اثارت محاضرة الأنبا توماس أمام معهد هادسون المعروف بواشنطن يوم 18 يوليو 2008 جدلا ونقاشا ساخنا فى مصرحول مسألتين: الاولى، هوية مصر وهل هى عربية إسلامية ام هوية مصرية؟. والثانية، وضع الأقباط تحت الاصولية الإسلامية، والقضيتان متداخلتان ومتشابكتان. فإذا أقررنا بأن مصر عربية إسلامية ومن ثم بالتداخل بين الدين والدولة والسياسة والتشريع والنظام العام والطابع العام للدولة، فمعنى ذلك إقرارنا بدينية الدولة ومن ثم بأننا تحت ظل دولة دينية إسلامية، ومن ثم بإستحالة المساواة بين المختلفين فى الدين فى ظل دولة دينية. علاوة على أن الدولة الدينية الإسلامية أحد أهدافها الرئيسية عبر التاريخ هو الأسلمة... من أسلمة البشر إلى الثقافة إلى التشريع والنظام العام. ولكن إذا أقررنا بأن مصر مصرية ومن ثم دولة مدنية حديثة نكون قد قبلنا باهم أسس الدولة الحديثة وهى المواطنة حيث تكون المواطنة وليست العقيدة هى مناط الحقوق والواجبات، ونكون قد انصفنا تاريخ مصر الذى استمر آلاف السنيين قبل الغزو العربى.
والأسلمة مصطلح جديد من الناحية المعرفية كمصطلح ولكنه كمحتوى قديم قدم الدين ذاته، فبألتأكيد هدف الإسلام، كما هو هدف كل دين، زيادة اتباعه أو هداية البشر وفقا للتوصيف الإسلامى والخلاف ليس على ذلك وإنما فى أى سياق وما هى الوسائل وحول أيضا درجة حياد الدولة تجاه الأديان... والواقع والتاريخ ينفيان تماما أى حياد للدولة الإسلامية تجاه الاديان.
وهنا نصل للحقيقة المرة، أننا لسنا بصدد اجترار التاريخ ولكننا نعيشه مجسما فى الحاضر، ولسنا بصدد نكأ الجراح ولكن نحاول تنظيف الجروح حتى تتطهر وتشفى.
والجدل المثار حول محاضرة الأسقف اثير مثيله من قبل فى مناسبتين سابقتين، وفى المرات الثلاثة كان المغزى سلبيا، والهدف هو إجهاض النقاش حول معرفة الحقيقة ومن ثم وأد الحلول الحقيقية.
فى عام 1994 حاول د. سعد الدين ابراهيم عقد مؤتمر فى القاهرة عن حقوق الأقليات،وقامت القيامة وقتها، واتفقت المعارضة والحكومة واليسار والإسلاميين على رفض توصيف الأقباط كأقلية، ومن ثم منع عقد المؤتمر فى القاهرة، والذى رحل إلى قبرص فيما بعد.
المعنى واضح، رفض العلم، ورفض التعريفات الدولية، ورفض مواثيق الأمم المتحدة لحقوق الأقليات، ورفض المنطق، والاهم رفض الإنصاف والحل، حيث أن التوصيف الحقيقى هو جزء من الحل.
ونشرت الصحف المصرية أكثر من مائتى مقالة فى معظمها تهجو وترفض ما هو معلم بالضرورة... وهو وضع الأقباط كأقلية.
فى عام 1998 أصدر الكونجرس الأمريكى قانونا للحريات الدينية، ورغم أن هذا القانون خاص بامريكا وليس بمصر، وهو شأن امريكى يتعلق بعلاقاتها الدولية الثنائية،إلا أن الهياج كان على أشده فى مصر قبل صدور القانون بستة أشهر. فى الظاهر هذا الهياج هو إعتراض على تدخل امريكا فى الشأن المصرى، ولكن فى الواقع هو اعتراض على مفهوم الحريات الدينية كما يعرفها العالم المتحضر واعتراض على اقرار الحريات الدينية فى مصر. ورصد د. سعد الدين ابراهيم حوالى 50 مقالة ضد القانون فى الصحف المصرية كلها تلعن وتسب بدون أن تقدم حلا. وجمعت توقيعات ونشر بيان ضد القانون الأ مريكى فى صحيفة الشعب فى 13 مارس1998... الهدف الحقيقى عند هؤلاء هو اجهاض أى بادرة أمل لاقرار الحريات الدينية فى مصر.
فى عام 2008 أثارت محاضرة أسقف القوصية نفس الضجة ونشرت الصحف حتى كتابة هذه السطور حوالى مائة مقال وتحقيق وخبر وتعليق على المحاضرة كما رصدتها، وفى معظمها تدين الاسقف، وبعضها يهدد الأقباط أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الامور بإدعاء تهجم الأسقف على العروبة وتشكيكه فى إيمان ووطنية الأغلبية... ولكن الهدف الحقيقى هو رفض الاقرار بدولة مصرية مدنية تفصل الدينى عن السياسى ومحاولة طمث التاريخ والحضارة والتراث المصرى الذى استمر آلاف السنيين قبل غزو العرب لمصر، مع الاصرار على أن مصر دولة عربية إسلامية وبأن الإسلام دين ودولة يسيطر على النظام العام فى مصر. ووصل الأمر بدكتورة زينب عبد العزيز كتابة مقالة ترفض فيها وجود تراث قبطى أو فن قبطى وترفض وجود لغة قبطية من الأساس فى أى عصر من العصور المصرية، رغم أن الموسوعة القبطية التى صدرت عن جامعة يوتا الأمريكية فى 3000 صفحة كتبها مائتى عالم من امريكا واوروبا، ورغم أنه فى الفترة ما بين 15-21 سبتمبر 2008 سيجتمع فى القاهرة أكثر من مائتى وخمسين من العلماء الأجانب لمناقشة هذا التراث القبطى الذى ترفضه السيدة الدكتورة، وهو المؤتمر الدولى التاسع للقبطيات الذى يعقد كل اربعة اعوام فى احدى المدن الكبرى فى العالم منذ عام 1976.
أما السيد عبد العظيم حماد فيتمادى اكثر فى الاهرام، الجريدة الرسمية للدولة،بتاريخ 18 اغسطس 2008 ويقول quot;ان محاضرة الأنبا توماس هى دعوة إلى إحياء قبطى على غرار الإحياء الصهيونى فى فلسطينquot;، ويحذرنا بأن قبول الأقباط لعروبة مصر ولإسلاميتها هو شرط أساسى للوحدة الوطنية والخروج على ذلك هو خط احمر وهو خروج على الطابع العام للدولة.
اما السيد حسن ابو طالب فيتمادى اكثر واكثر فى الاهرام بتاريخ 20 اغسطس 2008 ويهددنا صراحة بالعنف والقتل،وهى جريمة تهديد مكتملة الاركان تستوجب المساءلة القانونية،حيث يقولquot; انظروا إلى هذا الساذج ساكشفيلى الذى تصور انه يستطيع أن يجلب العون الأمريكى لمواجهة الروس، ثم انظروا إلى ما فعله الروس الاقرب إلى الأرض بهذا الساذج، نرجوكم لا تتصوروا انفسكم ساكشفيلى آخرquot;.
عندما نقول أن الخلط بين الدين والدولة والسياسة معناه بوضوح تبنى خيار مصر دولة دينية نسمع اجابات ملتوية وناكرة.
وعندما نقول،عندما يكون التشريع مصدره الأساسى الدين فنحن إزاء دولة دينية، نسمع نفس الكليشهات الملتوية والناكرة لما هو معلوم من العلم بالضرورة.
وعندما نقول أن تدخل المؤسسات الدينية فى القوانيين والتشريع والإبداع والرقابة على إيمان الناس وفكرهم وإنتاجهم العلمى والأدبى والفنى، نحن إزاء دولة دينية نسمع نفس الاجابات الملتبسة الغامضة الملتوية.
وعندما نقول لندع الجدل عن كيف تحول المصريون إلى الإسلام جانبا ولنفكر فى الحاضر نريد ان تتاح الحرية الدينية للمصريين ليختاروا الدين أو المذهب الدينى او الوضعى الذى يرغبون فيه... نسمع الرفض والسفسطة اللغوية الفارغة(ملاحظة: لم يتمتع المسلمون طوال تاريخهم ولو ليوم واحد بالحريات الدينية كما يقرها القرآن فى سوره المدنية، فإذا كان المسلم مجبرا على البقاء فى دينه فى القرن الحادى والعشرين فكيف يكون دخله إختياريا فى عصر السيف البتار!!!). أحد سمات الدولة الدينية فى كل الأديان وكل العصور غياب الحريات بصفة عامة والحريات الدينية بصفة خاصة.. وهذا هو خلافنا الأول مع من يقولون مصر دولة عربية إسلامية، لأن معنى ذلك بوضوح غياب الحريات بكافة أشكالها.
وعندما نقول لنتفق على ان بن لادن والظواهرى ومحمد عطا وامثالهم يسيئون للإسلام فلماذا لا تهب الأمة الإسلامية لإدانتهم وإصدار الفتاوى ضدهم. نسمع نفس الاجابات الملتوية والملتبسة. (حتى الأن لم تصدر فتوى واحدة من أى مؤسسة دينية إسلامية ضد اسامة بن لادن والظواهرى ومحمد عطا وغيرهم رغم تكفير هذه المؤسسات لمئات من المفكرين الأحرار). تبرير العنف هوأحد سمات الدولة الدينية فى كل الأديان وفى كل العصور.. وهذا هو خلافنا الثانى مع من يقولون مصر دولة عربية إسلامية، لأن معنى ذلك تبرير وتوسيع درجة العنف المقدس حسب درجة دينية الدولة.

ولكن ما معنى مصر مصرية؟
مصر مصرية تعنى أن مصر هى نسيج متنوع الالوان فيه الفرعونى واليونانى والرومانى والقبطى والنوبى والعربى والمسيحى والإسلامى، بما فى ذلك إستفادة مصر من الوافد الفرنسى والانجليزى، وتعنى أيضا هذا الثراء الحضارى التاريخى عبرهذه الرقائق الحضارية. والحديث على أن مصر عربية إسلامية هو تقزيم لمصر، وإعتداء على هذا التنوع الثرى، وتقزيم لتاريخ مصر،وتزييف للذاكرة الوطنية، وحذف آلاف السنيين من التاريخ المصرى العريق،وفوق ذلك هى عنصرية بغيضة. يقول الاديب الهندى نايبول الحائز على جائزة نوبل quot;أن الغزوات الإسلامية عملت بكل جهدها على محو الذاكرة الوطنية لشعوب عديدة وحضارات مختلفة،وكمشت تاريخ هذه الحضارات إلى التاريخ الإسلامى فقط فى هذه الدولquot;.
هذا هو الخلاف الثالث بيننا وبين هؤلاء الذين يقولون أن مصر عربية إسلامية.
وهذه السمات الحضارية المكتسبة على مر التاريخ هى التى تشكل هوية مصر... فهوية مصر مصرية... وهذه التهديدات السخيفة وسياسة فرض الامر الواقع بالقوة ليس لها قيمة عند الباحثين المنصفين الاحرار.
والمصريون الحاليون هم فى معظمهم من عرق واحد، وفى معظمهم ضاربين بعمق فى التاريخ لا فرق بين مسلم وقبطى، وفى معظمهم هم نتاج لهذا التنوع التاريخى بتأثيراته الإيجابية والسلبية المتفاوتة.
ولكن مع معنى مصر للمصريين؟
معناها بوضوح التساوى فى الحقوق والواجبات بين كل المصريين بصرف النظر عن دينهم او لونهم أو نوعهم أو عرقهم، فمن يكتسب الجنسية المصرية له نفس الحقوق والواجبات مثل من يرث هذه الجنسية... وهذه هى قواعد الدولة الحديثة. فانا كمصرى احمل الجنسية الأمريكية لى نفس الحقوق التى للأمريكى رغم أن هويتى وثقافتى وسماتى الأصيلة هى سمات مصرية، فى حين أن ابناء الجيل الثانى من المهاجرين تغلب على سماتهم الهوية الأمريكية ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات التى يقرها الدستور والقوانيين الأمريكية.
ولا علاقة للتقدم والتأخر بالهوية إلا إذا كانت هذه الهوية تؤثر بالسلب على عوامل التقدم،التى تعرفها المجتمعات الحديثة المتقدمة والتى يقررها العلم.
عوامل التقدم أصبحت معروفة،ومن المعروف أيضا أن الدولة الدينية مهما إن كان شكلها أحد المعوقات الرئيسية للتقدم. بصراحة أكثر أحد أهم عوامل التخلف فى الدول الإسلامية ومنها مصر هو دينية الدولة ودور ووضع الدين فى الدولة... وهذا هو خلافنا الرابع مع من يقولون بأن مصر دولة عربية إسلامية... فمعنى ذلك بوضوح تحجيم فرص مصر فى التقدم.
والدولة الدينية لا تعترف بالمساوة الكاملة لكافة أبناءها المختلفى الديانة، فهى دولة منحازة لدين الأغلبية... وهذا هو درس التاريخ، وهذا هو خلافنا الخامس مع من يقولون بأن مصر دولة عربية إسلامية، لأن معنى ذلك ببساطة القبول بوضع الأقباط كمواطنيين من الدرجة الثانية.
وناتى إلى سؤال أخير يتردد كثيرا ويوجهه البعض للأقباط هل تعتقد أن مصر حاليا تحت الإحتلال العربى؟.
الاجابة طبعا بالنفى ولا يقول ذلك إلا شخص مجنون. والأقباط والمسلمون الحاليون هم مواطنون أصلاء وهم أصل مصر وورثة تاريخها بسلبياته وإيجابياته.
الاحتلال العربى زال وانتهى منذ قرون طويلة بعد أن رسخ عبر الخلافة دعائم دولة دينية عنصرية تعلى الدين على الوطن مع كل ما يترتب على ذلك من تبعات مخيفة، ولا تعترف بدور الآخر الحضارى وترفض تدريس لغة المصريين الاصلية بجانب اللغة التى فرضها المحتل (يرفض النظام المصرى تدريس الحقب القبطية فى الجامعات ناكرا وجود حقبة قبطية وحتى لا يضطر إلى تدريس اللغة القبطية، وتمارس الإجهزة الأمنية المصرية بطشها لوقف أى محاولة لإحياء أو تدريس للغة القبطية فى الاوساط القبطية)، والمصريون الآن يضطهدون بعضهم البعض... والكثير من البلاد العربية حاليا أكثر تسامحا دينيا من مصر.
ما هو الحل وهل من الممكن تقديم بديل حضارى يستوعب كل المصريين على أرضية دولة حديثة عصرية تأخد بأسباب التقدم؟.
البديل الحضارى الذى يحترم التنوع متاح بالفعل، ووصفة التقدم موجودة، وخبرات الدول الحديثة فى التقدم معروفة.. ولكن من ينفذ هذه الاجندة؟.
نحن نملك بالفعل مشروع حضارى لتقدم مصر ونعرف مفاتيحه وأدواته.. ولكن لا نملك ولا نستطيع تنفيذه ولن يعطينا أحد الفرصة، فحراس التخلف اقوى بكثير من دعاة التقدم.
نحن واقعيون، نقاوم التمييز والظلم والإضطهاد والقبح، أما تقدم مصرفهى مسألة صعبة للغاية ولن تحدث فى جيلنا ولا فى الجيل القادم... وربما لن تحدث ابدا.
Magdi.
khalil@yahoo. com