إضافة إلى الكثير من فوائد الصوم الروحية والصحية والاجتماعية، يمكن اعتبار شهر رمضان وبدون تردد فترة بالغة التأثير في حياة المجتمعات الإسلامية وعنصراً متميزاً في ثقافتها وجزء من الذكريات الجميلة لدى المغتربين بعيداً عن أجواء وطنهم الأم. وكما يحصل في الأديان المختلفة من تفاعل الممارسات الدينية مع الثقافات الاجتماعية السائدة، فقد اكتسب صيام شهر رمضان بطابعه الروحي ومثله العليا طابع الثقافة الاجتماعية وتكونت حوله تقاليد مختلفة تطورت في هذا البلد أو ذاك عبر السنين وأصبحت وكأنها جزء منه. وهكذا يمكن تفسير المفارقة التي نلاحظها في مختلف بلاد المسلمين، لاسيما العربية منها، بين مثل وروحانيات شهر الصيام وبعض الممارسات الاجتماعية البعيدة، كما سنرى، عن مبادئ الصوم الأساسية.
عظمة الصيام والتأسيس للديمقراطية
يقول الله تعالى في كتابه الكريم (يا أيها اللذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على اللذين من قبلكم لعلكم تتقون- البقرة 183) ليذكرنا بأن الأديان السابقة على الاسلام تضمنت هذه العبادة التي تربي في الانسان المؤمن يها ارتباطاً عميقاً بالخالق وإرادة قوية وتعففاً في النفس وصدقاً في القول وإخلاصاً في العمل واعتدالاً في السلوك. ومن خلال ذلك وغيره من فوائد، يصحح الصوم جهل الانسان بطاقاته الكامنة حيث يكتشف الانسان في شهر الصيام قدرته على الامتناع عن إشباع حاجات ملحة وعن ممارسات لا يتصور أبداً إمكانيته في الاقلاع عنها بقية الشهور. وهكذا يزود الصوم الانسان بقدرة أكبر (مسألة نسبية وليست مطلقة) على ممارسة حياته بقية العام بأقل ما يمكن من الطمع والأنانية والاستهتار بمصالح الآخرين.
وتشكل النقطة الأخيرة (أي عدم الاستهتار بمصالح الآخرين) قاعدة الثقافة الديمقراطية القائلة، كما هو معروف، بأن حريتك تنتهي حيث تبدأ حريتي. وبناء على هذا المبدأ السياسي العام يقوم القانون بتنظيم الحرية وتحديد مضمونها كمبدأ قانوني. وأما بالنسبة لدولة القانون فقد أكد المفكرون الغربيون (مونتسكيو، روح القوانين) على ضرورة بذل الجهود لتحقيق قبول المجتمع للقانون (المراقبة الذاتية) لضمان حسن تطبيقه من قبل السلطات المختصة. وهنا تكمن أول مفارقة أساسية بين ديننا وواقعنا: فمن جهة، اهتم الإسلام بمبادئ تشكل أسس الديمقراطية الحديثة (حرية الفكر وانضباط السلوك والحيوية الاجتماعية) من خلال الصيام وتحطيم الأصنام وتقديس كرامة النفس البشرية وأكد أيضاً على الرقابة الذاتية لتطبيق القانون بترسيخ مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الحق ومحاسبة النفس، أما من الجهة الأخرى، نجد المسلمين، بدلاً من التوجه بناء على المقدمات المذكورة نحو تأسيس الديمقراطية ودولة القانون (أي نحو تحقيق الحرية والمشاركة السياسية وسيادة القانون)، مستمرين في العيش ومنذ قرون طويلة في أغلال الخضوع للاستبداد القائم على مبدأ الغلبة بالقوة وعلى الأنانية والعصبية القبلية، إذ طورت أنظمتنا المتعاقبة منذ الأمويين وحتى نهاية العثمانيين مظاهر الخضوع السياسي والتكلس الفكري والتخندق القائم على ترسيخ الروح القبلية والأنانية الفردية.
ملابسات التقاليد
فيما يتعلق بالإسلام، ظلّ القرآن حصناً منيعاً أمام تحريفات الحكام رغم نجاحهم في إدامة حكم الاستبداد. لذلك حافظ جمهور المسلمين على ارتباطهم بالعبادات الإسلامية ولكن ممارستهم لهذه العبادات تأثرت طبعاً ببيئتهم الاجتماعية وما عرفته من تقهقر ثقافي وتكلس فكري. وهذا ما يفسر ظاهرة الاستمرار في تطبيق الأحكام الدينية مع تدهور مستوى الالتزام العقلاني بها، وفيما يلي بعض الأمثلة التي من شأنها توضيح هذه الظاهرة القديمة والمعاصرة في ذات الوقت:
- مشكلة الاستهلال: تشكل رؤية الهلال ولاسيما بداية شهر رمضان وهلال عيد الفطر المبارك هماً يؤرق المسلمين ونخبهم الواعية بالخصوص، رغم سهولة تحقيق المشاهدة المعترف بها بالاستعانة بالوسائل العلمية الحديثة أو بتشكيل لجنة من المذاهب المختلفة للاستهلال سوية وتدقيق شهادات الشهود وفق معايير متفق عليها. وتنسحب مسؤولية ذلك على عموم المسلمين ولاسيما حكوماتهم وسلطاتهم الدينية حيث وصل الفارق بين البلدان العربية إلى يومين أحياناً بالنسبة لبداية شهر رمضان أو للاحتفال بعيد الفطر وصرنا بذلك مدعاة للسخرية بالفعل.
- من العبرة والاعتدال إلى التضخم والتخمة: وهذه ظاهرة نشهدها كل عام وفي مختلف البلدان إذ تتناسى غالبيتنا مبادئ الصوم في الاعتدال وضبط النفس فننطلق في التسوق بحيث نثير شهية (أو جشع) بعض التجار في زيادة الأسعار مما يسبب التضخم الذي يصيب الأسواق في هذا الشهر، ثم نجلس الى موائد الإفطار العامرة ونلتهم الأطباق المختلفة لنُصاب بدورنا بالتخمة والنعاس بعد الإفطار ثم نقول هذا من آثار الصيام.. بينما يكمن العيب فينا لا في الصيام.
- النفاق الاجتماعي: إضافة إلى مظاهر التخلف التي ذكرناها تتميز فترة الصيام بانتشار ممارسات النفاق الاجتماعي حيث يسمح البعض لنفسه مثلاً بسؤال البعض الآخر إن كان صائماً وكأنه يريد التأكد من حسن إيمان المقابل. أما إذا لم يكن صائماً لمرض ما، سمح لنفسه بوعظه حول أهمية الصيام وقدرته (هو) على صوم أيام معينة رغم مرضه متناسياً قول الله تعالى (ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر- البقرة 185)، بينما تفرض آداب الصيام في الإسلام أن لا يتكلم المرء أصلاً عن صيامه وإذا سئل يجيب نعم إن شاء الله، لأن الصيام قد يَبطُل لأسباب كثيرة منها الغيبة، أي ذكر الآخرين بما يسوؤهم وهم غائبون وإن كان الأمر صحيحاً. ومن هذه الظواهر أيضاً فقدان الصائم لهدوئه ثم إذا اعتذر قال اعذروني فإنا صائم... ومنها أيضاً الاستغراق بالجانب المادي من الصوم (أي بالامتناع عن الأكل والشرب، الخ) ونسيان الجانب الروحي أو ما نسميه بتربية النفس أو ضبطها وترويضها كما ذكرنا آنفاً.
وأخيراً فهذه تذكرة لمن يريد تحرير المجتمع من براثن الماضي فان أول ما يجب عمله هو التمييز بين ما جاء في الإسلام حقاً وما يشاهده من ممارسات من حوله، فاننا بذلك نلتزم الموضوعية ونصل إلى هدفنا بصورة أفضل ونقطع الطريق، في نفس الوقت، على المتشددين والإرهابيين الذين دأبوا على إيهام شبابنا بأن أي محاولة للتجديد هي من عند أعداء الإسلام، بينما القرآن يدين التقليد ويدعو إلى التجديد وعلى أساس التفكير العقلاني. ومن شواهد القرآن الكريم (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مُترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة ونحن على آثارهم مقتدون، قل أوَلَو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم... (الزخرف 23-24)، وانظر على سبيل المثال في نفس المعنى: البقرة 170، الأعراف 28، المائدة 104، يونس 78، الشعراء 74، لقمان 21.