في مثل هذه الأيام، قبل 18 عاما، جمعني لقاء صحفي مع الدكتور سعد الدين إبراهيم، كان مرتبا قبل الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس عام 1990. المناسبة كانت صدور الأجزاء الأولي من مشروع بحثي ضخم يستشرف مستقبل الوطن العربي، شارك فيه لفيف كبير من خيرة العلماء والمفكرين والباحثين العرب، ومنهم إبراهيم.
ففي منتصف الثمانينيات تبني مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت هذا المشروع حتي سنة 2015، وكان يقوم على ثلاث سيناريوهات أو مشاهد، هي: ماذا لو استمرت حالة التجزئة في الوطن العربي؟ . ماذا لو حصلت تكتلات إقليمية أو وظيفية؟. وأخيرا، ماذا لو حصلت وحدة اتحادية؟. كان الخيار المطروح قبل الغزو العراقي للكويت هو الوحدة الاتحادية، رغم اصرار قطاع كبير من القومجية علي الوحدة المركزية.
الوحيد الذي لوح بإستمرار حالة التجزئة في الوطن العربي كان سعد الدين إبراهيم، وشاركه في ذلك خلدون النقيب أستاذ علم الإجتماع بجامعة الكويت وقتئذ. وحجته أن الوطن العربي مكون من فسيفساء أشبه بالموزاييك، أثنية وعرقية ودينية، وما لم نبتكر ndash; علي حد قوله - صيغة قطرية أولا تعمل علي تأكيد مبدأ المواطنة، قبل التفكير في أي شكل من أشكال الوحدة الاتحادية، سينفرط العقد وبلا رجعة.
وجاءت حرب تحرير الكويت في مطلع عام 1991، والتي صك فيها الرئيس بوش الأب مصطلح quot; النظام العالمي الجديد quot;، فتوجهت إلي سعد الدين إبراهيم مرة أخري، وأجريت معه حوارا لصالح جريدة الحياة اللندنية حول هذا المصطلح الجديد، فقال: هناك مقومات أربع يتأسس عليها هذا النظام، التوافقية والتكاملية والأعتماد المتبادل وحقوق الإنسان. وتوقف طويلا عند حقوق الإنسان وكأنه يستقرأ كتاب المستقبل القريب والبعيد، وكانت عباراته أشبه بصياغات نبي يتحدث بلسان الحقيقة.
لم يمض عام واحد حتي صدر الإعلان العالمي الخاص بحقوق الأفراد المنتمين لأقليات قومية أو اثنية أو لغوية أو دينية،عن لجنة حقوق الإنسان واللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، والمصدق عليه من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18-12-1992. ثم أنعقد المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان في فيينا في الفترة بين 14 - 26 يونيو عام 1993 والذي حضرته 171 دولة، حيث نص هذا البيان على ضرورة التزام الدول الكامل والفعال بحقوق الإنسان والحريات السياسية.
وشكل بيان فيينا مع بقية الإعلانات العالمية الخاصة بقضية حقوق الإنسان، خطوة متقدمة على طريق حل مشكلة الأقليات، هذه المشكلة التي باتت تهدد الأمن والسلام في أكثر من منطقة، منها على الأخص منطقة الشرق الأوسط التي باتت مهددة بالتقسيم، حيث تتواجد جميع أنواع الأقليات كالأقباط في مصر والجنوبيون في السودان والأشوريين والأرمن والأكراد والبربر وغيرهم في كل من العراق وتركيا وإيران وسوريا ولبنان والمغرب الكبير.
علي خلفية ذلك كله، دعا سعد الدين إبراهيم في عام rlm;1994 rlm; إلي مؤتمر الإعلان العالمي لحقوق الملل والنحل والأعراق في الوطن العربي والشرق الأوسطrlm;، ووضع الأقباط مع كل من الأكراد في العراق, والبربر في المغرب العربيrlm;,rlm; والدروز في إسرائيلrlm;,rlm; والأرمن في لبنانrlm;.
وقامت القيامة في بر مصر المحروسة، حيث أعلن الكثير من السياسيين والمثقفين رفضهم لإقحام المصريين الأقباط في إطار ندوة عن الأقليات في الوطن العربي، معتبرين إن مثل هذه النظرة خاطئة بل وشديدة الخطر علي مستقبل الشعب المصري الواحد، وهي محاولة مأجورة تتنـكر للتراث المصري الخالد الذي صنعه المصريون جميعا وتعاونوا معا في مواجهة ما أعترضه من صعابrlm;.
وتصدي له حينذاك أثنان من عتاولة الكتاب، الأول هو الأستاذ محمد حسنين هيكل، والثاني هو الدكتور وليم سليمان قلادة. ويجمل المقال الذي نشرته الأهرام في عدد الجمعة rlm;22-4-1994 وعنوانهrlm; quot; أقباط مصر ليسوا أقلية وإنما جزء من الكتلة الإنسانية الحضاريةrlm; quot; للأستاذ هيكل، رأي الرجلين معا، والمزاج المصري العام أيضا.
وكان لدخول البابا شنودة نفسه علي الخط أثره البالغ في حسم الأمر، فقد صرح مسئول المكتب الإعلامي بالمقر البابوي بأن قداسة البابا شنودة أعلن بإسم الأقباطrlm;:rlm; quot; نحن مصريونrlm;-rlm; جزء من شعب مصرrlm;-rlm; ولسنا أقلية في مصرrlm;,rlm; ولا أحب أن نعتبر أنفسنا أقليةrlm;,rlm; ولا أن يسمينا البعض أقلية فكل من عبارة أغلبية وأقليةrlm;,rlm; إنما تدل في أسلوبها علي التفرقة والتمييز أو التمايز بالنسبة إلي البعضrlm;,rlm; وهذا لا يليق بالنسبة لأبناء الوطن الواحد وخصوصا في مصر المحبوبةrlm;.quot;.rlm;
rlm; وتحت ضغط هذا الرفض العام,rlm; نقل سعد الدين إبراهيم مؤتمره إلي قبرص، ليخرج من رحمه بعد ذلك العديد من المؤتمرات في العالم، وفي المقدمة منها مؤتمرات أقباط المهجر، أذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر، زيورخ 2004 للمهندس عدلي أباديرrlm;، واشنطون 2005، زيورخ 2006، نيويورك 2006 وشيكاغو 2007 للمهندس كميل حليم.
لقد أدرك سعد الدين إبراهيم بغريزته السياسية، مبكرا، أن معظم دول منطقة الشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل، لم تستوعب بعد التطورات العالمية المتسارعة، وتتجاهل عن عمد القضايا الإنسانية الناجمة عن عدم حل مشكلة الأقليات، بل وتنكر وجود هذه الأقليات أصلا بزعم أن هذه الأقليات من نسيج واحد ولحمة واحدة مع الأغلبية في الوطن، مؤكدة علي أن الدستور ينص ويقرر مساواة جميع المواطنين أمام القانون، بصرف النظر عن اللون أو الدين أو الجنس.
وجاءت تقارير حقوق الإنسان والحريات الدينية المتتابعة، حتي عام 2008، لتكشف الفجوة الرهيبة بين النصوص والممارسات في معظم دول المنطقة، مؤكدة علي ان الحرية الدينية جوهرية لسبب بسيط هو quot; أنها تدعم منظومة الحريات الأساسية الأخرى، التي تشكل الدين الجديد لحقوق الإنسان، فهي متصلة اتصالاً عضوياً بحرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتماع، وحق الأختلاف، وحق الخطأ أيضا quot;.
وحتي نتفهم المزاج العام في مصر عام 1994، ولا نتسرع بإتهام القادة والمثقفين بقصور الرؤية والرأي، فإن للقصة أبعاد أخري. فلم تكن المثالية ولا الرومانسية هي التي جمعت بين هيكل وقلادة علي قلب رجل واحد، ليكتبا نفس الكلام تقريبا علي صفحات جريدة الأهرام : quot; أقباط مصر ليسوا أقلية quot;، وإنما خوفهما الشديد علي وحدة نسيج الشعب المصري، وحرصهما الصادق علي مستقبله، منعهما من تصديق أي صوت آخر، ينذر ويحذر من تفكك هذا النسيج أو حتي ينبئ بدوبانه، وهي حالة إنسانية خالصة، يغيب فيها العقل للحظة رغم حضوره الظاهر، خاصة حين تقع كارثة quot; تفوق العقل quot;، كموت عزيز مثلا، وحينئذ يغلق العقل مسامه، رافضا تصديق ما يراه بأم عينه.
مات وليم سليمان قلادة (صاحب مدرسة حب الوطن) عام 1999 وفي حلقه غضة من الأحداث الطائفية المتفرقة هنا وهناك، وأصبح يناشد quot; الأغلبية الصامتة quot; من المسلمين والأقباط، كلما أمكن ذلك، علي صفحات جريدة الأهرام أيضا، بالخروج عن صمتهم، لأن أمن الوطن بات مهددا. ولم يشهد أو يشاهد التطورات الدرامية الأخيرة في المنطقة بعد 11 سبتمبر 2001، والتي دفعت هيكل إلي التحذير من نزيف هجرة المسيحيين العرب من الشرق الأوسط، في محاضرته الأخيرة بنادي القضاة النهري، مايو 2008.
المفارقة هي أنه بعد عشرين سنة من مشروع مركز دراسات الوحدة العربية، لاستشراف مستقبل الوطن العربي، الذي انتهي بالسكتة القلبية عقب الغزو العراقي للكويت، ومال فيه سعد الدين إبراهيم إلي سيناريو التجزئة، أصبحت هناك سيناريوهات ثلاث مطروحة اليوم، كلها تدور في إطار quot; التجزئة quot; فقط، حول مستقبل الأقليات في المنطقة، وتتمثل في : تغيير الجغرافيا بالتقسيم أو تعديل الحدود، وإما بتغيير البشر بالانصهار القسري أو الإبادة أو الهجرة، وإما تغيير المؤسسات بجعلها اكثر ديمقراطية اعتمادا على فكرة المواطنة.
مشكلة سعد الدين إبراهيم أنه، رغم واقعيته السياسية الجارحة، يحمل بين جنباته quot; سذاجة quot; المثقف الحقيقي، فلم يكتف بالإيمان بquot; تجسير الفجوة بين النخبة وصانع القرار quot;، وهو أحد عناوين كتبه المهمة، بل دعا وبصدق إلي ذلك، فكان أول ضحايا دعوته!
bull;سلخة من كتاب quot; هموم قبطية، شرق أوسطية quot;، للكاتب، قيد النشر.

أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]