مقدمة: تفاقم التناقضات
نادرة جدا، هي البرامج التلفزيونية العربية الجادة التي تعالج شؤوننا الاجتماعية والتربوية والثقافية في الفضائيات العربية التي انتشرت على امتداد عشر سنوات مضت انتشارا كبيرا، ونادرة جدا، تلك الإمكانات الإعلامية العربية المقتدرة على اختراق واقعنا الاجتماعي الصلب الذي يكاد يكون اخطر بكثير من واقعنا السياسي الذي تعّبر تشظياته ومآسيه عن تناقضات اجتماعية غاية في الغرابة.. وكلما يتقدّم الزمن نحو الأمام، تزداد مشكلات مجتمعاتنا، بل ويتفاقم الصراع بين ما هو راسخ من التقاليد والمألوفات، وبين هذا الذي يتصادم معها من منتجات العصر وضروراته المعاصرة. وبقدر ما فقدت مجتمعاتنا من عادات رائعة كانت تمتلكها وقد اشتهرت بها منذ عصور خلت، وعّبرت عنها مجموعة هائلة من الأدبيات والمواريث المدينية والحضرية، إلا أن مجتمعاتنا قاطبة قد اختلطت اليوم بفعل ما ساد من مخاضات، وما انتشر من هجرات، وما تصادم من ثقافات.. فانكمشت مجموعة كبيرة من الايجابيات وسيطرت جملة هائلة من المثالب والسلبيات. إنني لا أنزّه مجتمعات الدنيا قاطبة من سوالب ومثالب، ولكن ثمة من يعالجها هناك أكاديميا وإعلاميا وقانونيا..
برنامج تلفزيوني حيوي وناجح
بدأت أتابع منذ أسابيع، برنامجا تلفزيونيا رائعا على فضائية (ال بي سي) اللبنانية، بعنوان (احمر.. بالخط العريض) والذي يقدّمه بنجاح منقطع النظير الإعلامي اللبناني الشاب مالك مكتبي الذي تفّوق على أقرانه، ليس في تقديم المادة، بل في أسلوب معالجة جملة من الظواهر الخطيرة التي تسود مجتمعاتنا.. انه يكشف بجدارة عن مخفيات لا يجرؤ احد على كشفها.. انه يقدّمها بأدلة وحيثيات وتقارير وبنفس الشخوص الذين يستقدمهم ليقولوا ما عندهم أمام الملايين.. انه يحفر فعلا خطوطه الحمراء بالقلم العريض.. ولقد دعاني كل ما تابعته على امتداد الشهرين السابقين أن اكتب عنه مقالتي هذه محفّزا غيره من الإعلاميين العرب، ومحطات فضائية أخرى شهيرة أن تلتفت إلى مجتمعاتنا لمعالجة ظواهر لا حصر لها من التخلف والتأخر.. والكشف الفاضح عن ظواهر خطيرة تكمن فيها، وتعرية الأفكار السائدة كي تأتي على شخوص وأناس يعلنون على الملأ معتقداتهم البالية، وجناياتهم على مستقبل أجيالنا القادمة. إن القضايا السياسية والسلطوية والأحداث اليومية هي الشغل الشاغل للإعلام العربي منذ وجد قبل عشرات السنين حتى يومنا هذا، إذ لم يلتفت أبدا إلى عمق مشكلاتنا الاجتماعية وخطورتها، وان كانت هناك ثمة التفاتات معينة، فقد كانت ولم تزل تجري على استحياء، وبأسلوب إنشائي فضفاض..
بعض نماذج خطيرة
كتبت لي إحدى طالباتي السابقات تعاتبني بأدب جم، وهي مستغربة هجومي على بعض quot; التقاليد quot; الاجتماعية العربية. ولماذا اسميها quot; بالية quot; وهي من صلب quot; الدين quot;؟ فأجبتها: دوما ما تقرن التقاليد، بالعقائد وبالدين في تفكير الأغلبية للأسف الشديد.. من دون أي شعور بما تركه التاريخ لدينا من بقايا وترسبات سيئة! إن الحياة المدنية الحرة المستنيرة لا تنكر على الإنسان معتقداته وأديانه، فالقانون المدني يحمي كل إنسان، ويحترم تفكيره، ويمنحه حق ممارسه معتقداته.. ولكنني طالبت دولنا ومجتمعاتنا منذ زمن بعيد، بفقه جديد، فالحياة ومتطلباتها المعقّدة، أصبحت بحاجة إلى أحكام فقهية جديدة، ومصالح مرسلة معاصرة، وان مجتمعاتنا بحاجة إلى أن تعالج قوانين جديدة تعالج أوضاع كسيحة، وظواهر سيئة، ومنها تلك التي يقوم بعرضها برنامج (احمر.. بالخط العريض). إن ما ينتشر من سحرة وقراء فال وعرافين يضحكون على الناس ويسيئون للمجتمع.. إن ما ينتشر من اضطهاد للأطفال،وعادات ضربهم، وقهرهم، ومسح شخصيتهم.. إن ما يسود في مدارسنا العربية من سوء تربية، وترويع الأطفال بقصص ومعتقدات تخيفهم.. إن ما يسود من اضطهاد للمرأة واعتقالها وضربها، وقتل النسوة غسلا للعار، واغلبهن بريئات.. إن ما يتم من تزويج بنات وهن بعمر الطفولة.. إن ما يتم من ختام للبنات وتعذيبهن.. إن ما يجري من اخذ ثارات شخصية، أو عشائرية، وقتل الأبرياء في مكان، وقتل الأجانب في مكان آخر.. في اغلب مجتمعاتنا أيضا، احترام فوق العادة للغربيين الأوربيين والأمريكيين وتحقير للشرقيين الأفارقة والهنود.. إن ما يجري من تسكع وتشرد للأطفال في الشوارع العربية.. إن ما يجري من خطف للأطفال ومتاجرة بهم.. فضلا عن استخفاف بالآخرين من الأقليات واضطهاد الناس واحتقارهم سرا أو علنا! إن ما ينتشر من أمراض سايكلوجية متنوعة.. ليس للأفراد حسب، بل على المستوى الجمعي، ومنها ما تستدعيه بعض الطقوس من أضرار نفسية وعضوية.. الخ كلها تستدعي زمنا طويلا من جرأة في المعالجات، وكشف للمستورات.. وترسيخ وعي جديد
نعم، كلها وغيرها ظواهر بحاجة إلى الوعي بها، وإيجاد معالجات علمية لها.. ذلك أن ضرورات هذا العصر تبيح محظورات العصور المنصرمة.. وهذا ما ينبغي إثارته إعلاميا لتشكيل وعي مضاد، ومطالبة رجال الدولة والفقه والقانون لاصدار تشريعات جديدة تأخذنا لمئة سنة أخرى. نعم، مع تفّتح عقل الإنسان، وانطلاق تفكيره، وممارسته الحريات، على غير ما ألفه من موروثات سقيمة، وممنوعات محّرمة، وتقاليد بالية، وبقايا ترسبات ضارة.. وفي شؤون دنيوية لا علاقة لها بالمقدّس!
سلطات المجتمع أخطر من سلطات الدولة!
إن هذا quot; الزمن quot; الذي انفتحت كل سبل الحداثة فيه، يجعلنا نطالب بالاستنارة بعد مرور أكثر من قرن كامل تراكمت فيه كل التناقضات والإخفاقات. ولكن مجرد دفاع جيل جديد عن تقاليد بالية ومتهرئة، معنى ذلك: أن الاستنارة في أزمة حقيقية، وان المستنيرين قد أصبحوا في قفص الاتهام، ظلما وعدوانا! إن مجتمعاتنا، تعجّ بكّل المثالب التي تسحب البساط من تحت أرجل كل العقلاء! إن التصفيق للشعوذة، وسحق العقل، وانتشار الأفعال الشاذة هو الجنون بعينه.. إن الانقياد لشعارات وهمية، وطقوس متوحشة هو انعدام للتفكير.. إن تلف الزمن وإضاعته، والاستهلاك دون الإنتاج هو كل السكونية والاتكالية والتيه، إن البقاء في حالة تناقض بين الموضوع والذات.. يجعل الإنسان، يعيش، دوامة الممنوعات من دون التحرر عن القوالب المستنسخة.. إن التناسل لدزائن بشرية تتضاعف كل سنة، تتربى في الشوارع هو الجريمة بعينها.. إن مجرد وجود (سلطة دينية، أو طائفية، أو قبلية عشائرية، أو حتى طبقية من أعيان وشيوخ أو رعاع وأشقياء) في مجتمعك تخيفك وترعبك، بل تقلقك وتؤذيك لمصالح فئوية، أو خاصة من غير القانون الرسمي هو الكارثة.. ومن المؤلم، أن اللاوعي قد استوعب ذلك، وغسلت الأدمغة على مر السنين، فتجد شعورك بالرضا عن كل ما يفقد الحرية الشخصية والسياسية والفكرية.. واعتاد الناس أن يروا مجتمعاتنا تزاول الأكاذيب، والمنسوبيات، والعشائريات والملائيات، والتلفيقات والاستعراضات وتعميم الشعارات وهز الرؤوس، وكل التفاهات.. الخ وماذا نقول لعبادة البطل أو السلطان..؟؟ إن مصالح أية سلطة سياسية كانت، أم اجتماعية هي بالإبقاء على تقاليد الماضي بكل غثّها من دون تغيير.. كلها تقاليد بالية وعادات سقيمة لا تستقيم والاستنارة الحقيقية الرافضة لكل التناقضات والانفعالات والحماقة والتسبيح بحمد الظالمين. إن مجرد خروجك ناقدا، أو رافضا وطرحك الرأي المخالف، فقد جلبت اللعنة عليك! إن ما جرى في القرن العشرين من حركات تحرر وتمردات وانتفاضات وانقلابات وثورات.. كلها كانت سياسية ولم تكن اجتماعية، بل وحتى إن اعترفت بواقع من الأوبئة، لكنها لم تمنح الفرصة لنفسها من اجل معالجته تربويا واعلاميا على اقل تقدير.
وأخيرا أقول:
إنني أهيب ببرنامج (احمر.. بالخط العريض) وبقدرة معّده ومقدّمه، بالرغم إنني لاحظت أن ثمة ظواهر سلبية تعرض على الشاشة، ولكنها لم تجد أية معالجة علمية واضحة لها. وهنا أسأل: متى نبني مجتمعاتنا على فضائل التمدن؟ متى نستعيد أخلاقياتنا الأصيلة في السماحة والحلم والقبول؟ متى نتخلص من تهميش الآخرين، خصوصا، إن كانوا من أقليات دينية ومذهبية وعرقية؟ متى تتوقفون عن اضطهاد كل الكائنات قولا وفعلا..؟؟ متى تتقبلون الآخرين، وأفكارهم، وتربوياتهم جنبا إلى جنب ما تستخدمونه من كل وسائل العصر الحديثة الالكترونية والتكنولوجية والديجالات الرقمية؟؟ ومتى تصبح مجتمعاتنا سوية في علاقاتها، نظيفة في تقاليدها، منفتحة في أفكارها..؟؟ إن ذلك لا يحدث إلا إن غادرت كل ما يشين من طقوسها الموروثة!
www.sayyaraljamil.com