في نوبة كرم حاتمي غير مسبوقة، قررت المنظمات الفلسطينية منح إسرائيل مدة أسبوع، لتلملم فيها أشلاءها، وتلعق جراحها، وتلتقط أنفاسها، بعد أن أثخنتها المقاومة الباسلة ضرباً وتقتيلاً وتدميراً لأوكارها، هو أسبوع واحد لا أكثر، تفضلت به المقاومة على إسرائيل، نزولاً على رغبة وإلحاح المجتمع الدولي، لكي تسحب فلول قواتها المدحورة من غزة الحمساوية البطلة الصامدة، بعد أن لقنها أشاوس المقاومة درساً لن تنساه، أنهى إلى الأبد أسطورة جيشها الذي لا يقهر.. بعد هذه الفترة، وإن لم يسارع العدو الصهيوني بالانسحاب مجللاً بالخزي والعار، فإن المقاومة الحمساوية الباسلة في حل من أي ارتباط، وسوف تضرب بقوة لم يسبق للعدو تخيلها، وستكون أرض غزة مقبرة لجنوده الأنجاس، هذا وقد أعذر من أنذر.
لحسن الحظ لم يكن خطاب المنظمات الفلسطينية حتى الآن، على مستوى الفقرة السابقة من الصفاقة والادعاء الواضح الصريح، وإن كان ما تم إعلانه، وما يلقى حوله من شراك خداعية وتضليلية، يكاد ينطق بذات ما ورد أعلاه، ولما لا يفعلون وقد أثبتت الأمة العربية أنها تُقبل على مثل تلك الأطعمة الفاسدة المغشوشة، وتلتهمها بنهم واستمتاع، تهرب به بعيداً عن مشاعر الإحباط والدونية، إلى عالم انتصارات إلهية وتاريخية سحرية، تستعيض به عن مرارة عيشها، في ظلال الفقر والجهل والقهر.
لم يسبق بالطبع لما يسمى بالأمة العربية أن حاسبت قادتها، على ما أوردوها من موارد تهلكة، فلو فعلت أي من هذه الشعوب ذلك ولو مرة واحدة، لتردد بعد ذلك ألف مرة، كل من تسول له نفسه المغامرة أن يقامر بمصير أمه، لأنه عندها سيكون عالماً بمصيره، إن نجح واختفى في جحر فأر من ضربات العدو، فسوف يأتي به شعبه الذي تسبب في تمكين العدو من التنكيل به، ليجعل منه عبرة لمن يعتبر.
لكننا لا نفعل هذا أبداً، ونفضل أن نوهم أنفسنا بانتصارت تاريخية أو إلهية، نفضل أن نستمتع بالحياة في بركة أكاذيبنا، على أن نواجه أنفسنا، بما لابد من مواجهته، إذا كنا نريد أن نغير من واقعنا المتردي، لعلنا في يوم ما نستطيع تحقيق انتصارات حقيقية، ولكي نورث لأولادنا تاريخاً مجيداً حقيقياً، ومستقبلاً قابلاً للنمو والازدهار، فلا يمكن أن يُبنى التقدم أبداً على الأكاذيب، كما لا يمكن أن يتحقق في غياب المراجعة والنقد العلمي الصارم، لأدائنا وأداء زعمائنا في كافة مناحي الحياة، فالأمة التي تفتقد لشجاعة المراجعة تتراكم أخطاؤها وتتفاقم، وتخرج من حفرة لتقع في هاوية كما يقول المثل.
فهاهي أمتنا المناضلة قد خرجت من هزيمة عام 1956، والتي لقبناها بالعدوان الثلاثي، وتغنينا بعده بأناشيد الانتصار، ودرسونا في المدارس قصيدة، تشبه صمود مدينة بورسعيد بصمود ستالينجراد في الحرب العالمية الثانية، ومجدنا أبطال الهزيمة الوبيلة، ورفعناهم إلى مصاف الآلهة، وصار قائد الهزيمة بطلاً للأمة العربية، ترفع صوره الجماهيرالمتعطشة للبطولة، من المحيط إلى الخليج، لتكون النتيجة أن نصل إلى وكسة 1967، التي كعادتنا في اتقان فن التزييف، وجدنا لها اسماً رشيقاً هين الوقع، فكانت الوكسة نكسة، بما يعني أن الأمر لا يعدو أن نكسة عارضة قد أصابتنا، بعد أن كنا في نهضة وانتصار، رغم أن كل ما على أرض الواقع، كان يصرخ بأننا نسير في طريق الندامة والخراب.
هكذا كنا معرض سخرية وتعجب العالم كله، حين خرجت الجماهير في الخرطوم بعد الوكسة، لتستقبل الزعيم المهزوم استقبال الفاتحين، بعد أن سبقتها الجماهير المصرية في ذلك، وخرجت عن بكرة أبيها كما يقولون، لتؤدي دورها في مسرحية التنحي على أكمل وجه، ولتعلن تمسكها ببطل الهزائم الذي لا يشق له غبار!!
فهل لنا بعد هذا التاريخ العريق في خداع الذات، أو في quot;أكل البالوظةquot; كما يقول أولاد البلد المصريين، وفي تمجيد وتعظيم الأقزام والخونة والمغامرين، هل لنا بعد هذا أن نتعجب، إذا ما تجرأ حسن نصر الله، بعدما ألحق بلبنان ما ألحق من دمار، بأن يقول لنا بجسارة منقطعة النظير، أنه قد حقق نصراً إلهياً؟
وبعدما صار السيد وكيل العناية الإلهية رمز عزة وكرامة الأمة العربية والإسلامية، بدلاً من محاكمته وتعليقه على أعلى صاري في بيروت، جزاء استهانته بمصير أمة، أتاح أو استدرج أعداءها، ليضربوها ويهدموا ما شيدته فوق رؤوس أهلها.. بدلاً من محاكمته وجعله أمثولة لكل المغامرين الذين يجلبون على قومهم الخراب، صار هو البطل والرمز.
هنا لابد وأن يمتد الأمر بنا على خط مستقيم، وما أن نخرج من مأساة لبنان، حتى نجد من المغامرين الأشاوس، من يدخل بنا إلى كارثة غزة، ولما لا يفعلون؟ لما لا يصبحون أبطالاً على أشلاء ودماء تلك الأمة الظريفة اللطيفة، التي تأكل كل طعام، وتستعذب أكثره تعفناً، وتصدق كل كلام تحقن به في شرايينها المتيبسة، وتختار أعظمه زيفاً ومخاتلة وخداعاً؟
من الطبيعي والحالة هذه، وفيما إسرائيل تمطر غزة بقنابلها وصواريخها، أن يجد قادة العصابات المغامرة من يستقبلهم باحترام، بل ويدعوهم لمؤتمرات قمة (أو قاع) لملوك ورؤساء دول وحكومات، وأن نستمع إليهم وهم يتحدثون بهيئة الأبطال ولغة القادة المتمكنين المنتصرين، والقادرين على تقرير كيف تسير الأمور، بل والتطوع بإصدار توجيهات وتعليمات لرؤساء دول ذات كيان وحضارة وتاريخ مثل مصر، ليحددوا لهم ما يجب وما لايجب عليهم أن يفعلوا!!
ها هي إسرائيل قد كفت يدها مؤقتاً عن استهداف الغزاويين أسرى حماس، وآن الأوان ليخرج المغامرون من جحورهم، ويطلعوا علينا بلحاههم وجئيرهم وأكلاشيهاتهم وشعاراتهم، ويحدثوننا عن انتصارات إلهية وتاريخية، ويهددون ويتوعدون بما لا يمتلكون من مقوماته خردلة، وسوف نشتري بضاعتهم الفاسدة لنقتات عليها، ليمضي بنا قطار غيبوبتنا، من هاوية لهاوية.. لا بأس في كل هذا، فالشعوب لا يمكن ولا تستطيع أن تحصل إلا على ما تستحق!!