quot;كما أن الحوت والأسد لا يلتقيان لأن الأول يعيش في الماء، والثاني يعيش في الصحراء، فلا يمكن للفلاسفة وعلماء اللاهوت ان يلتقوا، فلكل منهم ميدان مختلف. الطبيعة للفلاسفة والوحي لعلماء اللاهوت. لذلك يمكن للشئ ان يكون حقيقيا في الفلسفة وخاطئا في علم اللاهوت... أو العكس.quot; (بومبوناتزي)
يحتل الفيلسوف الإيطالي quot;بيترو بومبوناتزيquot; (1462-1525 ) المعروف تحت اسم quot;بومبوناquot; أو quot;بومبوناسهquot;، مكانة هامة بين سائر فلاسفة عصر النهضة الأوروبية، ويعد من أقطاب quot;الحداثةquot; وquot;التنويرquot; في الغرب. فهو أول من أدخل القيم الإنسانية إلى الفلسفة الأرسطية، وأعاد توجيه هذه الفلسفة نحو مشاكل وهموم الإنسان في عصره، ودافع عن مفهوم أكثر ذاتية عن الطبيعة الإنسانية وأول من استخدم البحث العلمي بمعناه الحديث، وليس الشرح أو التعليق على فلسفة أرسطو، وأبرز من جادل ونقد معظم التيارات الفكرية السائدة في عصره، على تعددها وتباينها وجمع بالفعل بين التقاليد المدرسية والخصائص الحديثة، ولكنه كابن بار لعصره، فقد شارك وعبر عن روح عصر النهضة في:
1- التركيز على الإنسان ومصيره.
2- النظر إلى الطبيعة الإنسانية كحلقة بين السماء والأرض.
3-تبجيل سلطة القدماء، وبالنسبة له quot;أرسطوquot;.
بيد أن شهرته ترجع ndash; من وجهة نظر الكثيرين ndash; إلي نضاله ضد quot;خلود النفسquot;، وما يتبعه من إنكار فكرة الحساب، أو الثواب والعقاب في الدار الآخرة. وحسب quot;أرنست بلوخquot;: فقد وجه بومبوناتزي أكبر ضربة لإيديولوجية الكنيسة وهيبتها في عصر النهضة.
إذ أن سلطان رجال الدين كان يرتكز على اغتصاب سلطة الغيب من مطهر وجحيم ونعيم، أي أن سلطانهم يقوم جوهريا على quot;الخوفquot; من تعال بعيد، ظل يعذب الأوربيين حتى القرن الثامن عشر، ويلقى بظلاله على حياتهم الأرضية.
ولأن رجال الدين يملكون وحدهم سلطة مفاتيح الغيب، فقد عد إنكار خلود النفس، أهم ضربة جذرية وجهت لهذه السلطة وأصلها الإلهي، وهو الأمر الذى أجبر مجمع لاتزان الديني على الانعقاد سنة 1512 ثم سنة 1518، لإثبات quot;الخلودquot; لأول مرة منذ ظهور المسيحية ndash; كعقيدة رسمية للكنيسة الكاثوليكية، وتعقب بومبوناتزى كمنشق عن الديانة المسيحية.
لكن.. رغم أن بومبوناتزى ndash; وفقا لهذا الرأي ndash; قد بلغ الحدود القصوى للنقد الجذرى، واخترق الجدار المكهرب للعقيدة، فإنه quot;الوحيدquot; بين سائر المفكرين الأحرار والمصلحين الدينيين والعلماء التقدميين في عصره، الذى لم يتعرض للمكايد الجهنمية لمحاكم التفتيش !.
فلم يحاكم أو يستتاب مثل quot;جاليليوquot;، ولم يعذب أو ينكل به مثل quot;كامبانيللاquot;، ولم يحرق حيا مثل quot; جوردانوبرونو quot; وإنما ظل يمارس التدريس في الجامعة، ومات في سلام كعالم محترم، ونصبت له التماثيل في إيطاليا، كأشهر quot;رشديquot; في تاريخ الفكر الفلسفي، وليس في إيطاليا فحسب، وهو الأمر الذى يضع العديد من علامات الاستفهام ليس أمام بومبوناتزى فحسب، وإنما أمام التفسيرات والتأويلات التي أعطيت لكتاباته، خاصة مقاله quot;في خلود النفسquot;، والقصص والروايات التي نسجت حول شخصيته وسيرته، علاوة على التصنيفات الفكرية المتعددة التي حاولت جاهدة تسكينه في عدد من التيارات المتباينة في عصره.
كان موضوع quot;الخلودquot; هو المعضلة التي يدور حولها الجدل الفلسفي والفكر كله في إيطاليا، وكان طلاب الجامعات إذا أرادوا تقدير مذهب أستاذ منذ المحاضرة الأولى، جهروا بالقول له: quot;حدثنا عن النفسquot;.
وكانت المناقشات حول quot;خلود النفسquot; في جدول الأعمال ببلاط quot;يوحنا دى ميدتشىquot; (1475 ndash; 1521 ) الذى أصبح بابا روما تحت اسم quot;ليو العاشرquot; في الفترة من 1513 ndash; 1521، واشتهر بحماية العلوم والفنون، واختتم حياته بمجمع لاتزان الخامس.
وكان هذا البابا المستنير مولعا بالنقاش حول هذا الموضوع، ولم يفكر في إحراق المخالفين للديانة المسيحية، وإنما كان يجد لذة في رؤيته دوام النقاش، وإمعانا في المتعة العقلية أوعز إلى الرشدى المؤتمن quot;نيفوquot; بتفنيد مزاعم بومبوناتزى والرد عليها فأصدر كتابه quot;خلود النفسquot; عام 1518، أي بعد صدور مقال بومبوناتزى quot;في خلود النفسquot; ( 1516 ) بعامين، حسب أرنست رينان.
أما الطبقة الراقية في شمال إيطاليا، وجميع الوجهاء في البلاط، فكانوا يسخرون ممن يقول بخلود النفس أو الثواب والعقاب في الدار الآخرة، ولم تكن الأديان عندهم سوى أقاصيص خرافية، والصلوات والقرابين من ابتداع الكهنة، والجحيم هو اختراع الأمراء ليسوسوا العامة والدهماء.!
وباختصار فإن تنامي النزعات الإلحادية في مطلع القرن السادس عشر، خصوصا في شمال إيطاليا كان ينذر بأخطار وشيكة الحدوث، في ظل سلطة دينية ضعيفة، أوشكت أو كادت تنقسم على نفسها بظهور الإصلاح الديني وفساد البابوات ونمو القوميات وظهور القيم الفردية مع البورجوازية البازغة، من هنا انتشرت صيحات ريبية ومادية وأبيقورية تنكر الخلود، مما أجبر مجمع لاتزان الديني على الانعقاد عام (1512) لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بل اضطر لإثبات الخلود ndash; لأول مرة ndash; كعقيدة رسمية للكنيسة الكاثوليكية.
أما موقف الرأي العام في بقية أوربا مما يحدث في شمال إيطاليا، فقد عبر عنه مثل إنجليزي شهير، سرى سريان النار في الهشيم وقتئذ وهو: ldquo;An Englishman Italiante is a devil in carnete ldquo; (الإنجليزي المتشبه بالإيطالي شيطان متجسد )، كما يذكر برتراند راسل في كتابه quot;تاريخ الفلسفة الغربيةquot;.
ويمكن ملاحظة أن كثيرا من الأوغاد في مسرحيات شكسبير quot;إيطاليونquot; وربما كان quot;ياجوquot; Iago أبرز مثل، ولكن ثمة شخص آخر أكثر تمثيلا هو quot;ياشينوquot; ndash; Iachino، في مسرحية quot;سيمبلينquot; Cymbeline الذى يضلل quot;بريتونquot; ndash; Briton الفاضل أثناء رحلته في إيطاليا، ثم يأتي إلى انجلترا ليمارس خدعه الشريرة على المواطنين السذج!
في ضوء هذا المناخ ينبغي أن تفسر ثورة رجال الكنيسة على مقال بومبوناتزى، فقد أقنع بعض رجال الدين البابا ليو العاشر والقاضي الأول بإحراق المقال، وإعلان إنشقاق بومبوناتزى عن العقيدة، وأرسلت نسخة بالفعل إلى راعية الكاردينال quot;بيمبوquot;، الذى اقنع بومبوناتزى بكتابة مقال آخر يبرأ فيه نفسه من تهمة الهرطقة، فأصدر مقاله quot;الدفاعquot; أو المرافعة ndash; Apologia عام 1518، وأعقبه بمقال ثالث بعنوان quot;موضوع الدفاquot; Defensorium عام 1519 ردا على مزاعم منظر البابوية الرشدي quot;نيفوquot; الذى أصدر عام 1518 دفاعا متكلفا ومبتذلا عن quot;خلود النفسquot; بإيعاز من البابا كما ذكرنا من قبل.
وبعد أن هدأت الضجة التي أثارها المقال الأول، صفحت عنه الكنيسة في النهاية، وأعاد quot;ريفوماتوريquot; تعيين بومبوناتزى في كرسيه لفترة ثمانية سنوات في بولونيا وبمرتب مضاعف مما يؤكد على أن توقيت صدور مقال quot;في خلود النفسquot; 1516 مثل تحديا لرجال الكنيسة، أكثر مما تضمنه المقال من الناحية الأخلاقية والدينية، لأن رجال الكنيسة كانوا في أضعف حالاتهم، أما أياديهم فقد غلت منذ زمن فيquot;بادواquot; معقل الرشدية اللاتينية في عصر النهضة الأوروبية.