لا تزال الأزمة في القفقاز، التي فجرها العدوان الروسي على جورجيا، هي القضية الدولية الأكثر التهابا، وسخونة، وهي مفتوحة على عدة احتمالات.
إن مشروع التهدئة، ووقف النار، الذي حمله سركوزي للرئيس ميخائيل تشيخاسفيلي، بعد الاتفاق الشفهي مع بوتين، ومدييديف، هو مجرد إطار عام لحل القضية، وهو لم يحل بين موسكو، وبين مواصلة عدوانها العسكري داخل الأراضي الجورجية، وقصف قراها، واحتلال بعض مدنها، كما تورد تقارير صحيفة لوموند، فيجارو، وهيرالد تريبيون، وكذلك التلفزيون الفرنسي. تقول صحيفة quot;لوموندquot; الفرنسية، اليسارية، في عددها ليوم 14 الجاري، إنه خلال لقاء سركوزي ببوتين في بكين، طلب الأول أن لا تتحرك موسكو على الهجوم الجورجي في أوسيتيا الجنوبية، وأن يُعطى مهلة للتدخل لتهدئة الأزمة، ولكن بوتين أجابه بعنف شديد قائلا: quot;كلا! إنهم سوف يعاقبون! سوف أعاقبهم!quot; أي أن بوتين اعتبر القضية قضيته، خاصة وهو يكن عداء محموما للرئيس الجورجي المنتخب ديمقراطيا. إن الحقيقة، كما تكشف المعلومات، هي أن بوتين هو مهندس التدخل العسكري، فهو لا يزال الحاكم الفعلي في موسكو.
صحيح، إن الرئيس الجورجي قد قام بمجازفة خطرة أوقعته في الفخ، مما اتخذه بوتين حجة للتدخل. مع ذلك فإن القوات الجورجية التي هاجمت أوسيتيا الجنوبية، ذات الحكم الذاتي، والميالة للانضمام لروسيا، [ لا يزيد سكانها عن 72 ألف نسمة] قد تصرفت داخل أراضيها، وحدودها المعترف بها دوليا، ولكن مسألة أوسيتيا الجنوبية، وزميلتها أبخازيا الميالة أيضا لروسيا، كانت دوما مسألة حامية، وتفجر الاضطرابات، وأعمال العنف، و كان متوقعا أن مجازفة الرئيس الجورجي ستثير حنق الروس، خصوصا ولهم في المنطقتين قوات باسم quot;حفظ السلامquot; منذ 1992. من جهة أخرى، وكما تقول صحيفة quot;هيرالد تريبيونquot;، المعارضة لسياسة بوش، في عددها ليوم 14 الجاري، فإنه، بالرغم من الدعم الأمريكي القوي لجورجيا، وتشجيعها على الانضمام لحلف الناتو، فإن المسئولين الأمريكان سبق وحذروا الرئيس الجورجي من شن حملة على أوسيتيا، وفي هذا الظرف بالذات.
إن الموقف الفرنسي، الذي تبنته دول الاتحاد الأوروبي، قد كشف محدودية الخيارات الغربية تجاه العدوان الروسي، كما كشفت من جديد تناقضات دول الاتحاد، لاسيما حنق الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، وتبين ذلك علنا بذهاب رؤساء بولونيا، وأوكرانيا، ودول البلطيق، للعاصمة الجورجية، وإعلان تضامنهم القوي مع الرئيس الجورجي، فهم يعلمون أن قضية أوسيتيا، التابعة لجورجيا، هي مجرد حجة، وأنه لا توجد حرب إبادة هناك، كما ادعت روسيا لتبرير عدوانها، فالغرض الحقيقي هو quot;تأديبquot; الدول المستقلة عنها، ومحاولة تخويفها لتركيعها. أما الولايات المتحدة، فقد أدانت العدوان، وتهدد اليوم ببعض الإجراءات التي تخدش روسيا، رغم أن أي خيار عسكري هو من باب المستحيلات، وأمريكا لا تهدد أمن روسيا، والحرب الباردة انتهت، والغرب كله بحاجة لروسيا في عدد من الملفات الدولية الساخنة، كالمشروع النووي الإيراني، ومواجهة الإرهاب الدولي.
إن مشروع سركوزي يرتكز على حق روسيا في الاحتفاظ بقواتها في المنطقتين موضع الأزمة، وهذه المرة سيكون حقا مدعوما دوليا، وهذا يعني حظر دخول القوات الجورجية في أراضيها تلك. أما النقطة الخامسة من الاتفاق الشفهي فهي لا توضح إلى أين يجب أن تنسحب القوات الروسية؟ هل لحدودها؟ أم لمواقعها في أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا. كما أن الفقرة الخاصة بعدم اللجوء للقوة، فموسكو تفهمها بأنها تخص قوات جورجيا وأوسيتيا فقط، ووفقا لموسكو، فإن القوات الروسية غير معنية بهذا الالتزام، إذ تدعي موسكو أنها ليست طرفا في النزاع،، بل هي لفصل المتحاربين عن بعض!
إذن لماذا وافق سيخاسفيلي على الاتفاق رغم أنه لم يوقع على الوثيقة؟ بالطبع من موقع الضعف، ومن اكتشافه أن الاتحاد الأوربي لا يريد إغضاب الروس، خصوصا وإن أكثر دول الاتحاد معتمدة على الغاز الروسي، وكانت فرنسا وألمانيا قد عارضتا في نيسان الماضي انضمام جورجيا لحلف الناتو، مما قد يكون مما شجع الروس. من جهة أخرى، تورد بعض التحليلات سببا آخر، وهو أنه برغم من أهمية وقف النار، ووقف سفك الدماء، فإن جورجيا تتطلع لقرار من مجلس الأمن يكون لصالحها. إنها تريد تدويل جهود السلام، وهو ما وعدهم به سركوزي شفهيا. إن الأخير ،بعد ترضية المطالب الروسية، يتصور أن قرارا دوليا سيصدر لتدويل القضية، وإرسال قوات سلام دولية محايدة، والنص على وحدة الأراضي الجورجية، ولكن، هل ستقبل موسكو بقرار لا يتطابق مع تفسيرها هي للاتفاق؟! لا نعتقد.
تحاول صحف يسارية بريطانية، مثل الغارديان، مقارنة التدخل الروسي بتدخل الناتو في كوسوفو، وبحرب العراق، بينما هي حالات مختلفة جدا. في كوسوفو، كانت هناك حرب إبادة عرقية شاملة، تظهر كل يوم وقائع وشواهد عليها، واستقلال كوسوفو معترف به، ما عدا من قبل موسكو. أما العراق، فالحرب قد أزاحت النظام الفاشي الدموي، وحروب الإبادة التي شنها، وهي حرب وجدت ارتياح ودعم غالبية الشعب العراقي، وقواه الوطنية، وإن القوات الأمريكية في العراق هي السد الأول في وجه إرهاب القاعدة، وضمان الأمن في البلاد. بالعكس من هذا، فإن مسألة التدخل الروسي الراهن في جورجيا بحجة أوسيتيا الجنوبية حالة مختلفة تماما، رغم أن روسيا تدعي أنها تدخلت لوقف quot;حرب إبادةquot;، أي تريد الإشارة للتدخل في كوسوفو، ولكن تظهر الوقائع اليوم أن الانفصاليين في أوسيتيا الجنوبية هم الذين بدءوا مؤخرا بالاستفزاز، وأعمال العنف، بتحريض ودعم القوات الروسية، فلا دليل على وجود حرب إبادة ضد سكان اوسيتيا. صحيح أن الهجوم الجورجي أدى لوقوع ضحايا كبيرة بين المدنيين، ولكن العدوان الروسي قد أوقع من الضحايا أضعافا مضاعفة، وبدلا من حماية أوسيتيا، كما تحججت موسكو، فإن القوات الروسية شرعت تحتل مدنا جورجية، وتتقدم نحو العاصمة، ووفق ما يعلن الرئيس الجورجي، وما يرد في نشرات الأخبار، فإن العمليات العسكرية الروسية البرية مستمرة، بل وجرى قصف قرى جديدة، وحسب من أذاعه التلفزيون الفرنسي لصباح 15 منه، فإن ثلث أراضي جورجيا محتلة، ومنها مدينتا بوتي، وغوري، وثمة ألف دبابة روسية تتحرك بلا توقف.