في إحدى المقالات
السّابقة، كنت كشفت بعض الأمور الّتي عادة ما يخفيها أبناء قومنا. يظهرون علانية قولاً وكتابة بصورة معيّنة، بينما الحقيقة تظهر جليّة في حالات من الحديث الشّخصي الّذي يبوح بأمور أخرى بعيدًا عن وسائل الإعلام. ذكرت في تلك المقالة إنّ أحد الكتّاب المعدودين على الوطنيّين جدًّا، وهو بحقّ كذلك ولا أنوي التّقليل من عواطفه الوطنيّة الجيّاشة، كان أسرّ لي في حديث شخصيّ، بعد أن كنت أكيل النّقد إلى السّلطة ورموزها وسياساتها وفسادها، قائلاً لي: quot;يا أخي، أنتم في إسرائيل تستطيعون قول وكتابة كلّ ما تشاؤون، أمّا نحنُ فلا نستطيع ذلكquot;. وبعد أن حاولت تأنيب ضميره على هذه الحال، مشدّدًا على إنّه قد آن الأوان أن نكون مجتمعًا صريحًا وشفّافًا، لأنّه بدون ذلك لن تقوم لنا قائمة، فقد جاء ردّه على كلامي مفاجئًا، لدرجة أنّي حزنت حزنًا عميقًا على حالنا. لقد أجابني بالقول: quot;يا أخي، أعطني هويّة إسرائيليّة، ولتذهب فلسطين إلى الجحيم!quot;
تذكّرت هذه المحادثة
من جديد، بينما استمعت إلى خبر أشاعته إحدى القنوات الإسرائيليّة، كما قرأت الخبر ذاته أيضًا في صحيفة quot;هآرتسquot; الإسرائيليّة. والخبر الّذي أقصده يتلخّص في قيام المفاوض الفلسطيني أحمد قريع المكنّى quot;أبو علاءquot; بتوسيط تسيپي ليڤني، وزيرة الخارجيّة الإسرائيليّة وحاملة ملفّ التّفاوض مع الجانب الفلسطيني الّذي يحمل ملفّه quot;أبو علاءquot; ذاته، من أجل استصدار هويّة إسرائيليّة لابنته. وقد ذكر الخبر في quot;هآرتسquot; إنّ مكتب وزيرة الخارجيّة أفاد إنّه استلمَ طلبًا من مكتب quot;أبو علاءquot;، غير أنّ إجابة مكتب وزارة الخارجيّة لا يُعالج هذه القضايا، وقد تمّ توجيه quot;أبو علاءquot; إلى جهات في وزارة الدّاخليّة لمواصلة المعالجة، بدون أيّ تدخُّل أو توصية من مكتب وزيرة الخارجيّة لوزارة الدّاخليّة. وقد أفاد مكتب وزارة الدّاخليّة أنّ quot;الطّلب قد تمّت المصادقة عليه، وأنّ كلّ شيء تمّ بموجب القانونquot;. (عن: quot;هآرتسquot;). لقد انتظرتُ طويلاً وبحثت مليًّا عن إشارة ما إلى هذا الخبر في الصّحافة الفلسطينيّة، غير أنّي عدتُ بخفّي حنين.
أَوَليسَ خبرٌ مثل هذا بحاجة إلى
إشارة في الصّحافة الفلسطينيّة؟ أوليس بحاجة إلى تعليق ما من قبل كُتّاب، سياسيّين أو مسؤولين فلسطينيّين؟ كيف يمرّ خبر مثل هذا دون أن يتطرّق إليه أحد؟ ثمّ، ألا يسأل المسؤول الفلسطيني نفسه، وهو حامل ملفّ المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، ماذا يعني تقديمه طلبًا لهويّة إسرائيليّة لابنته؟ أوليس من المفروض أن يكون هو quot;حامي حمىquot; الهويّة الفلسطينيّة الّتي يتبجّح بها ليل نهار؟ إذن، كيف يستقيم كلّ هذا؟ وماذا يقول سائر النّاس في قرارة أنفسهم؟ إذا كان هذا quot;الزّعيمquot; يطلب هويّة إسرائيليّة لابنته، فكيف ستنظر عامّة النّاس إلى الأمر؟ وعن أيّ هويّة فلسطينيّة يتحدّثون؟ وهل هذه الهويّة تعني أنّهم سيسارعون إلى الحصول على هويّات إسرائيليّة لو خُيّروا بذلك؟
لقد حاولت إسرائيل
في الثّمانينات من القرن المنصرم فرض الهويّة الإسرائيليّة على سكّان الهضبة السّوريّة المحتلّة، فرفض هؤلاء الهويّات الإسرائيليّة رفضًا قاطعًا، ما أدّى إلى فرض حصار محكم عليهم دام أكثر من نصف سنة. غير أنّهم لم يستسلموا لفرض تلك الهويّات عليهم، بل أكثر من ذلك، قام هؤلاء في الجولان المحتلّ بفرض الحرمان على كلّ من يقبل الهويّة الإسرائيليّة، كما جمعوا تلك الهويّات في أكوام في ساحات القرى الجولانيّة وأحرقوها علنًا أمام أعين قوّات الاحتلال.
أمّا هنا، فماذا نرى؟
نرى كاتبًا فلسطينيًّا يبوح سرًّا بأنّه لو مُنح هويّة إسرائيليّة فسيدع فلسطين تذهب إلى الجحيم. وها هو quot;زعيمquot; فلسطيني، كما نشرت الصّحافة الإسرائيليّة، يتوسّط لدى وزيرة خارجيّة إسرائيل لاستصدار هويّة إسرائيليّة لابنته. بينما لا يجد القارئ أثرًا لهذه المسائل في الصّحافة الفلسطينيّة. لا أحد يسأل نفسه، لا أحد يطرح تساؤلات أو يثير قضايا جوهريّة حول الحال الفلسطينيّة، وحول الدّرك الأسفل الّذي وصلت إليه بسبب انعدام الشّفافيّة والفساد الكبير الّذي نخر في عظام هذا quot;الشّعبquot; الّذي نُكبَ بزعاماته، على اختلاف تيّاراتها، وعلى مرّ تاريخه القصير نكبةً تضاهي نكبته الأولى.
فماذا أقول، إذن؟
ربّما كان في بعض الرّسائل الّتي وصلتني في الآونة الأخيرة من بعض الإخوة الفلسطينيّين ما يشي بحال الخراب هذه. جلّ تلك الرّسائل تقول بما معناه: إنّنا نحسدك على وجودك بعيدًا عن هذا الوضع، بعيدًا عن هذه الحال، وبعيدًا عن هذه الزّعامات وبعيدًا عن هذه الأنظمة.
إنّ أكثر ما يؤرّقني، في هذه الشّؤون، هو أنّي لا أجد أثرًا لأيّ حساب نفس يجري علنًا وبصراحة في مجتمعاتنا. وسيظلّ لسان حالي يقول: آن الأوان أن نتصارح لكي نتصالح.
والعقل وليّ التّوفيق!
*