ذكرنا في مقالنا المعنون 'حرية التعبير، والنشر: بين القدسية، والالتزامات'، والمنشور في 6 أيار المنصرم، إن هذا 'موضوع قديم، متجدد، وفي كل يوم ثمة ما يثير السجال حوله.'
إن هذا السجال يثار مجددا اليوم في فرنسا، بمناسبة نشر مجلة فرنسية لمقابلة مصورة مع الطالبانيين الإرهابيين الذين فتكوا فتكا مروعا بعشرة مظليين فرنسيين في أفغانستان، بعد وقوعهم في كمين. قد وقع الكمين يوم 18 آب الماضي، وذهب ضحيته عشرة عسكريين فرنسيين، وهذه أكبر خسارة عسكرية فرنسية منذ تفجير المخابرات السورية لمبنى سكن الجنود الفرنسيين في بيروت عام 1983، وحيث وقع 57 ضحية منهم.

لم تكتف مجلة 'باري ماج'، الأسبوعية المصورة، بمقابلة القتلة وزعيمهم، بل ونقلت أيضا رسالتهم للفرنسيين مهددة لهم: 'سوف نبيد الجنود الفرنسيين لو بقوا في أفغانستان.' إنها رسالة تخويف، ومحاولة إضعاف المعنويات، في وقت يخوض فيه الجنود الفرنسيون، ضمن قوات الناتو، حربا ضارية ضد بربرية طالبان وحليفهم القاعدة، هؤلاء البرابرة الذين يهددون الحضارة، وأمن الشعوب.

إن مبادرة المجلة تذكرنا بممارسات قناة الجزيرة، وهي تبث صور تقطيع الرؤوس، وتهديدات بن لادن، والظواهري، الرامية لنشر جو من الرعب، وهو الجو الأكثر ملائمة لهم لمواصلة اقتراف جرائمهم النكراء في كل مكان، لا فرق بين بلد 'كافر'، أو دولة مسلمين'!

لم يقف مراسل المجلة عند هذا الحد، بل تجاوزه بدرجة مقززة حين نشر صور الإرهابيين وكل منهم يحمل شيئا يعود للمظليين، فأحدهم يلبس بزة مظلي، والثاني يحمل بندقية جندي ثان، وتظهر الصور ما نهبه المجرمون من أجهزة اتصال، ونظارات، وذخائر. أما البشاعة الكبرى، ففي أن يتسلم المراسل ساعة ضحية من زعيم القتلة، طالبا منه تسليمها لعائلته! تصوروا لو أن إرهابيا من قاطعي الرؤوس قابل صحفيا، وسلمه ساعة ضحية، أو دفتر هويته، طالبا تسليم ذلك لعائلة الضحية، ثم قام مراسل الجزيرة بنقل الصورة، وربما يتجرأ على مقابلة عائلة كل ضحية. هنا، لا ندري هل سيجرؤ مراسل المجلة الفرنسية على مقابلة عائلة الضحية، ويقول للزوجة، إن كان القتيل متزوجا، ولطفله، إن كان ذا أطفال، أو لوالدته، أو والده، وشقيقته أو شقيقه،: إليكم ساعة قتيلكم، إنها رسالة يهديها لكم قاتلوه.

أي احترام هذا لحرمة الموتى؟ وأي احترام لحزن العائلات؟ فهل هذه هي رسالة الإعلام؟ أن تنقل هذه الصور المثيرة للاستنكار، وأن تبلغ العائلات برسالة القتلة؟
نعم، هناك صحفيون يريدون التقاط السبق الصحفي،[ سكوب]، بقصد الشهرة، وزيادة المبيعات، ولكن بعض هؤلاء يتجاوزون الحدود، فيعتدون على حرمة الأفراد بتلصص حركاتهم، لالتقاط هذه الصورة أو تلك، كما جرى للأميرة ديانا، التي أعربت مرارا عن امتناعها عن أخذ صورها عشية رحيلها، ولكن صحفيي الإثارة و'السكوب' ظلوا يلاحقونها مع صديقها، وكانوا سببا لإسراع السيارة التي صرعا فيها. هناك أيضا صحفيون ما أن تقع جريمة ما حتى يزاحموا البوليس قبل بدء التحقيق، ويلاحقونهم، وأحيانا قد ينشرون إشاعة سمعوها، تقود لاتهام برئ، أو نشر أحد أسرار التحقيق، مما يفيد المجرم، أو المجرمين.

إن السبق الصحفي حق من حقوق الصحفي، والعمل على زيادة المبيعات، هو الآخر من حقوق الصحف. إنها جميعا تدخل ضمن مبدأ مقدس، هو مبدأ حق التعبير، والإعلام، وهو حق مقدس لا ينتهكه غير الأنظمة الشمولية، والديكتاتورية، وأنظمة الإسلام السياسي. لكن: هناك أيضا مبادئ احترام حرية الآخرين، وخصوصياتهم، واحترام أحزانهم. أما إن كان هدف المجلة الفرنسية، عدا السبق الصحفي، هو تبليغ رسالة سياسية منها في معارضة الوجود العسكري الفرنسي في أفغانستان، فهي تقع في خطأ جسيم، خطأ أن تكون واسطة لنقل رسالة الإرهابيين أنفسهم، كما تفعل الجزيرة. إن معارضة الوجود الفرنسي هناك يمكن ممارساتها بطرق كثيرة، كساحة البرلمان، والمؤتمرات الحزبية، والتصريحات السياسية، والمقالات السياسية، وإذا أردت معلومات عن كيفية وقوع الضحايا في الكمين، وما هو التقصير، ومن المقصر، فقد أصدرت وزارة الدفاع تقريرا بهذا الشأن يمكن مناقشته على أساس معلومات مؤكدة ودقيقة.

إننا اليوم في ذكرى تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر، التي قادت لحرب أفغانستان، ولولا جرائم قتل الآلاف، من مختلف الأعراق والأديان، واللغات، في نيويورك، لما كانت هناك حرب. فهل كان مطلوبا ترك المجرمين البرابرة بلا عقاب؟! ولو أرادت المجلة سبقا صحفيا حقيقيا، أو تبليغ رسالة إنسانية، أو سياسية، لذهب مراسلوها لمقابلة عدد من عائلات ضحايا الانفجارات، ومدى صدمتهم لخسارة ابن، أو زوج، أو زوجة، أو أخ، أو صديق. مثل هذه المقابلات تبلّغ رسالة التضامن البشري، وتذكر مجددا بمدى حقد الإرهابيين الإسلاميين على حياة الآخرين، واستهتارهم بها، ومدى كراهيتهم للآخر، ولكل شيء متحضر، وواجب محاربتهم في كل الميادين.
إن حرية الإعلام يجب أن تقترن، لا محالة، باحترام القواعد والمعايير الأخلاقية، والإنسانية، إذ لكل حق حدود.