سيدخل الدكتور الفيلسوف مراد وهبة، اطال الله عمره، التاريخ المصرى كأبرز دعاة العلمانية، فى النصف الثانى من القرن العشرين وحتى الآن، فى ظل توحش الاصولية الإسلامية، ومن هذا المنطلق يعد مراد وهبة أخر الكبار الذين كرسوا حياتهم لنشر المفهوم على المستوى الاكاديمى وعلى مستوى النخب.المشكلة أن كل دعاة العلمانية يعملون فى حارة سد لآن الشارع الرئيسى فى يد الدولة ومعارضيها من الإسلاميين وكلاهما ضد العلمانية وضد الحرية وضد الديموقراطية وضد التنوير وضد الإستنارة وضد الوعى وضد إعمال العقل وضد العدل وضد الاخلاق بمفهومها الإنسانى.... ومن هنا تأتى صعوبة وربما إستحالة المهمة.
يعرف مراد وهبة العلمانية فى تعريف بسيط وواضح ومختصر وهو quot; التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلقquot;... ويرى مراد وهبة أن هذا التعريف للعلمانية يعنى فى البداية إصلاح العقل لكى يتحرر من الدوجما ومن الثوابت ومن فكرة الإجماع ومن الإدعاء بإمتلاك الحقيقة المطلقة، فالنسبى هو الإنسان، هو العقل الإنسانى والظواهر الإنسانية، هو وجودنا التاريخى والزمنى فى هذا العالم. معنى هذا أن فصل الدين عن الدولة، والذى هو أحد أهدف العلمانية، هو نتيجة لإصلاح طريقة وأسلوب التفكير، ومعنى هذ أيضا بدون تغيير إسلوب التفكير فإن الديموقراطية تصبح كارثة لأنها سوف تستبعد الحريات وتكتفى بالإنتخابات ومن ثم هى الطريق القصير لوصول القوى الفاشية للحكم ولهذا يقرر مراد وهبة بأنه quot; لا ديموقراطية بلا علمانيةquot;، فالديموقراطية تعنى التحول من الاحادية إلى التعددية وقبول ذلك على ارضية المنافسة وقبول الآخر المختلف، ومعنى هذا أيضا القبول بعدم إحتكار فرد أو مجموعة للرؤية الصحيحة للتقدم، أى القبول بالنسبى، أى قبول العلمانية كما يعرفها مراد وهبة... ومعنى هذا أن من ينكرون العلمانية ينكرون بالضرورة الديموقراطية، ومن يقفون موقف عدائى من العلمانية هم بالضرورة أعداء الديموقراطية، أى أن أدعياء امتلاك الحقيقية والتحدث بأسم الوطن وإحتكار معنى الوطنية والتحدث بأسم الله وإحتكار معنى الإيمان كلاهما عدو للديموقراطية، معنى هذا أن نظام الحكم فى مصر والذى يدعى إمتلاك مفهوم الوطنية منذ يوليو 1952 وحتى الآن ويتهم خصومه بالخيانة وتشويه سمعة مصر وغير ذلك من الإتهامات الملفقة المفبركة،والتيارات الإسلامية على تنوعها بما فيها الأزهر والتى تدعى إمتلاك مفهوم الإيمان ومن ثم تكفير الخصوم ومصادرة أنتاج الإبداع العقلى كلاهما قوى فاشية تعمل ضد الديموقراطية وضد العلمانية وضد التقدم.. وكلاهما اخوة فى الرضاعة يتحركون على أرضية واحدة تعادى مفهوم التقدم ولكن بدرجات مختلفة.
من هنا تأتى القضية الأساسية عند مراد وهبة وهىquot; إصلاح العقل المصرى quot;، تلك القضية التى كرس لها عمره مكملا للطريق الذى بدأه الفيلسوف الكبير بن رشد، والذى أسس مراد وهبة منتدى يحمل أسمه... ولكن كيف نصلح العقل؟.
بالإستنارة،أى بالتنوير وهذا يقودنا لسؤال آخر ما هو التنوير؟.
أجاب على هذا السؤال الفيلسوف الالمانى إيمانوئيل كانط سنة 1784 بأن التنوير خروج الإنسان من حالة الوصاية عليه، وهى عجزه عن إستعمال عقله بدون إرشاد من الغير... وهذه الوصاية ليست ناجمة عن نقص الإدراك العقلى وأنما من نقص الشجاعة والإرادة فى استعمال العقل بدون إرشاد من الغير، ولهذا كتب كانط مقولته الخالدة quot; كن شجاعا واستخدم عقلكquot;....والشرط الأساسى لذلك هو الحرية التى تحرر العقل من الخوف ومن القوانيين المقيدة ومن السلطة السياسية والدينية الغاشمة ومن الرقابة الذاتية المقيدة ومن رقابة المجتمع القاهرة ومن التراث المكبل.إذن لا عقلانية ولا إستنارة ولا تنوير ولا علمانية ولا ديموقراطية بدون تحرير العقل،ولا تحرير لهذا العقل بدون حرية حقيقية.
نحن أمام حزمة متكاملة للنهضة ومن ثم للتقدم، وهى الحريات والتنوير والإستنارة والعلمانية وتتوج كل ذلك بالديموقراطية....ومن يحدثنا عن الديموقراطية بدون هذه الحزمة المتكاملة هم فى الحقيقة لصوص سرقوا مصطلح الديموقراطية لكى يدمروه كما دمروا من قبله عشرات المصطلحات المعرفية،هم دعاة سلطة وتسلط وليسوا دعاة ديموقراطية، فالديموقراطية لا تستقيم بدون حريات وعلمانية وعقل شجاع يقرر ما يريد بدون وصاية.
والسؤال هل هناك مشكلة فى العقل المصرى؟
عند مراد وهبة أن العقل المصرى فى حالة فساد ولم يعد قادرا على نقد ذاته حيث تقوم السلطة الدينية بالوصاية على العقل ومن ثم يقرر مع فرنسيس بيكون بضرورة تطهير العقل من الفساد. بل يقرر مراد وهبة بأنه إذا كان هناك ثمة تنوير فى مصر فهو تنوير بالسلب فنحن لا نعرف عن المستنيرين المصريين إلا ما حدث لهم من إغتيال وتكفير أو سجن وهى نتائج حتمية لمحاولاتهم نشر التنوير.
يذكرنا مراد وهبة بالحقائق المعروفة عن مصير العلمانية ودعاة العلمانية فى مصر، فنحن إزاء دولة مدنية منزوعة التطبيق ودولة دينية تنزع إلى التطبيق وتستند إلى نص دستورى ينحاز بالضرورة إلى الدولة الدينية... ولهذا يقرر مراد وهبة حقيقة مؤلمة بأنه لا يوجد تاريخ للعلمانية فى مصر، ففرح انطون الذى أتخذ من فلسفة بن رشد منهجا أغلقت مجلته quot; الجامعةquot; بعد هجوم عليه من شيوخ الازهر، وعلى عبد الرازق فصل من الجامعة وجرد من شهادته الازهرية بعد تقريره بأن الإسلام دين فقط وليس دينا ودولة فى كتابه quot;الإسلام واصول الحكمquot;، والغريب أن من أصدر هذا الحكم عليه هو الشيخ الظواهرى جد أيمن الظواهرى الرأس المفكر لتنظيم القاعدة، ومن مظاهر التدهور فى مصر أن زوجة ايمن الظواهرى هى حفيدة داعية النهضة فى مصر رفاعة الطهطاوى. وطه حسين فصل من الجامعة نتيجة لإعمال المنهج العلمى العقلى فى تناول التراث فى كتابه quot; فى الشعر الجاهلىquot;،ولويس عوض تم فصله من الجامعة نتيجة لدعوته للعلمانية ونجيب محفوظ تم مصادرة روايته quot; اولاد حارتناquot; وفرج فودة تم إغتياله.
ومن هنا نصل إلى نتيجة منطقية بأن ما يحدث فى مصر،سواء من النظام أو معارضيه، لا يمت للتقدم بصلة. ولهذا لا توجد رؤية للتقدم ولا رغبة فيه ولا تفكير فى تغيير أسلوب التفكير. نحن إزاء وضع فاسد وبديل يتبع أسلوب quot; الردح السياسىquot; لشرشحة هذا الوضع ومن ثم إسقاطه بدون تفكير فى بديل حقيقى لمستقبل مصر...ومن هنا يأتى الخوف والتشاؤم بالنسبة للوضع فى مصر وإزاء مستقبلها.
العقل مغيب وفى محنة حقيقية،التنوير غائب، الحريات معطلة، الدين مسيطر،النظرة للديموقراطية مشوهة، العلمانية مكفرة...والاغلبية فقدت شجاعتها فى استخدام العقل.
فى هذا المناخ يصرخ مراد وهبة، كما كان يفعل بن رشد، بضرورة إنتشال العقل المصرى من محنته ولكن
إنك أسمعت لو ناديت حيا...ولكن لا حياة لمن تنادى.
توضيع من د. اسامة الغزالى حرب
تلقيت توضيح من الاخ العزيز دكتور اسامة الغزالى حرب، رئيس حزب الجبهة الديموقراطية والمفكر السياسى المعروف، بأنه ليس له علاقة بالمرة بالبيان الذى نشره جمال اسعد عبد الملاك ضد الأنبا توماس أسقف القوصية وقد زج بأسمه فى غير موضعه، فالدكتور اسامة من الداعمين للحريات والمساواة والمواطنة لجميع أبناء مصر بدون تفرقة على اساس الدين أو النوع أو خلافه.
والدكتور اسامة الغزالى والحزب الذى يرأسه يمثلان نقطة مضيئة فى بحر ملئ بالظلمات ومستقبل غامض مجهول ينتظر مصر، ونحن نتمنى لحزبه أن يأخذ المكانة التى يستحقها وأن يجد الدعم الكافى من كل المصريين أقباطا ومسلمين لكى يشق طريقه ويستطيع أن يحدث تغييرا ملموسا فى مصر ويساهم فى إزالة مخاوف المصريين على مستقبل بلدهم.
نتمنى مزيد من التقدم للدكتور أسامة الغزالى حرب ولحزب الجبهة الديموقراطية كى يستطيع تطبيق برامج الحزب الإصلاحية من آجل ديموقراطية حقيقية وتقدم حقيقى فى مصر.
[email protected]