كانت القوة كلها في مثل هذه الوحدات السياسية الإقطاعية quot;العشائرquot; مركزه بيد الشيوخ الذين كانوا بصورة عامة حكاما مستبدين يقبضون بأيديهم على حياة ومصائر أتباعهمquot;(4). كما أن إكساب الموضوع وجهة نظر أحادية الجانب يجعلنا نتخبط في متاهة كمن يريد الإمساك بظله، فلا يمكن البتة وتحت تأثير أي من العوامل الإقرار بأن نفوذ الشيوخ وسلطانهم جاء نتيجة لعامل الأمن الذي توفره العشيرة للفلاحين في ظل الحروب القبلية المستمرة والتي لا تكاد تنقطع.
من العسف أن ننصرف بكل ثقلنا، نحو تقصي مثالب الشيوخ وصب جام غضبنا على رؤوسهم واعتبارهم المسئولين عن حالة التخلف التي كان يعمه فيها المجتمع الفلاحي، إلا أن هذا القول لا يعني حجب الاتهام عنهم وتبرئة ساحتهم بصورة مطلقة. فهم في الواقع لم يقدموا شيئا ذا بال لتحسين وتطوير أساليب الإنتاج، كما أنهم استمرؤوا الحصول على حصتهم الثابتة اعتمادا على نظام المشاركة في المنتوج. وبذلك تحولت علاقات الإنتاج عن مسارها المطلوب، حيث أضحت أحد العوامل الأساسية التي أتاحت للأنماط المختلفة من الاستقرار والثبات والتأثير في المجتمع الفلاحي. ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى جملة من العوامل التي مكنت من تعزيز هذه الظاهرة يقع في مقدمتها، الجهل والتخلف اللذان كانا يتخبطان بهما طرفا العلاقة. إضافة إلى الفقر المدقع الذي كان يعم الحياة الاقتصادية في العراق إبان تلك الحقبة التاريخية. وإذا ما أضفنا عاملا آخر يتمثل بالسوء والفساد الذي كانت عليه الحكومة المركزية وتعاميها عن كل المتناقضات التي كانت تحدث أمامها دون أن تتحرك إزائها، إن لم نقل أن الكثير من الممارسات الفاسدة كانت تجري تحت علمها وبمباركتها. فإننا هنا نكون في موقف مشابه لمن يشعل مصباحا في رابعة النهار.
إن السياقات التي يفرزها الواقع أهم من أية ظاهرة قد يرصدها هذا الباحث أو ذاك، فـ لونكرك، يشير إلى أن تواضع الخبرة الفنية لدى الفلاح العراقي، أرغمه على تقبل المستوى المعيشي المنحط، ثم يخلص إلى أن ذلك الأمر أبقى وسائل الإنتاج لديهم بدائية، وجعلهم يتكيفون مع الأوضاع العامة البائسة(5). لقد كان الفلاح يقدم أقصى ما لديه في سبيل الحصول على قوت يومه فقط، وعلى هذا كان الظرف المحيط به، لا يتيح له أبدا التوجه نحو آفاق أوسع مثل تحسين الإنتاج أو بلوغ مرحلة إنتاج محاصيل متطورة تلبي حاجات السوق على صعيد الكم أو النوع، كما أن الفوضى والاضطراب قد انعكست بالتالي على المنتجات المعروضة مما أفقدها الكثير من الجاذبية في السوق التجارية. يضاف إلى ذلك أن جوهر العلاقات السائدة بين الفلاحين كمجتمع منتج والجهاز الإداري الممثل الرسمي للدولة العثمانية، كان يتركز حول محصلة أحادية الجانب تقوم فحواها وأنشطتها في تحصيل الضرائب، أي أن النفع كان يصب في محور واحد ممثل في المؤسسة الحكومية. وكان هذا الأمر يتم على حساب المجتمع الفلاحي كمجموع، في حين يمكن لنا أن نستثني فئة صغيرة من هذا المجتمع، استطاعت أن توطد مكانتها الاجتماعية والاقتصادية وتحكم السيطرة على منافذ العلاقة مع الوسط الخارجي المباشر، الذي يمارس الإشراف والهيمنة والنفوذ من خلال هؤلاء. وقد مكن التراث القيمي الاجتماعي هذه الفئة من تعزيز دورها لدى الطرفين في المجتمع الفلاحي منوطة بواجب الزعامة، لذا تجد مبررات البقاء والنمو. وبالمقابل نراها لدى المؤسسة الحكومية، تقوم بأعباء تنفيذ الواجبات، حتى أضحى أفراد هذه الفئة موظفين يعملون بالضمان وتكون حصتهم مقطوعة بقدر النشاط الذي يبذلون في مجال تحصيل الضرائب. لقد كان لهذه العلاقة المتداخلة أثرا بالغا في ترسيخ نفوذ هذه الفئة وهيمنتها واتساع سطوتها في الحياة الفلاحية. حيث شكلت فروقا واضحة في بنية العلاقات الاجتماعية السائدة من خلال تنامي دور العامل الاقتصادي وإبرازه الصراع الطبقي بين الشيوخ والفلاحين من أبناء العشائر.
ثم أن حدة الصراع لم تقتصر على محور واحد فقط، إنما تعدته إلى صراع بين ( الزعماء الشيوخ ) أنفسهم، فقد أرست علاقات الإنتاج نمطا جديدا، أسفر عنه وقوع حيف شديد على رؤساء الافخاد العشائرية إزاء شيوخ العشيرة الملاكين، وكان لهم أن يشعروا بهذه الوطأة، ويتعمق لديهم الشعور بالاستغلال انطلاقا من المكانة التي يشغلوها والتي تهيئ لهم الإطلاع على مجريات الأمور والأحداث بصورة مباشرة. حتى أن رفضهم قد أخذ شكلا مباشرا تمثل في المطالبة بحقوق تصرفيه في quot; الديرة quot; التابعة للعشيرة والتي فوضتها الحكومة العثمانية للشيوخ وملاكي المدن، ونتيجة لتفاقم حدة الصراع الذي نشب بين الملاكين والشيوخ من جهة ورؤساء الفروع العشائرية والفلاحين من الجهة الأخرى، أضحى من العسير على طرف الصراع الأول الوصول إلى الأراضي التي حصلوا عليها عن طريق التفويض، حيث استعانوا برجال الجندرمة العثمانية من أجل مباشرة مصالحهم فيها. والواقع أن النتيجة في المحصلة النهائية كانت لصالح الشيوخ الملاكين الذين وظفوا نفوذهم وعلاقاتهم القديمة في المجتمع الفلاحي، من أجل ترسيخ العلاقات الجديدة. لقد كان للعلاقات القديمة والمتمثلة فيما بين الشيخ والفلاح في إبراز شكلا واضحا لطبيعة الرفض الذي عبرت عنه جموع الفلاحين، فهي وعلى الرغم من حجم التناقضات والملابسات التي كانت تكتنف حياتها، نتيجة لعسف الشيوخ إلا أن ثورتهم كانت موجهة بالأساس نحو الملاكين الغرباء quot; أثرياء المدن quot; وهذا النزوع تفسره العلاقات القبلية التي تربط الشيخ والفلاح، فالوعي السائد لدى الفلاحين إبان تلك المرحلة التاريخية كان منبثقا عن مبرر أساسي يتمثل في الدفاع عن مصالح القبلية التي تمثل الوحدة البنائية الأهم في حياة الفلاح سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. فالقبيلة كانت تمثل بالنسبة للفلاحين الوحدة السياسية التي تستقطب أنشطتهم وتستوعب مدركاتهم وتصوراتهم الفكرية وهي البؤرة التي كانت توفر لهم الأمن والحماية والرعاية جراء طوفان الفوضى السائدة في ظل نظام سياسي مركزي ممثلا بالسلطات العثمانية، والتي لا هم لها سوى تعميق وجهة نظرها وتحقيق مصالحها. ولا يفوت علينا هنا الإشارة إلى أن الوعي الطبقي لدى الفلاح، لم يكن بعد قد تبلور أو أخذ شكله نحو النمو، إنما كان الارتباط فيما بين الفلاح وقبيلته قويا إلى درجة هائلة، مما مهد السبيل للشيوخ في ابتهال هذا الواقع وبالتالي النمو وتوسيع المصالح وممارسة الاستغلال على حساب طرف العلاقة الأول الذي أحس بالمتغيرات، إلا أنه وتحت وطأة سلاح التشهير الذي عمد إليه الشيوخ أرتضى النظام ولو إلى حين في سبيل البحث عن البديل، دون أن يسمح للقوى المهيمنة أن تنال من ولائه للقبيلة وتراثها القيمي القوى الجذور. وعليه يمكن لنا الإشارة إلى أن الانتفاضات العشائرية في الأغلب كانت موجهة نحو الملاكين من وجهاء المدن هذا من جانب، أما من جانب آخر فإن العلاقات الجديدة قد احتوت في مضمونها نموا لعلاقات جديدة، حيث أملت الظروف على الزعماء العشائريين والذين امتلكوا مساحات واسعة من الأراضي الاعتماد على ممثلين لهم بصفة وكلاء ضامنين للإشراف والمباشرة على الإنتاج وكان من المنطقي أن يتوجه هؤلاء نحو زعماء الفروع العشائرية وأصحاب المال الأثرياء(6)، بحكم قوة العلاقة وتماسك الرابطة ووحدة المصالح، فكان لهذه الفئة الجديدة النامية أن توجهت بقوة نحو استغلال الفلاحين من أجل تركيز مكانتها وتقوية نفوذها، وبذلك أضحى زعماء الفروع العشائرية والسراكيل ( ضامنوا الأرض )، أحدى الوسائل التي أسهمت في نمو طبقة الشيوخ الملاكين وترصين مكانتهم وتوسيع أثرهم(7).
لقد كان من الطبيعي أن تكون الاتجاهات العامة لسياسة الإدارة العثمانية مركزة على تعميق الارتباط بالأرض كعنصر منتج يمكن الحصول من خلاله على الربيع الزراعي، إلا أن الخلل والارتباك، اللذان كانا يسودان تلك الإدارة، جعل من هذه العلاقة مبتورة تشكو النقص، وكان للاعتماد الكبير والأساليب على المتفوضين والمتسلمين إن غدت دالة الإنتاج القومي في قطاع الزراعة تصب بالدرجة الأولى لخدمة مصالح الإدارة العثمانية والشيوخ المتفوضين بواقع 56% من حجم الدخل القومي للزراعة العراقية فيما كانت الغالبية العظمى من المجتمع الفلاحي العراقي تعاني من الاستغلال وشظف العيش، هذا إذا ما أخذنا بالاعتبار أن التوزيع الحرفي لسكان العراق عام 1930 يشير إلى أن نسبة المشتغلين بالزراعة قد بلغت 80% إلى المجموع الكلي. وبذلك يمكن لنا أن نرصد حجم الفاقة والتخلف والاضطراب الذي كانت تعيش تحت ظله جموع الفلاحين(8).
وتحت وطأة الظروف المعقدة التي كان يرزأ تحت ظلها الفلاح، وصل بغداد وال جديد، يعد عهده الذي لم يزد عن الثلاث سنوات(9)، مرحلة انتقال في تاريخ العراق الحديث. وعلى الرغم من الأوصاف والألقاب التي أسبغت عليه إلا أن الأوضاع الداخلية لم تكن بالصفاء الذي قد يدخل في روع البعض، بل كانت مرحلة من النشاط الدائب الذي عكف عليه هذا الوالي خدمة لحكومته التي جاء يمثلها وقد أتصف هذا النشاط باتجاهات عدة يمكن تركيزها في تطبيق قانون الولايات العثماني في العراق ومحاولات السيطرة على العشائر وتطبيق قانون الأراضي quot; الطابو quot; وتنظيم أمور الضرائب. والواقع يلزمنا إلى أن الاستنارة التي ألصقت بهذا الوالي وروح الإصلاح والتحديث، كان محركها الأهم الرغبة الكامنة في نفسه لتوكيد ذاته، وتوجيه أنظار الاستانة نحوه. وعلى هذا وجه نشاطه بتركيز نحو مد سيطرته على العشائر العربي التي أعتبرها شوكة في الجنب، وعارض شديد الحاسية والأهمية يقف في وجه مطامحه ومراديه. وكانت مسألة جمع الضرائب من القضايا الدقيقة التي جعلت من موقف هذا الوالي على المحك، حتى أنه عمد إلى استيفاء الضريبة الحكومية عن طريق القوة العسكرية انطلاقا من جملة مبررات وضع في مقدمتها فرض سيطرة الحكومة لنفاذ أمرها على العشائر والقضاء على نظامهم المشيخي من خلال تطبيق قانون الولايات. وقد واجه مدحت باشا مقاومة عنيفة من قبل العشائر العربية تكبدت فيها القوات العثمانية خسائر فادحة، وتفاقمت الحال حتى بلغت أن انتفضت عشائر أخرى في المنطقة، وسيادة الرأي القائل بضرورة الانفصال عن الحكومة والامتناع عن دفع الضريبة إليها. وقد تفاقمت حدة الانتفاضة حتى اتسعت لتمثل مناطق واسعة من الأجزاء الوسطى من العراق. إلا أن الاتفاق الذي عقده الوالي مع شيخ عشائر شمر الجريا، رجع كفة القوات الحكومية، وعزز مكانة الوالي الذي بدأ خطواته العملية نحو توطين العشائر، والواقع أن السلطات الحكومية قد وجهت جل جهودها نحو مطاردة شيوخ العشائر ونكلت بهم لأنها تعي جيدا المكانة الرفيعة التي يحتلها الشيوخ في المجتمع العشائري والمدى الواسع لتأثيرهم في نفوس أفراد القبيلة وعلى هذا، اعتبرت الحكومة أن الشيوخ وحدهم المسئولين عن حالة الرفض التي عبرت عنها العشائر، لذا فقد اتجهت نحو إلقاء القبض عليهم، وأعلنت عن عفو عام للفلاحين.
وكل هذه الأحداث ارتبطت بشكل دقيق بمسألة توطين العشائر واستقرارها، فلقد شهدت تلك الحقبة تطبيق قانون الأراضي quot; الطابو quot; والذي أريد من خلاله الحصول على موارد مالية جديدة لخزينة الحكومة ومحاولة لإنهاء الفوضى والاضطراب والمشاكل التي كان يحدثها الملتزمون، وعن طريق التفويض بوشر ببيع الأراضي الزراعية على الفلاحين بأسعار مناسبة، إلا أن هذه الإجراءات لم تمنع الإقطاعيات الزراعية الواسعة من التنامي والظهور.

يتبع