قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يكون عام 2008 هو العام العالمي للغة الأم، وقد يبدو الأمر للبعض من قبيل الرفاهية الثقافية التي لا تقدم ولا تؤخر في حياة الشعوب ومصيرها، وبالتالي يحق لهذا البعض أن يتعجب من اهتمام الجمعية العامة بمثل هذه الأمور، لكن الحقيقة أن للغة الأم أهمية تتعدى ما يتصورون، فلغة الأم هي أول ما يصنع الإنسان، ويشكل ملامح شخصيته، ومن الصعب بعد ذلك أن تزيل ما تشكل بناء على ذلك من ملامح، أو تعالج ما حدث من تشوهات.
للشعوب المتحدثة باللغة العربية إشكالية عويصة مع مفهوم quot;لسان الأمquot;، فاللغة الرسمية المعتمدة، والمسماة quot;العربية الفصحىquot; ليست quot;لغة أمquot; لأي من تلك الشعوب، حتى تلك التي تستوطن الجزيرة العربية، فنحن جميعاً ننمو ونفهم الحياة وفقاً لمفردات واصطلاحات لهجاتنا المحلية، المختلفة أصول بعضها تماماً من حيث تركيب الجملة عن اللغة العربية الرسمية، فالعامية المصرية مثلاً تختلف عن quot;العربية الفصحىquot;، ليس فقط في عدد المفردات المنحدرة إليها من اللغة المصرية القديمة، المعروفة بالديموطيقية، وإنما تختلف بالأساس في طريقة تركيب الجملة grammar، فهي تتبع طريقة تكوين الجملة في اللغة الديموطيقية، التي تعرف حالياً باسم اللغة القبطية، وحين يذهب التلميذ إلى المدرسة، يكون عليه أن يتعلم ويكتب ويفكر بلغة جديدة مختلفة كل الاختلاف عن لسان أمه، وهذا هو السر وراء ضياع مجهودات محو الأمية في مصر أدراج الريح.
لكن الإشكالية الأكبر في تلك القضية، هي قضية ازدواجية الفكر والممارسة، فالإنسان المصري يعيش حياته وفق مفاهيم مفردات لغة أمه، التي هي العامية المصرية، التي اعتبرها بعض الدارسين، ليست عامية quot;العربية الفصحىquot;، وإنما اعتبروها الصيغة الأحدث من اللغة المصرية، التي تطورت عن اللغة المصرية القديمة، معتبرين أن بناء الجملة هو معيار تصنيف اللغة، وليست أصول المفردات، حيث تشترك العديد من اللغات، ومنها العربية، في قليل أو كثير من المفردات.
ثم هناك إشكالية أخرى في اللغة، تقع شعوبنا فريسة لها، هو تزايد معدلات تطور جميع لغات العالم وتلاقحها، نتيجة ثورة الاتصالات، وهذا يعتبر بالنسبة للكثيرين منا مصدر تهديد لهويتنا وكياننا، خاصة على ضوء ما للغة العربية من خصوصية، تجعلنا كما لو كنا أمام مفترق طرق مصيري.
اللغة بصفة عامة نظام إنساني مفتوح للتواصل، وهي أداة ذات وظائف عدة، أولها التواصل اليومي بين البشر، ثم هي أداة الإنسان في التفكير، فلا يوجد فكر خارج اللغة، وإذا ما طرأت لأي منا فكرة جديدة لابد وأن ينحت لها لفظاً جديداً، اللغة أيضاً بمفرداتها واصطلاحاتها تلعب دور خزانة تراث وفكر الأمة المتحدثة بها، والمفردات ومحمولاتها تتطور مع الوقت، ملاحقة لتطور حياة الإنسان وفكره وخبراته، لهذا فللغة دور يشبه دور الأسمنت المجتمعي، فهي تحفظ للمجتمعات تماسكها، بما تمثله من توافق واتفاق مجتمعي على محمولات مفرداتها ومصطلحاتها، وهي أيضاً تصاحب عمليات التطور والتحولات المجتمعية، ما يظهر بوضوح في الفترات المفصلية من حياة الأمم، فما نرصده حالياً في مصر من انهمار مفردات جديدة ينحتها الشباب، تسبب الدهشة والانزعاج لجيل الآباء، هو بمثابة إرهاص بتطوير وتحريك للغة، سعياً لتأسيس توافق اجتماعي جديد ومختلف، عبر منظومة لغوية جديدة، تعكس فكر وملامح حياتية جد مختلفة عما عايشته أجيال سابقة، وعلينا أن نلاحظ أن منظومة اللغة ذات أهمية وفاعلية أقوى من الدساتير والقوانين، فالإنسان يعيش ويؤدي وفقاً لها، بطريقة سلسة وتلقائية، بل ولا شعورية.
في حالة اللغة العربية بالتحديد يبرز أحد أدوار اللغة، ويكتسب أهمية فائقة، نقصد ما ذكرناه عاليه من دور للغة في حفظ تراث وفكر الأمة المتحدثة بها، فما نعرفه باللغة quot;العربية الفصحىquot; ليس مجرد أداة أو وعاء للنص الإسلامي المقدس، بل هي جزء أصيل من هذا النص، بحيث لا يمكن استبدالها عبر الترجمة بلغة أخرى، لتكون وعاء لمفهوم النص أو محموله، كما حدث مثلاً مع اللغة اليونانية، كوعاء أول للنص المقدس المسيحي، انتقلت منه وعنه إلى أوعية أو لغات أخرى، فترجمات القرآن إلى لغات أخرى غير العربية لا تعدو أن تكون مجرد شرح لنصوصه لأصحاب تلك اللغات، دون أن تتخذ أي من تلك الترجمات وضعية أو مكانة النص المقدس ذاته.
هذه الوظيفة المقدسة للغة مهمة بالغة الجسامة، فالمقدس مطلق وثابت عبر الزمن، واللغة وفقاً لطبيعتها -كنظام إنساني مفتوح- متغيرة ومتحولة، مع تغيرات الأفكار والحياة الإنسانية، تسقط منها مفردات بعدم الاستعمال لانعدام أو انقراض ما تشير إليه، وتتغير محمولات مفردات أخرى، لتواكب تغييرات في المدلولات العملية على أرض الواقع، كما تدخل اللغة مفردات جديدة، بالنقل الآلي أو بتصرف من لغات أخرى، أو بنحت مفردات جديدة تماماً، لتعبر عن مدلولات مستحدثة.
هنا يظهر التناقض بين ما نطلبه من اللغة: أن تكون ثابتة ثبات وإطلاق النص المقدس، لتظل جديرة بوظيفتها ووضعيتها المقدسة فائقة الأهمية، وأن تكون في نفس الوقت حية ومتطورة، لتواكب التطور الحادث في الحياة والأفكار الإنسانية، لتكون معيناً ndash;لا عائقاً- للإنسان المتحدث بالعربية، ليعيش ويفهم عصره، فنحن لا نرى العالم مباشرة، بل نراه من خلال محمولات مفردات لغتنا، وما لم تتطور لغتنا لتعبر مفرداتها عن حقائق وأفكار العالم القائم الآن في الألفية الثالثة، فإننا سنظل نراه وفقاً لمدلولات مفردات نحتت من آلاف السنين، لتعبر عن مدلولات كانت موجودة في زمان وبيئة صارا الآن في ذمة الماضي السحيق.
انعكاسات هذا التناقض تبدو واضحة في عالمنا اليوم، ليس فقط من خلال ما ينتابنا من قلق لما نشهده من تحولات في لغتنا العربية، يعتبره البعض ضياعاً لهذه اللغة، ما لابد وأن يكون تهديداً لوضعها الفريد في النص المقدس، بل يتبدى هذا التناقض صارخاً في عجزنا النسبي عن التفاهم مع العالم المتغير، فجزء من الصدام الحادث بيننا وبين العالم الغربي، لا ينتج عن طبيعة مواقف أو أداء هذا الآخر، بقدر ما يرجع إلى قراءتنا الخاصة لهذا الواقع، تلك القراءة التي تلعب فيها لغتنا ومحمولات مفرداتها ومصطلحاتها دوراً جوهرياً.
مع من ينبغي أن نقف، مع دعاة ثبات اللغة حفاظاً على وضعيتها المقدسة، أم مع دعاة تطور اللغة، لتكون معيناً لنا على التعامل مع عالم لا يعرف الثبات ولا يثمنه؟
علينا أن نجد الحل الذي يحقق الغرضين، إذا كنا لا نريد ولا نقبل أن نهدر مقدساتنا، ولا نريد في نفس الوقت أن نسقط من الحاضر إلى هاوية التاريخ، وقد يتمثل هذا الحل في تخريج كوادر مؤهلة لحفظ quot;اللغة العربية الفصحىquot; والاحتفاظ بها قوية ونقية لتنقلها الأجيال للأجيال، كلغة مقدسة تنأى عن الخضوع لليومي والمبتذل في الحياة دائبة الحركة، وأن نعترف في نفس الوقت بما يحدث من نمو وتوالد للغة أخرى شقيقة، نستخدمها في حياتنا اليومية، وفي وسائل إعلامنا الجماهيري، وفي مدوناتنا المقروءة بجميع أنواعها، وأن تتسع صدورنا لهذه اللغة التي تنبثق من عقولنا وصدورنا المنفتحة على العالم، وأن نتوقف عن اعتبارها تهديداً لهوينا بجانبها المقدس، مادمنا قد اتخذنا من الإجراءات ما يكفي لحفظ لغتنا الأصيلة وتراثها.
[email protected]