إضافة الى الأهمية الإستراتيجية للمياه ومصادرها باعتبارها ضرورة أساسية لاستمرار الحياة الإنسانية ولتنمية الثروة الزراعية والحيوانية، يتأكد يوماً بعد يوم أهمية البعد الجديد لهذا الموضوع، أي نوعية المياه ونظافتها. حيث يشهد العالم منذ سنوات طويلة استفحال ظاهرة خطيرة تتمثل في تلوث مياه الشرب وكذلك في تدهور نوعية المياه المستخدمة في الزراعة، إذ يموت يومياً أكثر من ثلاثين ألف شخص في العالم بسبب نقص المياه الصالحة للشرب، ومن جهة أخرى وبسبب المعاناة من شحة الماء يلجأ الفلاحون إلى استخدام المياه الوسخة (المجاري) لسقي المزروعات التي تشكل غذاء الإنسان ويجري ذلك في بلدان عديدة تصدر منتجاتها الزراعية إلى بلدان العالم المختلفة ومنها البلدان العربية. وقد اهتمت الأمم المتحدة لاسيما منذ بداية التسعينات بهذه المشكلة الخطيرة وأعلنت جمعيتها العامة سنوات 2005-2015 عقداً دولياً للعمل على ترسيخ مبدأ quot;الماء أساس الحياةquot; بالترويج على سبيل المثال لأهمية الماء ونظافته واستخداماته (في الطاقة مثلاً) والاعتدال في صرفه والاهتمام بشبكات الصرف الصحي والمحافظة على البيئة وذلك من خلال المنشورات المختلفة وورش العمل والاجتماعات الدولية.
وقد دفعت هذه التطورات المعهد العالمي للماء الى اختيار هذه المشكلة كمحور لمؤتمره السنوي (الأسبوع الدولي للماء) المنعقد هذا العام في ستوكهولم اعتباراً من 17 آب (أغسطس) الحالي وشارك فيه 2500 من الباحثين والمسؤولين والناشطين في المنظمات غير الحكومية وممثلي الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية وقد قدموا من 140 بلداً. وفيما يتعلق باستخدام مياه المجاري في سقي الأراضي المزروعة، نقلت وكالات الأنباء أن الباحثة ليكا راشيد سالي أظهرت في بحثها المقدم الى المؤتمر أن هذه الممارسة، أي سقي الأراضي بالمياه الآسنة (المجاري)، منتشرة بشكل واسع في العالم الثالث حيث تشمل عشرين مليون هكتار من الأراضي الزراعية القريبة من المدن الكبيرة وتتوزع في بلدان عديدة مثل الصين والهند وفيتنام وجنوب الصحراء الأفريقية وفي بلدان أمريكا اللاتينية. وبسبب زيادة الطلب على المياه نسبة إلى الموجود منها، يعاني خمس سكان العالم من شحة المياه وستصل هذه النسبة إلى 30% في سنة 2025. وبالتالي فليس مستغرباً في ظل ظروف الفقر والإهمال الحكومي أن يعاني الكثيرون من تدهور المستوى الصحي حيث لا يمتلك 2.6 مليار من البشر إمكانية استخدام المرافق الصحية، وما يعنيه ذلك من تزايد فرص الإصابة بالأمراض الخطيرة والمعدية، علماً بأن العالم يشهد سنوياً وفاة مليون وأربعمائة ألف طفل بالكوليرا وأمراض أخرى بسبب استخدام المياه الوسخة. كما يعالج المؤتمر مواضيع أخرى مثل تأثير النشاطات البشرية على موارد المياه حيث خُصّص يوم 19 آب (أغسطس) للبحث في قارة آسيا العملاقة التي يقطنها ما يقارب 60% من سكان العالم وتعاني من تناقص مواردها المائية بسبب النشاط الاقتصادي، لاسيما في البلدان الصاعدة أي تلك التي شهدت تنمية اقتصادية سريعة نسبياً.
نحو quot;مرصد عربي للأمن الغذائيquot;
تفرض هذه الأوضاع وانتشار الممارسات الخطيرة في نتائجها على الصحة العامة إقامة مرصد عربي للأمن الغذائي في إطار الجامعة العربية (تابع للمنظمة العربية للتنمية الزراعية أو أي جهاز آخر فيها) ويهتم بشكل أساسي بالمهام التالية:
1- رصد وخزن المعطيات المتعلقة بنوعية المنتجات الزراعية في مختلف البلدان وتشخيص الظواهر والظروف والخصائص التي تميز زراعة هذه البلدان ويعني ذلك الاهتمام أيضاً بالكوارث الطبيعية التي تترك آثارها أحياناً على الأرض الزراعية وعلى طرق زراعة هذه المنتجات الغذائية ونوعيتها.
2- تقديم ما يشبه خارطة متابعة لمسيرة المنتجات التي يراد محاصرتها ومنعها من دخول الأسواق العربية وذلك برصد عمليات بيعها أحياناً بكميات كبيرة الى بلدان تجارية غنية أو شركات متعددة الجنسيات تقوم بإعادة تصديرها كما هي أو معلبة في أشكال جديدة.
3- تقديم توصيات ومقترحات تمكن أصحاب القرار من اتخاذ الخطوات والإجراءات الضرورية لحماية مواطنيهم من نتائج التنمية غير المتوازنة وممارسات السقي بالمياه الوسخة وغيرها من العمليات المرفوضة صحياً.
4- المساهمة في إمداد مراكز البحث والدراسات المتخصصة بالمعلومات والتشخيصات المفيدة.
5- توعية المستهلك العربي بما يتعلق بنوعية مشترياته من المواد الغذائية.
وإضافة الى هذه المهمات الدفاعية إن صح التعبير، يمكن للمرصد أن يساهم في توفير العناصر الذاتية للأمن الغذائي العربي مثل تقدير الاحتياجات الغذائية مع مسح القدرات الزراعية ودراسة استصلاح الأراضي وتحسين شبكات الري وتشجيع المشاريع الضرورية للأمن الغذائي العربي (في مجالات القمح والسكر والثروة الحيوانية، الخ) وتطوير التعاون والمشاركة بين الدول العربية (مؤسسات عامة وشركات خاصة) من أجل تحقيق تنمية زراعية مستدامة. لقد تصدرت هذه العناصر الذاتية قائمة الأولويات عند التطرق للأمن الغذائي العربي في اجتماعات القمة العربية (لاسيما منذ قمة تونس 2004) وتقارير اللجان المختصة في المنظمة العربية للتنمية الزراعية ومؤتمرات هذه المنظمة (مثل مؤتمر أبو ظبي، 20-23 نيسان (أبريل) 2002، ومؤتمر الرياض والإعلان المنبثق عنه، 26-30 نيسان (أبريل) 2008. ومع تقديرنا للجهود العربية في هذا المجال، وبانتظار تحقيق الهدف الأسمى (والبعيد نسبياً كما يبدو) باستكمال العناصر الضرورية لتحقيق الأمن الغذائي في مجال التنمية الزراعية (والحيوانية) المستدامة، يفرض علينا واقع الحال دعوة القيادات المختصة وأصحاب القرار العربي الى الاهتمام بالجانب الآخر للأمن الغذائي والمتعلق بنوعية المنتجات الزراعية المستوردة الى العالم العربي ومدى صلاحيتها الفعلية للاستهلاك البشري. وهو الجانب الأكثر مساساً بالواقع العربي الحالي المعتمد وللأسف على الاستيراد في العديد من البلدان العربية، ومن هنا جاءت ضرورة التنبيه للمخاطر المتجددة على الأمن الغذائي والدعوة إلى تأسيس مرصد عربي لتشخيص هذه الأخطار وتفاديها.
[email protected]