يقولون بلادي عزيزة ولو جارت، ولكن الله يقول أن من يصبر على الظلم ولا يهاجر عليه لعنة الله والملائكة أجمعين..
وهكذا فكثير من المفاهيم نسقيها لأولادنا، بما هي ضد مفاهيم القرآن، فنحصد النتائج ذلا مقيما وفقرا مدقعا وخسفا ومسخا وريحا حمراء؟؟
اجتمعت برجل أعرفه منذ أيام الطفولة، وفوجئت بأنه على وشك الفرار إلى كندا بعائلة كبيرة مكونة من 15 نفراً؛ بما يكفل له راتباً كريماً مما تقدمه الحكومة الكندية للأطفال (200 دولار للطفل الواحد) يزيد عن راتب ثلاث وزراء في جمهوريات الخوف والبطالة.
لم يكن الرجل يشكو من ضيق ذات اليد، ولم يكن ملاحقاً سياسياً، بل منغمساً في بيئة منغلقة أشد من انغلاق عقله بثلاث مرات، ولا يزيد فهمه في السياسة عن فهم فلاح في رياضيات التفاضل والتكامل، أو نجار في علوم الذرة والفضاء، ويعتقد جازماً أنه يعيش في بيئة أقرب لمجتمع الصحابة؛ مع كل هذا فقد فر من رغد العيش، ومجتمع الفضيلة، إلى بيئة يعتبرها (جاهلية) تشمر نساءها عن فخذ ولا يسمح فيها بأذان، ولا يدرس في مدارسها واعظ أية ديانة.
اتصل الرجل بي بعد فترة وقال لي: تصور أن ابنتي تفرش لها معلمتها سجادة الصلاة، وأنها تمشي في الشارع العام وهي مغطاة الوجه؟!
قلت له: إن كندا بلد متسامح مع كل القادمين، سواء من غطى وجهه أو كشف عورته؟ صلى أو كفر بالذي خلق السموات العلى ورب العرش العظيم، وعناية الدولة بالمجانين، لا تقل عن عنايتها بالعقلاء، ولكن سؤالي إليك: لماذا هربت إلى دار الكفر؟ ولم تلجأ إلى دار الإسلام مثل السودان مثلاً؟
اضطرب الرجل ولم تسعفه الكلمات.
قلت له سأريحك أنا بالإجابة. إنها (الضمانات) يا صاحبي!! خاصة وأنت تفر بثروتك حيث يبحث رأس المال عن الأمان أكثر من الديانة.
وروى أحدهم لزوجتي، وهو يؤدي القسم لنيل الجنسية الكندية، أنه كان في حيرة من أمره بين (ديموقراطية كافرة) يؤدي قسم الطاعة لحكومتها. وبين مجتمع ينعم فيه بالضمانات من كل لون ضد المرض والشيخوخة والبطالة، وينام قرير العين بدون خوف من رجال المخابرات؟!
قال لقد دمعت عيني، وأنا أسمع ما تقوله القاضية؛ لأنها ذكرتني بقيم تمنيتها لوطني الذي هربت منه.
إن مشكلة (الدوغمائي) أنه يقع في التناقض بدون أن يشعر به. كمن يمشي على رأسه بدون أن يحس بالدوار.
واليوم يفر (المتشددون) إلى بلاد مثل بريطانيا والسويد وكندا وألمانيا هي في نظرهم قمة التحلل والإباحية ووطن الكفر. ويرفضون أن يعيشوا في بلاد الإسلام مثل اليمن السعيد، أو تحت قباب القيروان، وبجانب الأزهر الشريف، أو عند العتبات المقدسة في العراق.
إنهم يرفضون كل العالم الإسلامي ويوجهون وجوههم شطر الغرب فلماذا؟
إن الهجرة تخضع لقانون ساحق ماحق يعمل تحت أبصارنا كل يوم سواء في الفيزياء أو منطق الطير أو ولادة الحضارات، سواء أدركناه أو خفي علينا.
في الفيزياء ينزح الماء بين وسطين مختلفي التركيز يفصل بينهما غشاء نصف نفوذي باتجاه الوسط الأكثر تركيزا بالأيونات.
وفي قوانين المياه المستطرقة إذا اتصلت أوساط مختلفة الحجوم؛ فإن الماء يتحرك حتى يحدث السواء في الارتفاع.
وبرادة الحديد تنجذب حول القطب المغناطيسي تحت قانون الاستقطاب. وطيور السنونو تغادر بحثاً عن الحب والدفء.
وشلالات نياجارا تتدفق من عل فتولد الكهرباء في مولدات التشغيل. ولا تصعد لفوق؟ سنة الله في خلقه؟
والعقول تفر حيث كرامة العلماء ومراكز البحث.
والمال يطير بجناحين من يورو ودولار حيث الأمان والنمو.
فهذه قوانين وجودية لا علاقة لها باختيار وتفكير وتكفير، بل هي تشفط العقول والأموال والكفاءات بأشد من تيار النينو الأطلسي. فتنهض أمم وتزول أخرى.
وعندما يمتنع على الناس إمكانية ممارسة العيش المشترك يتشظى المجتمع ويبدأ الفرار في ثلاث اتجاهات:
ـ من أسعفه الحظ فقفر إلى الخارج ونجا.
ـ ومن انسحب (اجتماعياً) إلى الداخل؛ فمارس هجرة داخلية، كما تفعل القطة بإخفاء صغارها.
ـ أو من انتحر بمسبحة المتصوفة أو كهوف تورا بورا.
والسؤال الكبير لماذا يفر الإنسان من وطنه؟
لماذا نزح موسى بشعب كامل؟
لماذا فر أصحاب الكهف فاستبدلوا الفراش اللين ببرودة الكهف؟ وفضلوا أن يهرب الكلب معهم؛ فلا يعيش في مجتمع لا أمان فيه للكلاب.
إنه كلام ليس للتسويق، ففي أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي، تم تدشين مذبحة جماعية للكلاب، فقتل في يوم واحد ثلاثين ألف كلب، ونام أهل القاهرة تلك الليلة وببركة الإله الحاكم المجنون، بدون صوت كلب واحد يزعجهم.
وفي عهد ماوتسي دونغ جاءت التعليمات بالتخلص من العصافير والأعشاب والشجر، فهرع الناس ضربا بالصنج والدف والطناجر، يفزعون الطيور الآمنة؟ فلا تستطيع الجلوس على غصن حتى ماتت إعياءً؟!
وتم تسخير كل المعارضين السياسيين، لينكبوا على الأرض فينتزعوا بأظافرهم كل أعشاب الأرض.
وتم قطع ملايين الشجر من اجل أيقاد أفران لا تنطفيء لإنتاج الفولاذ، تحت وهم اللحاق بأمريكا في خمس سنوات؟! فأهملت الزراعة إكراما لتعليمات الطاغية، ومات في ثلاث سنوات ثلاثين مليون من الأنام!!
لماذا هاجر إبراهيم لوحده، وموسى بشعب كامل، ومجموعة من أصحاب الكهف، وهرب لوط فقال له الله: ولا يلتفت منكم أحد، وامضوا حيث تؤمرون؟
لماذا دشن نوح لأهل بيته سفينة تقلهم إلى الأرض الجديدة؛ فلم يبق على الأرض من الكافرين ديارا.
إن القرآن يضع فلسفة محددة لقانون الهجرة، وهي إما إلى مجتمع لا استضعاف فيه، وإما بناء مجتمع لا أثر للاستضعاف فيه، أو مكافحة الظلم في مجتمع الاستضعاف إلى حين التحرر.
وهنا شرع الإسلام القتال المسلح ضد مجتمعات من هذه النوعية، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، فحيث الفتنة والاضطهاد العقائدي وجب تجميع قوى العدل في كل مكان وتدمير الأنظمة الشمولية التي تعيق العدل وتنشر الفتنة وتخرج مجتمع الطاغوت والقردة والخنازير.
وأهمية هذه النقلة أنها مضاعفة التأثير، فهي حركة تحرر للجنس البشري بدون توقف، كما فهم ذلك الفيلسوف (إيمانويل كانط) أن استعمار الأرض تم من خلال هجرة الناس المضطهدين (المستضعفين)..
وبالمقابل فإن هذه المجتمعات أطلقت قوة لا مثيل لها من طاقة تحرير الشعوب، التي فارقتها، كما انفجرت الثورة الفرنسية تأثرا بالثورة الأمريكية.
وفي آية الهجرة بعدين:
ـ (سعة) بالتحرر من ضيق الأرض والرزق والعقيدة إلى رحابة الأرض وسعة الرزق والتسامح الديني.
ـ وهي (مراغماً) أي قوة تجبر المجرمين وترغم أنوفهم بتغيير مسلكهم تجاه شعوبهم من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
فحركة الهجرة تعتبر بذلك نواة التغيير غير المباشرة والمعكوسة، ضد أماكن اضطهاد الناس، فهي ضرورية سواء طلبها الناس، أو فروا إليها.
وحين توجهت نية أمريكا في ضرب العراق، وكنا نفكر لماذا تنصب على رؤوسنا المصائب؟
ولكن المشكلة تشبه قصة جحا، فلو ناقش العرب جميعاً يومها عما سيحدث؟ فإن مثلنا مثل من لا يملك في جيبه دولارا، ويريد دخول أسواق الأسهم للمضاربة، بأسهم شركة نورتيل أو نوكيا!!
نحن في الحقيقة نشبه تلك الغنائم التي وضعت الألوية الرومانية يدها عليها في العالم القديم، وكانت جاهزة لأي نهاب خارجي، أو مافيا داخلية، كما هو الحال في دول الطغيان الشمولي في العالم العربي وسواه مثل بروما وكوريا وكوبا من بقايا الأنظمة الستالينية، وهي تتفق مع الرؤية الكونية لابن خلدون عن عمر الدول، وكيف أنها تستمر في البقاء ليس لقوة ذاتية فيها، بل لانتفاء الطالب.
وأمريكا اليوم هي روما الجديدة، ونحن لا نزيد عن أشياء مسخرة، تلعب بنا ما تشاء فقد تنصب (قرضاي) جديد في العراق، فيحكم كاتبغا المغولي بدلا هولاكو.
وقد تستبدل جنرالا جديدا في أرض الحمدانيين.
أو قد تضع الزير أبو ليلى المهلهل بدل درة المتقين.
أو امنحوتب الرابع بديلاً عن بيبي الثاني.
أو أن تمد يدها إلى بلاد التركمان فترفع تركمان باشي الذي غير وزور التاريخ، فوضع اسمه واسم أمه، بديلا عن ابريل وحزيران، وصفق مجلس القرود له خشعا على ركبهم نصف ساعة يستعطفونه أن يبقى على رقابهم إلى يوم القيامة، كما تصفق القرود في مجالس الشعب في الأقطار الثورية،أو كما خرجت الملايين في استقالة عبد الناصر تطلب منه أن يتابع القيادة بعد أن رسب في الامتحان.
إنها أمور لا تحدث إلا عندنا.
ولكن من يمشي على رأسه يخسر رأسه ورجليه معاً.
إن الوثنية مرض عجيب حلله منذ عام 1562 اتيين دي لابواسييه فاعتبره مرضا إنسانيا مثل القراد الذي يضرب قبائل النحل فلا يبقى قفيرا ولا عسلا.
راجع مريض يوما طبييه خائفا..
قال: يادكتور أرجوك طمني.. يقولون أني مصاب بمرض سأموت منه؟ هل هذا صحيح؟ أرجوك طمني؟؟
اجابه الطبيب: لا أظن ذلك ولكني لا أنصحك بالحياة؟؟
ونحن هكذا أموات في الحياة... والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون..