quot;صحيح اللي اختشوا ماتواquot;.. الأمثلة الشعبية ليست مجرد لغو أو أقوال طريفة، بل هي حكمة شعوب، وخبرات إنسانية تراكمت عبر القرون، خاصة لدى شعب عجوز كالمصريين، وينطبق هذا المثل تماماً على المشهد العربي الراهن، الذي يبدو عبثياً ومأساوياً لحد الفكاهة، من باب quot;شر البلية ما يضحكquot;، وتعالوا نتأمل جانباً مما يجري الآن، ولنحتكم في النهاية للعقول، إذا كانت هناك ثمة عقول لم تزل في الرؤوس.
ـ قادة دول الخليج يجتمعون في مسقط وسط أجواء مخملية تحيط بهم كل مظاهر الرفاهية والنعمة، اللهم لا حسد، يناقشون آثار الأزمة المالية العالمية على اقتصادياتهم، وإطلاق العملة الخليجية الموحدة، ولا بأس بتصريح هنا أو هناك، يؤكد التعاطف مع أهالي غزة، ويناشد ـ لا أدري يناشد من بالتحديد ـ وقف الغارات الإسرائيلية عليها، وهذا بالطبع من باب quot;ذر الرماد في العيون وسد الذرائعquot;.
ـ وفي سورية ينظم حزب البعث وجنرالاته مظاهرات عارمة يحشدوا فيها الآلاف ضد ما يطلقون عليه quot;تواطئ مصر على غزةquot;، لكن quot;طوبةquot; واحدة لم تنطلق صوب الجولان المحتل فهي أكثر الجبهات هدوءاً واستقراراً منذ نحو نصف قرن، ومسؤولو دمشق يعلنون quot;تعليقquot; المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل.
ـ أحد أنجال العقيد الليبي ينتقد مصر بضراوة، ويتهمها بما يعفّ المرء عن ترديده من عبارات قبيحة، في نفس اليوم الذي كان والده quot;المفكر الثوريquot;، يستقبل أول سفير أميركي في ليبيا، بعد أن بدد ثروات بلاده في ممارسات عبثية كدعم حركات الإرهاب في كل أصقاع الأرض، مادامت تعادي أميركا أو حتى تزعم ذلك زوراً وبهتاناً.. وكما يقول المثل الشعبي quot;رزق الهبل على المجانينquot;.
ـ وحتى في اليمن التي ارتوى ثراها بدماء المصريين ليساعدوا أهلها على الإطاحة بحكم أئمة القرون الوسطى، يقتحم بعض الغوغاء والدهماء القنصلية المصرية في عدن، كما يخرج عبر شاشات الفضائيات الشيخ الزنداني بلحيته الشهيرة المصبوغة بالحناء، مطالباً بتأسيس معسكرات تدريب وتطوع لإرسال الشباب للقتال في غزة، وبالطبع فإن هذا مجرد كلام فارغ وquot;طق حنكquot;، ولن يتحقق أبداً على أرض الواقع.
ـ وفي لبنان واصل الملا حسن نصر الله اختطاف بلده الذي ظل طيلة قرون منصة لإطلاق الحريات في المنطقة، ليحوله إلى حديقة خلفية لرفاقه ملالي طهران وجنرالات دمشق المتكرشين، ولم يتوقف عند حدود الجنوب والضاحية بل ساقته أوهامه إلى المكان الخطأ وهو مصر، ليحرض شعبها وجيشها في خطاب فجّ اتهم فيه مصر بالتخاذل والتآمر وغيرها من التهم الخرقاء، ولا يفهم المرء لماذا لا ينتهز الملا نصر الله الفرصة ليطلق صواريخه صوب إسرائيل ليحرر quot;مسمار جحاquot; المسمى quot;مزارع شبعاquot;، أو ليساند حلفائه في تحرير الجولان؟، أم أن سماحته لا يجيد سوى الجهاد بالوكالة من quot;كيسquot; الآخرين؟
ـ أما ما حدث في معبر رفح فهو مهزلة مكتملة الأركان، فمنذ العام 1973 حتى الآن، لم يحدث أبداً أن ألقى إسرائيلي حجراً على حدود مصر، بينما سقط عدة ضباط وجنود مصريين بين قتيل وجريح برصاص مجاهدي حماس والجهاد الإسلامي وكتائب quot;أبو رجل مسلوخةquot;، وبالطبع في كل مرة يخرج الجناح السياسي لهذه الفصائل ليقلل من شأن الأمر، ويعتبره مجرد quot;حادث عارضquot;، لا ينبغي أن نتوقف أمامه طويلاً كأن الذي قتلوا مجرد quot;قطط ضالةquot;، وليسو من أفضل وأنبل أبناء مصر المكلفين بحراسة حدودها.
بعد كل هذا يخرج علينا quot;زعيط ومعيط ونطاط الحيطquot; ليتهموا مصر بالتخاذل والتورط والتآمر وكل الأفعال القبيحة، ويتشدق مناضلو الخمس نجوم في بيروت والشام ليسدوا النصائح لمصر، بأن تفتح حدودها وتقطع علاقاتها مع إسرائيل، وتلغي اتفاقية السلام، ومع ذلك يزعمون أنهم لا يطالبون مصر بالتورط في الحرب، ولا يفهم المرء لماذا يستخف هؤلاء بعقول الناس، فهذه الإجراءات في مجملها تعد إعلان حرب صريحاً وبصراحة شديدة وquot;على بلاطةquot;، فإن مصر لن تحارب مجدداً إلا دفاعاً عن أراضيها، وهذا بالمناسبة ليس مجرد رأي شخصي، إنما هو خيار الغالبية الساحقة للمصريين، ومن شاء أن يتحقق من صحة ذلك فليسأل البسطاء في الشوارع، وليس هؤلاء المرتبطين بأجندات ومصالح.
ألم أقل لكم من البداية.. quot;صحيح اللي اختشوا ماتواquot;.
.........
quot;وكأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ.. ولم يسمر بمكة سامرquot;، فهاهم الأعراب يعودون لممارسة quot;الولولة والنحيبquot; على مشاهد تدمي القلوب فعلاً، لكن لا يجهد أحد نفسه بالسؤال عن سبب تصعيد الأمور لهذا الحد، ويخرج علينا المأزومون والمغيبون بفعل مخدر الأيديولوجيا والمعتقدات الضالة، ليقولوا إن هذا quot;ليس وقتهquot;، لكن بصراحة شديدة هذا هو وقته، وليس أي وقت آخر، فمن لا يفكر بعواقب الأمر ويندفع بجنون نحو نهايته المحققة ونهاية كل من معه، لا ينبغي أن نتسامح معه بطريقة quot;عفا الله عما سلفquot;، فلا يحق ـ مثلاً ـ لقائد الطائرة أن ينتحر ومعه مئات الركاب الذين لا ذنب لهم في أمراضه النفسية وأوهامه.
وبكل بصراحة علينا في مصر أن نعيد حساباتنا حيال منهج التعاطي مع هذا quot;الفيلم الهابطquot;، إذ يبدو أن كافة الأطراف المشاركة فيه لا تريد أن تضع نهاية له لأنهم باختصار مستفيدون، فإذا انتهت الحروب والصراعات وعاشت المنطقة في سلام، وحينذاك على أي أساس يمكن لإسرائيل أن تجمع التبرعات من هنا وهناك، وبأي مبرر يؤنب الفلسطينيون العرب والعجم متهمين إياهم بالتخاذل عن مساندتهم بالأموال.
وأرجو ألا يفهم البعض أن هذه دعوة لتتخلى مصر عن مساعدة الجميع، لكن كما يقول المثل الشعبي المصري: quot;إللي يحتاجه البيت يحرم على الجامعquot;، فلننكفئ على همومنا وأزماتنا الداخلية ـ وما أكثرها ـ فتراثنا مع القضية الفلسطينية بالغ المرارة منذ النكبة حتى حرب حماس الدائرة الآن، وللأسف يدفع ثمنها البسطاء الذين يتخذهم أشاوس حماس دروعاً بشرية، لتحقيق أوهامهم العقائدية المريضة بإعادة ما يسمى quot;الخلافة الإسلاميةquot; انطلاقاً من غزة، بدلاً من الانكفاء على قضيتهم لتحرير بلادهم وإقامة دولتهم.
والشواهد على quot;الحصاد المرّquot; لمصر أكثر من أن تحصى، ولن تكون آخرها حملة الكراهية المفرطة في بشاعتها ضد مصر والمصريين، التي وصلت لحد استهداف السفارات وقتل الجنود والضباط المصريين على الحدود كأن مصر هي التي تقصف غزة وليست إسرائيل، وكأن مصر لم يبح أصوات ساستها وكتابها مطالبين منظمة حماس المتأسلمة بالقراءة السياسية الصحيحة للمشهدين الدولي والإقليمي، فما كان يصلح لإدارة الحركات المسلحة، ليس هو ذاته ما يصح لإدارة شؤون الدول ورعاية مصالح الناس، لكن لا حياة لمن تنادي، فقد ظل مشايخ quot;حماسquot; مصرين على الجعجعة بذات اللغة المنبرية العاطفية المتشنجة.
ويبدو ـ والله أعلم ـ أن شيئاً كبيراً لم يتغير في صلة مصر بالقضية الفلسطينية اللهم إلا في التفاصيل، فمثلاً حين اختلفت مصر مع أجندة منظمة التحرير الفلسطينية لم يأت مناضلوها للحوار، بل أداروا الخلاف بطريقة بشعة فاختطفوا طائرة مصرية، وقتلوا الأديب الكبير يوسف السباعي.
وحين حاربت مصر عام 1967 وهزمت، قالوا حينها quot;ضيع المصريون أرضناquot; وحين حاربت في 73 وانتصرت، أكدوا أنه لم يكن نصراً ولا من يحزنون، وأنها كانت حرباً مصرية تستهدف quot;التحريك لا التحريرquot;، وهناك عشرات وربما مئات المقالات والكتب توثق لتلك المقولات.
وحين أبرم السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل، مدفوعاً بإدراكه السياسي البعيد وقراءته للمشهد الدولي مبكراً، وتأكيده أن 99% من أوراق اللعبة بيد واشنطن، كانت الطامة الكبرى، ونحمد الله تعالى أنه لم يكن بيد الإخوة الفلسطينيين أسلحة دمار شامل، وإلا لكانوا قصفوا مصر بها، وعاقبوها على quot;قرار سياديquot; يخصها وحدها، وليس من حق quot;الغرباءquot; التدخل فيه بتقويمه، أو انتقاده، فهذا شأن مصري خالص، فهي التي حاربت، وقدمت مئات الآلاف من الشهداء، واحتملت سنوات سوداء من حقبة quot;لا صوت يعلو فوق صوت المعركةquot;، لا أعادها الله، وهي التي وقعت اتفاق السلام وارتضته وتلتزم به لأنها دولة مهمة، وليست quot;عصابةquot; أو quot;منظمة إرهابيةquot;.
وحين اتفقت السياسة المصرية مع السلطة الفلسطينية واختلفت مع الفصائل حول طريقة إدارة الصراع، شاهد الملايين علم مصر يحرق جنباً إلى جنب مع علم إسرائيل، ويدهس بالأقدام، وهو ما لم يفعله الإسرائيليون حتى في أثناء زمن الحروب بين البلدين.
وحين ذهب وزير الخارجية المصري السابق أحمد ماهر ـ في مهمة لإسرائيل وحدثته النفس الأمارة بالسوء ـ وهو الدبلوماسي السبعيني الذي يتصرف كأي مصري بسيط متدين ـ أن يصلي ركعتين في الأقصى، كانت quot;النعالquot; بانتظاره، بعد حزمة شتائم من نوع quot;الخائن، وزير خارجية الدولة الخائنةquot;، ومع ذلك يبدو أننا ـ في مصر ـ حقاً لا نتعلم، ولن نتعلم.. فمن لم تعلمه quot;النعالquot; لن تعلمه غيرها.
والله المستعان
[email protected]