الحلقة الاولى
[2-3 ]

في خاتمة المقال الأول أبدينا الرأي في أننا لسنا في فترة حرب باردة جديدة، مع أن بعض الصحف تتحدث عن quot;الفصل الأولquot; من فصولها. ولكن هل يعني هذا أنه ليس هناك أي احتمال بعودة حرب باردة جديدة بطبعة جديدة؟
من المحللين من يرون أن الحرب الباردة كانت صراع أيديولوجيتين متخاصمتين انقسم حولهما العالم، وأفرزتا قطبين دوليين رئيسيين، وكتلتين متصارعتين، وثم، في رأي هؤلاء، أنه لا مجال للحديث عن احتمال وقوع حرب باردة جديدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفككه. أما من جانبنا، فنرى أن حربا باردة جديدة ربما ستقع لو تصاعد التوتر الدولي، واحتدم صراع المصالح، مما قد يؤدي لنشوب حرب باردة جديدة ستكون حرب المصالح.
لقد نبه عدد من الكتاب العرب مؤخرا إلى ضلال، وخطر أية أوهام عربية في تحليل الوضع الدولي، وتشخصيه كحرب باردة فعلية، وبالتالي بناء المواقف السياسية، والدبلوماسية على أساس هذه التقديرات.

لسنا اليوم أمام قطبين متوازيين، متكافئين، فالولايات المتحدة لا تزال هي القوة العظمى، أردنا ذلك أم لم نرده، وإذا كانت في أيدي روسيا أوراق كثيرة تتوهم أنها تبرر التصعيد ضد الغرب، فإن لها، في الوقت نفسه، نقاط ضعفها الكبرى، دبلوماسيا واقتصاديا وتقنيا، وهي لا تزال بحاجة ماسة للتعاون مع الغرب في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، ومكافحة الإرهاب الإسلامي. الولايات المتحدة تمر اليوم بأزمة اقتصادية كبرى، ولكن نظامها مرن، وقادر على التصحيح، والتوصل لصيغ تخرجه من المأزق، وهذا ما لا يملكه الاقتصاد الروسي، بل لقد بدأت فعلا خسائر روسية اقتصادية كبرى منذ آب المنصرم، وذلك بسحب المستثمرين الغربيين لعشرات المليارات من استثماراتهم في روسيا، (36 حسب طارق الحميد في مقاله الأخير)، ويبين لنا الأستاذ خير الله خيرالله أنه، بينما يبلغ حجم الاقتصاد الروسي 764 مليار دولار، فإن حجم الاقتصاد الروسي يبلغ 12 ألفا و417 مليار دولارا، وأما بصدد استغلال فترة الانتخابات الأمريكية، فإن أية أوهام على استغلالها للتوسع الروسي غير مبنية على فهم دقيق للأمور، وربما لن تقع روسيا في وهم كهذا..

يصرح بوتين بأنه يريد التهدئة لا المواجهة، وفي الوقت نفسه ترسل روسيا سفنها الحربية للكاريبي، لإجراء مناورات بحرية مع فنزويلا، التي يرأسها شافيز، الشعبوي، وراعي إرهاب quot;الفاركquot;.
إن التصعيد الروسي ليس لصالحها، كما ليس لصالح الأمن والسلام الدوليين، وعلى كل حال، فإن العبرة هي بالمواقف الفعلية الروسية لا بمجرد التصريحات، وسيكون المحك الحقيقي المقبل لسياسة بوتين الموقف من أوكرانيا، التي يكنون العداء المزمن لرئيسها، والتي تملك ميناء سواستبول على البحر الأسود، وهو محط الأسطول الروسي. إن روسيا تستأجر هذا الميناء حاليا، ولكن هذا وضع لا يرضيها خشية انتهاء الاستئجار، ورفض التجديد.

إن الظاهر هو أن بعض الأنظمة والقيادات العربية، ومثلها إيران، تفسر الأوضاع الدولية كما تشتهي أوهامها، وهو ما حذر منه كتاب عرب كالأساتذ كمال غبريال، وراغدة درغام، وطارق الحميد، وآخرون. إن الأستاذ غبريال يذكرنا بما كانت تدعى بquot; الكتلة الثالثةquot;، أو مجموعة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وكانت تقدم نفسها بالوقوف في منطقة وسطى بين المعسكرين عهد ذاك، وأنها تقوم بدور تهدئة للصراعات الدولية، ولكنها في الحقيقة كانت تضم في معظم أعضائها أنظمة دكتاتوريين شموليين، وأنظمة فاسدة، كانت تستر عوراتها، كما يقول غبريال quot; باللعب، بجهل وسذاجة، على الحبال، أو الأوتار المشدودة بين المعسكرين، تحت وهم أن تلك القوى العظمى، يمكن أن تسوقها الكيانات الهامشية المترممة، لتحارب لها معاركها، وقد تضرب بعضها بعضا بالقنابل الذرية من أجل سواد عيونها، وبريق شعاراتها، التي لا يصل مجال فاعليتها بأبعد من حدود تلك الكيانات، التي تسودها الأمية، والعاطفة القبلية، والبدائية.quot;

نعتقد أن النظام الأكثر وقوعا في هذه الأوهام اليوم هو النظام السوري، الذي اعتاد اللعب على التناقضات، والصراعات الدولية، وهو يواصل ما كان يمارسه خلال الحرب الباردة من مناورات سياسية. ومواقف مزدوجة. لقد بادر لتأييد الغزو الروسي، وعقد مع روسيا صفقات سلاح، واتفق معها على أن تستخدم البحرية الروسية ميناء اللاذقية. إنه أيضا استغل دعوة سركوزي لزيارة باريس، والاستقبال الفخم له، ليواصل لعبه المزدوج، في لبنان، وغير لبنان. لقد علق سركوزي آمالا على إمكان قيام سوريا بنصح حليفها نظام الفقيه بالتراجع عن برنامجه النووي العسكري، وهذا وهم سراب، بل إن سوريا دخلت هي الأخرى السباق النووي، وهي أيضا تمنع فرق التفتيش الدولية من القيام بمهماتها في مواقع دير الزور، ومواقع أخرى عسكرية، مما لا بد وأن يثير القلق، أما عجيبة العجائب، فهي أنه، برغم هذا التحدي للوكالة الدولية، فإن سوريا تقدم، مع حليفتها إيران، ترشيحيهما لمجلس حكام الوكالة الذرية! فيا للجرأة!! أما أحمدي نجاد، فلا يكتفي بكل ذلك، بل يجرؤ على أن يصرح أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأن إيران لن تتراجع، وأنها سوف تمضي في برنامج التخصيب، ساترا هذا الخروج الصارخ عن القواعد الدولية بكيل الشتائم لأمريكا، وتهديد إسرائيل.
أما في لبنان فإن سوريا خطت خطوات التهدئة، مما سمح بانتخاب الرئيس سليمان، ثم عاد الرئيس السوري للإدلاء بتصريحات عن طرابلس وكأنها داخل سوريا، مما أثار احتجاج قوى 14 آذار، واليوم تتوارد التقارير عن تحشدات عسكرية سورية على الحدود.
لا سوريا، ولا إيران، ولا فنزويلا، ولا زيمابوي، وأمثال هذه الدول، يمكن أن ينجح رهانها على عودة القطب السوفيتي، واستغلال حرب باردة لم تنشب بعد.