منذ التسعينات الجزائرية الدامية، غدا رمضان شهر الإرهاب الذي يزرع الموت والدمار في كل بلد وفي كل مكان بما في ذلك الكنيس، الكنيسة والجامع، كما في تركيا، مصر، باكستان، والعراق... وهكذا فمع حلول شهر الصيام تعلن اجهزة مكافحة الإرهاب في العالم حالة الاستنفار القصوى. أليس هذا وحده أمارة لا تخطئ على إفراغ شعائر الإسلام من كل بعد روحي بتحويله إلى دين جهاد واستشهاد في المسلمين وغير المسلمين، وفي مشارق الأرض ومغاربها؟ حتى الصلاة، اللحظة الروحية بامتياز، حولّها الإرهاب الإسلامي الى مناسبة للقتل الأعمى عندما يفجّر الانتحاري السّنّي نفسه في المصلين الشيعة الذين اندس في صفوفهم! كيف نفهم هذه الظاهرة؟ هي متعددة الأسباب ولا شك، فلم يعد مقبولا في علوم الإنسان فهم او تفسير ظاهرة بعامل واحد. لكن خصوصية الإرهاب الإسلامي هي أن الخطاب الديني (= التعليم، الإعلام، خطبة الجمعة، الفتاوي الدموية والوعظ..) يلعب فيه الدور الأول. من دونه يُختزل الإرهاب إلى أدنى تعبيراته. سنركّز هنا على التعليم الديني ndash; في الواقع كل التعليم ديني بما فيه اللغة والأدب... - . مالذي جعل المدرسة الإسلامية تنتج بكفاءة عالية الجهادي والاستشهادي (= القاتل ndash; القتيل)؟ بحشوها أدمغة روّادها بفكرتين مميتتين: تذنيب الفردوتذويبه في quot;الأمة الإسلاميةquot; الشبحية، التي تقدمها لهم المدرسة كضحية بريئة لذئاب اليهود والنصارى ومَن والاهم من quot;المرتدين)quot; المسلمين.
مشاعر الذنب عميقة في الشخصية النفسية لكل إنسان. فكل إنسان كابد في طفولته المحنة الأوديبية عندما ارتكب جريمة وهمية ولكنها، في تأثيرها، أكثر واقعية من جميع الجرائم المنجزة: قتـْل الأب الذي نافس ابنه على حب الأم. خرج الابن من هذه المحنة مُثقـْلا بمشاعر الذنبالتي كُبتت كبتا لطيفا حينا وعنيفا احيانا، هذا الأخير يظل يطارده طوال حياته يقظة ومناما. يشعر أنه مذنب ولكنه لا يعرف لماذا. وككل مذنب يُعاقب لا شعوريا نفسه الآثمة. في هذه النفسية الجريحة يجد الخطاب الديني المؤنّب والمذنّب الاستقبال اللائق به ليوجّه مشاعر الذنب المبهمة الى هدف واضح. لا، لستَ مذنبا لأنك قتلت الأب وسافحت الأم تخييلا، بل انتَ مذنب في حق الأم ndash; الأمة التي تركت منافسيك من اليهود والنصارى يزنون بها على مرأى ومسمع منك في فلسطين والشيشان والعراق... وتركت حلفاءهم من الحكام ndash; والحاكم، لا شعوريا، رمز الأب ndash; المرتدين يستبيحونها في جميع ديار الإسلام! quot;الأمة المستباحةquot; كما يقول خطاب البروباغندا الإسلامية يذكر المتلقي لا شعوريا بالأم المستباحة. إذن، حقّ الجهاد وحقّ الفداء. وهكذا يقول الخطاب الديني للمراهقين المحبطين والمكتئبين والمحرومين جنسيا: هذه فرصتكم لتفوزوا بالشهادة ومزاياها في الدنياوالآخرة. وليس كرمضان، الذي وقعت فيه غزوة بدر المؤسسة للجهاد، شهرا لتقليد ما فعله السلف الصالح. وكما تقتضي شعائر عبادة الأسلاف، فعلى الأخلاف تكرار أقوال وأفعال الأسلاف في الزمن الأول، زمن العلاقة الحميمة مع الله وملائكته وجِنّه الذين لانت قلوبهم عندما استمعوا لـquot;قرآن عَجَباquot;!
رغبة المذنب القهرية compulsif في العقاب الذاتي تعطيه الاحتقار العميق للذات الآثمة الذي يتجلى مثلا في عبارة quot;العبد الحقيرquot;... يقدم الخطاب الديني للمراهقين خيط نجاة لانتشالهم من احتقار الذات بالحب الاندماجي في quot;الكلّ العظيمquot;، في quot;الأمةquot; التي تعطي لحياة الحقير في عين نفسه معنى طالما افتقده. quot;ما ترك الجهاد قوم إلا ذُلّواquot; كما يقول حديث شريف، وبالمقابل ما تعلّق قوم بالجهاد إلا أعزهم الله. وهكذا يحوّل التعلّق الصوفي بـquot;الأمةquot; المتلقي للخطاب الديني إلى مجرد برغي في جهاز الأمة الضخم، إلى جندي في جيشها الجرار يسمع لقادة جهادها ويُطيع... حتى لو خاضوا به بحرا لخاضه وراءهم دون سؤال. هذا التذويب لفردية المسلم في الأمة الشبحية وانقاذه بذلك من الإحساس الساحق بالذنب واحتقار الذات يشكلان رافعتين أساسيتين للإرهاب الإسلامي.
فما هي الاستراتيجيا المضادة لاستراتيجيا تذنيب التلميذ والطالب وتذويبه في quot;الأمةquot;؟ إعادة صياغة شعور ولا شعور النشء بخطاب تربوي يَقطع مع التذنيب والتذويب:
1- بدلا من تدريس quot;أمةquot; المؤمنين الشبحية ينبغي تدريس الامة الدولة الحديثة لكل مواطنيها المتعايشين سلميا في مجتمع مفتوح، حر، متضامن ومتأخي.
2-تفكيك ثقافة الاستشهاد بما هي رموز وأساطير استخدمها الأسلاف، مع الغنيمة، لتحفيز المسلمين quot;المتثاقلينquot; عن الجهاد كما وصفتهم آية قرآنية. قصر الجنة و الـ72 من الحور العين الأبكار، وقهر الخوف من الموت المتأصل في النفسية البشرية ndash; يقضي المرء سنوات على أريكة التحليل النفسي ليسلم أخيرا بموته ndash; بالاستشهاد... كلها كانت حوافز رمزية فقط لتشجيع بعض المسلمين، بمن فيهم quot;ذو النورينquot;، عثمان، الذين كانوا يفضلون العناية بتجارتهم وزراعتهم والاستراحة في ظلال نخيلهم على الموت، جهادا في سبيل الله، كما تخبرنا أسباب النزول.
3-الغاء تدريس الجهاد كما فعلت تونس منذ1990، وليبيا منذ 2006، والغاء تدريس أحاديث وآيات العنف وكراهية اليهود والنصارى والنساء، وquot;حكام الجورquot; المسلمين وضرب المرأة واعتبارها آيات وأحاديث ظرفية خاصة بمكانها وزمانها. إذن منسوخة.
4-تغيير المناهج الدراسية وتغيير ذهنية المدرسين بإعادة تدوير معارفهم وذهنياتهم، وتغيير طريقة التلقين الببغائي للنصوص بادخال طريقة التنشيط المتبادل la meacute;thode interactive حيث يشترك الدارس والمدرس معا في التعلم والتعليم. وهذا ما انجزته الجزائر منذ الفين وسبعة. الجزائر التي كان تعليمها في منتهى الانحطاط، تشجعت نخبتُها أخيرا فردت، في هذا المجال على الأقل، على التحدي الإرهابي. طريقة التنشيط المتبادل أساسية لتدريب الدماغ المعرفي الذي ينمو بالتدريب. لذلك جعل التعليم في العالم من هذا التدريب رهانه الأول. تدريب دماغ التلميذ والطالب المعرفي يعني تحرير أناه Me/moi وعقله ومَلَكة الحكم فيه من ضغوط التقاليد الميتة التي يحكم بها الأسلاف من وراء قبورهم حياة أحفادهم.
5-تفكيك أسطورة الخلافة الراشدة وعصرها الذهبي وضرورة العودة الفّصامية والمستحيلة اليهما. كيف؟ بالغاء الميتاتاريخ Metahistoire أي البروباغندا التاريخية التي لا تقدم الأحداث كما حدثت فعلا بل تضفي عليها هالة اسطورية تلغي التفكير السببي. فلا تعود الأحداث نتيجة لتصادم مصالح الفاعلين الاجتماعيين وأهوائهم الدينية ومطامعهم الدنيوية وجنونهم... بل تغدو نتيجة حتمية للتدخل الرباني في التاريخ. ألم يوقف عمر الشمس كي لا تغيب إلا بعد ان ينتصر جيشه في المعركة محاكاة إسلامية لأسطورة يوشع بن نون العبرية؟ وهكذا تقدم الميتاتاريخ أسلافنا ليس كبشر من لحم ودم يغار بعضهم من بعض ويتزاحمون بالمناكب على متاع الدنيا وبالسيوف على بريق السلطة... بل كأنصاف ملائكة لا يبتغون في كل مايأتون إلا وجه الله... وهكذا يُصاب الدماغ المعرفي بالشلل النفسي تاركا المجال فسيحا للدماغين، الغريزي والانفعالي، يمليان على شريحة من الشباب المسلم قراراتهم الانتحارية. البديل للميتاتاريخ هو التاريخ الذي يقدم الأحداث كما حدثت فعلا. التاريخ سيقول للتلامذة والطلبة quot;العصر الذهبيquot; كان بالأحرى حربا أهلية دامية أباد فيها الصحابة بعضهم بعضا بالآلاف: quot;على الولاية لا على الديانةquot;: quot;منذ اللحظة التي عقدت فيها البيعة لأبي بكر (...) غدت الخلافة أولى القضايا وأخطرها التي اختلف عليها المسلمون (...) والقتال بينهم لم يحدث إلا عليهاquot; (د. محمد عمارة، نظرية الخلافة، صفحة 6). يذكر بعض المؤرخين أن كل حرب بين الصحابة قضت بالكامل على جيل منهم حتى أتت الحرب الأخيرة على الجيل الأخير رغم الشورى بل وبسببها.
6-تكريس المدرسة للدفاع عن حق الفرد في تقرير مصيره في حياته اليومية بعيدا عن ضغوط التقاليد وتدريس الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الدولية لحماية الأقليات لصياغة الوعي الجمعي للقيم الانسانية التي كانت مدماك الحداثة الاوروبية المنشأ والعالمية الحضور لتنشئة الاجيال الصاعدة على الدفاع عن حقوق الإنسان على الإنسان بدلا من الدفاع عن quot;حقوق اللهquot; (= الواجبات الشرعية) على الإنسان التي يُعتبر تدريسها مصدرا أساسيا للتذنيب والتذويب وتاليا للإرهاب.
7-تجميد غريزة الموت اللابدة في اللاشعور بتغذية غرائز الحياء عبر تعليم الجنسين جنبا لجنب في مدارس مختلطة: الفلسفة، الأدب، الموسيقى، الرقص، الرسم، النحت والغناء لمن يمتلكون موهبة الغناء وأخيرا التربية الجنسية كما في مدارس العالم الأخرى... لكشف أسرار الجنس ومصالحة الشباب مع رغباتهم المقموعة وأجسادهم المُصادَرة.
آن الأوان لتعويظ المدرسة الدينية الظلامية السائدة بمدرسة تنويرية يكون هدفها الأسمى صناعة الفرد بتنمية مواهبه الفكرية واحترام صبواته الغرامية.
تحديث المدرسة لا ينفصل عن تحديث المجتمع بنقله تدريجيا من مجتمع مغلق، غبي ومستبد حيث الواجب لا يقابله حق، والمبادرة مقموعة والعلاقات قسرية وتكرارية والفرد مجرد عضو مطيع في quot;أمةquot; تمحو الفرد محوا، إلى مجتمع الفرد المستقل نسبيا عن المجتمع القائم، ليس على الشريعة، بل على شريعة تعاقد الارادات الفردية الحرة الراشدة. تحقيق هذه النقلة يتطلب من صناع القرار الواقعي والشجاع تدابير أولية وحيوية وملحة: تحديث الدساتير والقوانين بتبني المواطنة الكاملة التي تساوي بين الرجل والمرأة والمواطن المسلم والمواطن غير المسلم؛ الغاء الحاجز الانثروبولوجي الذي يمنع زواج المسلمة من غير المسلم الذي، فضلا عن كونه راسبا عتيقا من تحريم بعض القبائل البدائية للزواج من خارج القبيلة، يشهد على أن المرأة المسلمة ما زالت قاصرة مدى الحياة ومجرد عضو في أسرة وquot;أمةquot;. الحكومة العربية الوحيدة التي ألغت هذا الحاجز في التسعينات هي حكومة الشيخ حسن الترابي الاسلامية في السودان حيث أعطت المرأة الحق في الزواج من النصراني والوثني. الغاء هذا الحاجز الثقافي لا غنى عنه للاعتراف بالمرأة كفرد راشد؛ اقرار المساواة بين الجنسين في الشهادة والارث كما طالب بذلك الترابي في مارس 2006؛ الاعتراف للزوجة غير المسلمة المتزوجة من مسلم بحق حضانة أبنائها وارث أبنائها وزوجها؛ الغاء عقوبة الزنى والمِثلية كما فعلت الحكومة الإسلامية التركية سنة2006 كاعتراف بحق الفرد في التصرف الحر في جسده وفرجه في أرض الإسلام، بعد أن أُعتِرف له بهذا الحق، الذي لا تفريط فيه، في أرض اليهود والنصارى والأديان الوثنية؛ الغاء عقوبة الردّة، ووريثها المعاصر، عقاب التجديف بعام سجنا على الأقل، كما فعلت أيضا الحكومة الإسلامية التركية التي اعترفت لأول مرة في أرض الإسلام بحق الفرد المسلم في حرية الاعتقاد (= تغيير دينه بأي دين يشاء) وحرية الضمير (= عدم الاعتقاد في أي دين).
يا صناع القرار والقرار التربوي، حققوا هذه التدابير المتواضعة والملحة والكفيلة بتجفيف أهم مستنقعات الإرهاب الإسلامي وبذلك يمكنكم القضاء على الإرهاب دون أن تطلقوا رصاصة واحدة على الإرهابيين.
نراكم يوم الأحد المقبل