عندما يشكل النهب أو الفرهود ممارسة اجتماعية مقبولة في مجتمع ما فهو جزء من الثقافة السائدة ولكن النهب يُعتبر في نفس الوقت ممارسة اقتصادية من حيث الموضوع (الأموال النقدية والعينية) والهدف (إشباع الحاجات المعيشية أو تجميع الثروة). وقد عرفت كثير من المجتمعات ومنها المجتمع العربي قبل الإسلام ومجتمعات الشرق الأوسط الأخرى هذه الممارسة في ظل الظروف الاقتصادية والثقافية التي عاشتها تلك المجتمعات في فترة معينة من تاريخها. والفرهود في اللغة العربية من الفعل فرهَد أي اتصف بالسُمنة مما يعني التمتع بالغذاء اللازم لذلك، أما اصطلاحاً فالفرهود، كما النهب، هو الحصول على لوازم الحياة من خلال الاستيلاء على أموال الغير في سياق التمكن من الضحية باستخدام السلاح أو لعجز الضحية عن الاعتراض. وقد مارست القبائل العربية الفرهود ضد أعدائها من القبائل حال انتصارها عليها. وكما يعبر تطور الكرم عن ممارسة تضامنية لمواجهة النقص في الغذاء والشراب (في الحل والترحال)، والشجاعة عن ميزة ضرورية للحفاظ على ثروة القبيلة البشرية والمادية وتنميتها في مواجهة الأخطار المختلفة، ترتبط ممارسة الفرهود بنفس هذه الظروف حيث شكلت وسيلة لإشباع الحاجات الضرورية لهذه القبائل. قد تبدو هذه الخصائص متعاكسة (لا سيما الكرم والفرهود) ولكنها تشكل في الحقيقة، ومهما كان رأينا فيها، عناصر منسجمة في إطار الحياة القائمة في حينها وتؤدي كل منها وظيفتها في مجالها المناسب في ذلك الفضاء الاجتماعي.
ولكن الذي يهمنا أكثر هو تطور هذه الممارسة بعد خفوتها نسبياً في ظل التمدن الإسلامي الذي قضى على الأسس الثقافية والاقتصادية التي قامت عليها ممارسة الفرهود في حياة العرب. ويمكن اعتبار هذه العودة من أهم الظواهر المَرضية والخطيرة التي نتجت عن تكريس الاستبداد في عالمنا العربي الإسلامي وما تضمنه من إفقار للمجتمع بالنهب المستمر لثرواته وتخريب تدريجي لثقافته التي تشكلت ضمن مسيرته الحضارية الرائعة. وفي القرون المتأخرة، امتدت هذه الممارسة لتشمل قرى الفلاحين والمدن الصغيرة وطرق المسافرين والمؤسسات الحكومية المتواجدة في الأطراف النائية وتحولت إلى عملية نهب متواصل (مع سبق الإصرار والترصد) لكل ما يقع تحت اليد من أموال ونفائس. وهكذا ساهمت ممارسة الفرهود في تخريب المجتمعات الطرفية أي في المناطق التي لم تكن السلطة المستبدة قادرة على الوصول إليها إلا نادراً، فانتشرت الفوضى الأخلاقية ومعها ثقافة التسلط والنهب في المجتمع بل وصارت الدولة نفسها تمارس الفرهود. وكمثل قريب إلى فترتنا الحالية، سمحت الدولة العثمانية في أواخر القرن 19 لجنودها الساخطين بسبب تأخر رواتبهم بنهب أسواق بغداد (أي بالتسوق مجاناً وبالعنف) وهم بالبزة العسكرية. وهكذا انتقلت الدولة من النهب quot;المًقننquot; بحجة الضرائب والرسوم الشرعية وغير الشرعية الى النهب العبثي لمجرد التسلط والانتقام من الشعوب المحكومة.
وبسبب ترسخ ممارسة الفرهود عبر قرون من الزمن انتقلت إلينا، شعوباً وحكومات، كجزء من ثقافة سائدة في quot;دولنا الحديثةquot; وكواحدة من سمات التخلف لمجتمعاتنا المعاصرة. وقد وصل الأمر أن دفعت بعض الأنظمة العربية جنودها إلى استباحة مدن quot;الأعداءquot; ونهبها، كما حصل أثناء الحرب العراقية الإيرانية حيث مارست قوات صدام حسين الفرهود في المدن العربية في إيران... وبعد اجتياح الكويت أيضاً، فرهدت السلطة بنفسها أموال الدولة المُحتلة إلى جانب جنودها الذين تسلطوا على بيوت ومخازن المواطنين. من جهة أخرى، كرست ممارسات العديد من الحكومات العربية في القرن العشرين فكرة أن الدولة وثرواتها هي ملك لمن يسيطر عليها وتم الالتفاف على القوانين للتغطية على تسلط كبار وصغار المسؤولين على المال العام، مما أكد في ذهن العامة من الناس أن القانون المعلن في واد والواقع في واد آخر، وأن القاعدة السائدة فعلاً هي الفرهود عند التمكن من نهب الدولة ويحق لهم ذلك كما يحق لغيرهم.
لقد تناست بعض وسائل الإعلام المغرضة هذا الواقع العربي المؤلم لتصور للناس أن الفرهود الذي مارسه بعض العراقيين إزاء الدولة المنهارة، نيسان (أبريل) 2003، وكأنه ظاهرة استثنائية وخاصة بالعراق بعد انهيار نظام صدام حسين، بينما لم يكن استثناء إلا المدى الذي بلغته وظهور اللصوص علناً وعلى شاشات التلفزيون. إذ اغتنم هؤلاء الرعاع المقهورون فرصة سقوط الدولة لنهب مؤسساتها المختلفة وبدون مبالاة. أما على مستوى المسؤولين في الفترة نفسها، فقد استخدم الفاسدون منهم تقاسم السلطات باسم المحاصصة ليفرض كل منهم مصلحته في اقتطاع أكبر حصة ممكنة من quot;الكعكةquot;، واستفادوا في ذلك من quot;الخبرةquot; الطويلة للعديد منهم أو لمعاونيهم منذ أيام النظام السابق في quot;تقنياتquot; التغطية على سرقة أموال الدولة وتقاسم السرقة حتى مع المفتشين المكلفين بحماية هذه الأموال. أما تبريرهم لهذه الممارسة (على أنها أمر طبيعي) فيمتد في جذوره الى عقود طويلة من القمع والفراغ الثقافي وممارسة الرشوة وانتشار السرقات. وهكذا يشكل واقع الممارسة المنتشرة للفرهود أو النهب مثلاً آخر على أهمية النظر الموضوعي في ثقافتنا وأخلاقنا السائدة (لا المُعلنة) وضرورة تحليل تأثيراتها على واقعنا السياسي والاقتصادي كجزء أساسي لأية معالجة حقيقية لأوضاعنا المتدهورة ولكي لا نظل موضوعاً للسخرية أو الشفقة مع ما نمتلكه من ثروات بشرية ومادية هائلة.