(1ـ 2)
مع خريف عام 2008م تناهى إلى سمعي، أن الكنيسة اعترفت وأقرت أخيرا أن نظرية دارون صحيحة، ولا أعرف تماما صيغة الاعتراف على النظرية، لأنه قبل فترة احتدم الصراع في أمريكا حول تدريس نظرية دارون واستبدالها بفكرة التصميم الذكي، وهو نصف الطريق أو ربعه إلى نظرية دارون، في الوقت الذي لم تطرح النظرية للنقاش عندنا..
ولذا فالكنيسة سابقة العالم الإسلامي في هذه النقطة، مع أن ابن خلدون تحدث عنها ببساطة في مقدمته، وأن الخلائق تتطور من بعضها البعض. وهذا يحكي قصة توقف العقل الإسلامي، متجمدا في مربع الزمن أيام المماليك البرجية، وما نراه من انقلاب الجمهوريات الثورية إلى جملوكيات، يؤكد التحنط في مربع الزمن لشعوب تبعد عن الحداثة مسافة خمس سنوات ضوئية..
ونرجع إلى الاعتراف الكنسي فهو جيد، وسبق هذا أيضا الأخذ بنظرية الانفجار العظيم، وتبرئة جاليليو، كما برأ الكنيس اليهودي سبينوزا من الهرطقة، ولكن الكنيسة ترددت في تبرئة جيوردانو برونو الذي أحرق في مطلع القرن السابع عشر حيا مثل فروج مشوي؟ لأن نظريته تنسف مركب الأقانيم من مفاصله فلا يبق مركب وأقنوم؟
وقامت الكنيسة بخطوة أكثر تقدمية، حين سمحت للباحثين في الدخول إلى دراسة 4500 ملف من أيام محاكم التفتيش، ما يعتبر بروستريكا كنسية وتبرأ البابا من محاكم التفتيش كما نتبرأ نحن من التثليث.
في حين أن الفكر الديني عندنا مازال يناطح السحب بقدسيته، فلا تمسه يد النقد والمراجعة، فيفرز تشددا وإرهابا ويقتل عقلا ونقلا..
ويجعل الدين ضد الحياة، وضد المرأة، وضد هندسة البيوت وإنشاء الحدائق ونظام الأسواق، بل وتكريس الأنظمة الثورية على شكل بيعات تذكر بأيام سعيد جقمق من المماليك البرجية والبحرية..
ولم يمكن التخلص من الطاغوت البعثي، إلا بالصدمة والدهشة التي عملتها أمريكا من خلف البحار، على أمل كسر جمود وتحنط الوضع العربي، فلم يزدد إلا بؤسا وخسفا ومسخا وريحا حمراء..
وقصة دارون تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، ففي عام 1859 م صدر كتاب (أصل الأنواع) وفي عام 1871م نشر كتاب (أصل الإنسان) فاهتزت الأوساط العلمية، ورجت رجا فكانت هباء منبثا؟
وهاجمه أكثر الناس وتبرأت منه الكنيسة، واعتبرته شيطاناً مريدا، مع أن الرجل لم يشكك في الخلق الإلهي، بل تحدث عن كيفية حدوثه هل كان دفعة واحدة أم أطوارا ؟
وهي النقطة التي تطرق لها عبد الحميد الجسر صاحب كتاب (قصة الإيمان) الذي فرق بين الأمرين: أن يكون الخلق دفعة واحدة أو بالتدرج؟ ومسألة الخلق الإلهي لا يناقشها أحد.
فكما شاءت إرادة الله أن يخلق السموات والأرض في ستة أيام، فهو ينطبق على خلق الإنسان وفق صيرورة خاصة به.
والقرآن ذكر الإنسان في أوصاف متباينة بين الحمأ المسنون والطين اللازب وصلصال كالفخار. وتحدث عن مراحل تطور الجنين طبقا عن طبق!!
ولعل أهم الانقلابات في الفكر الإنساني، التي حدثت في تلك الأيام، وتركت بصماتها على الفكر الإنساني حتى اليوم، هي ما قام به (كوبرنيكوس) و(فرويد) و(دارون)...
ـ ففي (الكوسمولوجيا) نقض (كوبرنيكوس) بناء العالم. ولم تعد الأرض مركز الكون. ولم تعد الشموس والكواكب تدور حولها بل تحولت إلى كوكب تافه في عالم لا يكف عن التوسع. مع إمكانية وجود الحياة في كواكب أخرى. وما يمنع الاتصال بعد المسافات. والله على جمعهم إذا يشاء قدير.
ـ وفي (السيكولوجيا) اكتشف (فرويد) أن النفس طبقات مثل طبقات الأرض تضم (الوعي) و(اللاوعي) و(ما فوق الوعي).
والأخير أي طبقة ما فوق الوعي يشبه المادة الرمادية في قشر المخ وهو في غاية الرقة والنحافة، لا يزيد سمكه عن 6 مليمتر، ولكنه مركز وهج العبقرية ولحظات الوعي الفائقة ولمعات الأفكار الإبداعية.
و(الوعي) عندنا لا يزيد عن 5% من مكونات الشعور.
وما يقودنا في كثير من المواقف هو (اللاشعور).
ومخزن (اللاشعور) هائل يضم الخبرات والعواطف والسلوك.
وعندما يطل اللاشعور إلى الأعلى فهو يبرز بقرون جديدة من الأحلام والعقد النفسية. وسبر غور (اللاشعور) يحرر الإنسان من العقد.
ـ وفي مجال (البيولوجيا) قام (دارون) برحلة علمية في سفينة (بيجل) عام 1831م.
ومع ديسمبر عام 2003 م نقل المكوك الفضائي الأوربي العربة بيجل (الثانية) إلى سطح المريخ اعترافا بفضل دارون بعد 125 عاماً.
ودامت رحلة دارون خمسة أعوام ولكن أكثر فصولها إثارة، هي تلك الأسابيع الأربعة التي قضاها في جزر (الجالا باجوس) التي أوحت له بنظريته، في أن التطور يسوق الخلائق، وأنه لا شيء ثابت في الطبيعة إلا التغير. وهي نفس الفكرة الفيزيائية في النسبية، ولكن فكرة (الآلية) أعيته فهو أدرك أن التطور هو الذي يحكم البيولوجيا ولكن بأي آلية يتم؟
وكان عام 1837 م حاسما عنده، حينما اطلع على مقالة لقس بريطاني هو (توماس مالتوس) ذكر فيها أن ما يحكم تكاثر الغذاء والسكان سلاسل حسابية مختلفة، فالناس يتكاثرون وفق سلسلة هندسية (2 ـ 4 ـ 8 ـ 16 ـ 32 ـ 64 ـ 128 ـ 256)، في حين أن الغذاء يتكاثر وفق سلسلة حسابية (2 ـ 4 ـ 6 ـ 8 ـ 10 ـ 12 ـ 14 ـ 16 ).
أي أن أعداد البشر حين تصل إلى 256 يكون الغذاء مراوحا مكانه عند 16 ، مما يقود إلى مجاعة طاحنة، أو حروب على الغذاء.
وهذا الفكرة أيقظت عند دارون عين الغفلة، والانتباه إلى أن آلية التطور تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح.
ولكن الكارثة جاءت من نقل هذه الفكرة من (البيولوجيا) إلى (علم الاجتماع) كما يقول مالك بن نبي حيث يصبح الأصلح هنا هو الأفسد والأشر.
وما يصح في التاريخ لا يصح في الفيزياء، كما هو الحال مع القانون الثالث في الميكانيك، فالتاريخ لا يعطي ردة الفعل على شكل معكوس متكافيء، بل قد يكون مدمرا ماحقا، فردة فعل الأسكندر على حملة كزركسيس، في القرن الخامس قبل الميلاد على بلاد اليونان، تجلت في معركة جواجاميلا عام 331 قبل الميلاد التي أنهت مصير الشرق الأدنى برمته، لحين مجيء الفتوحات الإسلامية..
والمهم فقد تردد دارون في عرض نظريته على الجمهور العام حتى أرسل له عالم بريطاني هو (الفرد راسل والاس) بنفس الأفكار؛ فطرحت المقالتان في مجلة علمية ولكن لم ينتبه لهما أحد.
وعندما تقدم بكتابه أصل الأنواع عام 1859 ثم أصل الإنسان عام 1871م ارتجت الأرض وما زالت الضجة قائمة حتى اليوم حول أفكار دارون في التطور.
ومن الغريب أن أفكار دارون في التطور لا علاقة لها بإيمان وكفر. والله يمكن أن يخلق الكون في لحظة ولكنه جل جلاله خلقه في ستة أيام. وما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا.
والقرآن يقول أنه يزيد في الخلق ما يشاء. وأنه يخلق ما لا تعلمون.
و(ابن خلدون) في المقدمة أشار إلى الفكرة بنفس الطريقة من التحول العجيب بين عتبات الخلق. من المادة إلى النبات ثم الحيوان ثم الإنسان. وعندما هاج الناس على دارون كان الرجل مريضا من أثر لسعة سامة في رحلته (بيجل) ومات من أثرها عام 1882م.
وتولى الدفاع عنه (توماس هكسلي) وحاول نقل الفكرة البيولوجية إلى علم الاجتماع والفلسفة، وما زال الجدل حتى اليوم ثائرا حول ما جاء به دارون.
ولذا يعتبر كتابه ثورة من ثورات الفكر في التاريخ، كما كان الأمر مع (كوبرنيكوس) في الفلك؛ فكما نقض (كوبرنيكوس) (الأكوان) فقد هدم دارون عالم (الأبدان)، في فاستبدل فكرة الخلق الثابت بالخلق أطوارا. وأنه ليس هناك من شيء (ثابت) في الوجود إلا (عدم الثبات). و(الصيرورة) والتغير هو القانون الذي يحكم الوجود خلقا من بعد خلق. وهي أي (الصيرورة) العمود الفقري في البوذية.
ولا شيء ثابت إلا وجهه الكريم.