من الطبيعي أن يكون انتقال الرئاسة لأوباما حديث الساعة، وموضوع التعليقات في كل مكان، وقد أحسنت إيلاف بفتح صفحاتها لرسائل القراء عن توديع بوش وتنصيب أوباما. إن هناك، قبل كل شيء، حقيقتين لابد من التأكيد عليهما مسبقا:

الأولى، هي أنه ما من رئيس أميركي، بعد نيكسون وترومان، ترك الرئاسة بسمعة متدنية كجورج بوش الابن، وما من رئيس انتقلت الإدارة إليه تمتع بشعبية خارقة، داخليا وخارجيا، كباراك أوباما، والمأمول أن لا ينجر وراء شعبيته انجرارا، بدل رؤية الواقع الملموس، وكيف أن الوعود الانتخابية قد لا يمكن تحقيق بعضها عند تسلم الحكم؛

ثانيا، إن تدني السمعة، أو صعودها، ليسا دائما، وفي كل الحالات، معيارا للحكم على السياسات والسياسيين، وإن كان ذلك معيارا صحيحا في حالات أخرى، وفي حالة اليوم، ليس من مجال للمفاضلة بين الرجلين، فأولهما حكم ولايتين لثماني سنوات، والثاني هو في الأيام الأولى للرئاسة؛ كما لا يجوز الحكم مسبقا على رئاسة أوباما قبل أن يمر بفترة كافية من أدائه لأن ما يواجهه من مشاكل وأزمات ، داخلية وخارجية، هي كبيرة وشديدة التعقيد.

إن التاريخ هو الذي سيحكم على قرارات بوش، كما حكم على رئاسة ترومان ولصالحه بعد وفاته، وكانت شعبيته عند ترك الرئاسة أدنى من بوش، وعندما تقترن الدعاية المضادة، والمغالطة، وحرف الحقائق، وحتى الكراهية، ببعض، يتحول ما هو صحيح إلى خطأ، ومهما كانت أخطاء بوش، فإنه خدم أمن أميركا والعالم بإسقاط نظامي صدام وطالبان، والمبادرة لإنشاء المحكمة الدولية الخاصة؛ وبالنسبة لأميركا، فقد حمى أمنها حتى تركه الرئاسة، بحيث لم تقع عملية إرهابية حتى تبوء أوباما، وهذا مما سهل انتقال السلطة للأخير في جو من الأمن والاطمئنان، ويسرد مقال الول ستريت بتاريخ 19 الجاري سلسلة خدمات بوش للشعب الأميركي في مجالات البحوث، والصحة، والعناية بالأطفال، وغيرها.

لقد دهشنا لأحد كتاب إيلاف حين يتسرع في الحكم على أوباما، طارحا إمكانية quot;عودة المحافظين الجددquot; تحت إدارته. الكاتب المذكور يستند في مخاوفه على اختيار هيلاري كلينتون للخارجية، وبقاء غيتس، وعلى رأي موسكو، ورأي إيران، وعلى تصريحات اوباما ضد امتلاك إيران اانووي، وتصريحات المرشح أوباما عن المضي في محاربة الإرهاب في أفغانستان وجنوب شرقي آسيا. إن هذا المنطق يدعو للاستفهام عما إذا كان الكاتب يطلب من أوباما عدم مواصلة الكفاح ضد الإرهاب الإسلامي، أو القبول بامتلاك إيران للقنبلة!! أما نغمة quot;المحافظون الجددquot;، فإن اليسار الغربي، ومعظم الكتاب العرب، يستخدمون هذا المصطلح دون شرح كاف، وبطريقة تشويشية وانتقائية، مربكة، ومرتبكة. ترى كيف يعتبر الكاتب هيلاري كلينتون الديمقراطية بمثابة الطابور الخامس لهؤلاء quot;المحافظين الجددquot; المشار لهم!!؟quot;، ولم هذا التحامل المركز عليها هذه الأيام، مكررا حملة غلاة اليسار الأميركي في هذا الشأن، والذي يلتقي مع quot;تشاؤمquot; موسكو وطهران؟؟ أما بقاء وزير الدفاع غيتس، فقد كان اختيارا في محله نظرا لأهمية الوضعين العراقي والأفغاني وتشابكاتهما، وإن أوباما في حاجة ماسة للأخذ بآراء القادة العسكريين في هذه المشاكل الشائكة جدا، ولذا كان من قراراته الأولى الالتقاء بهم. إن استناد الكاتب إلى قول رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما الروسي من أن اختيار هيلاري وغيتس quot;لا يعد برئاسة آمنة سلميةquot;، هو استناد يزيده غرابة أن كاتب المقال لم يشر للغزو الروسي لجورجيا، والابتزاز الغازي لأوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وتهديدات روسيا لدول أوربا الشرقية، صراحة أو ضمنا. كذلك الأمر مع رجوع الكاتب لإيران في التأكيد على أن تصريحات أوباما quot;أمر غير مشجعquot;، فهو الآخر غريب، نظرا لأن إيران رفضت كل عروض الاتحاد الأوروبي، ومنظمة الطاقة النووية، بحيث أن البرادعي اضطر للقول بأن المحادثات مع إيران وصلت لطريق مسدود، طالبا من أميركا التفاوض المباشر عسى أن يؤدي ذلك لانفراج ما. إن ما ألحت عليه إدارة بوش هو تشديد العقوبات للضغط على إيران، وقد اتفقت مع الاتحاد الأوروبي في تقديم العروض المغرية بشرط وقف التخصيب، وإن الموقف الفرنسي من إيران يبدو أكثر تصلبا من موقف بوش. يضاف أن الإدارة السابقة لم ترفض الحوار مع إيران، بل أجرت سلسلة من الاتصالات غير المعلنة معها، كما عارضت أميركا محاولة إسرائيل الحرب على إيران.

إن من غير المفهوم أيضا القول بأن quot;أول مشهد لا يحمل كثيرا على الاطمئنان لجهة نوايا الرئيس أوباما، والتي يخشى المراقبون معها أن يكون الرجل محملا بمركبات نفسية غير سوية، تدفعه في الاتجاه الخاطئ تماما، كان ذلك المتعلق بالحديث عن الإرهاب والشر وحشر الإسلام والإسلاميين في ملامح الإشكالية، التي يبدو أنها ستستمر لزمان وزمانين.quot;؟، [انظر مقال quot;أمريكا جديدة أم عودة مقنعة للمحافظين الجدد؟، [ إيلاف عدد 20 يناير الجاري]. أوليس من حقنا التساؤل عما إذا كان غير مطلوب في رأي الكاتب، ومن يشاركونه الرأي، محاربة الإرهاب الإسلامي؟ ثم من quot;حشر الإسلامquot; كدين في الحرب على الإرهاب؟ وأين؟ وكيف؟ ثم ما هذه quot;المركبات النفسية غير السويةquot;، التي ينسبها لأوبام؟ هل القصد لونه؟!ا

نقطة أخرى: إن بوش هو الذي بادر لاتخاذ التدابير الجريئة لمعالجة الأزمة المالية الحادة، وهذه الإجراءات، التي حظيت بموافقة اوباما، تأخذ بتوصيات عالم الاقتصاد الإنجليزي كينز، الذي دعا لتدخل الدولة في الشؤون المالية والاقتصادية عند الضرورة القصوى لمعالجة الأزمات الدورية للرأسمالية، وأفكار كينز تقدمية. فكيف ينسجم هذا مع معتقدات quot;المحافظين الجددquot;؟

إن ثمة منطلقات أخرى، غير قصة quot;المحافظون الجددquot;، للتحليل والحكم، قرءنا نموذجا منها في بعض رسائل إيلاف، ونقصد منطلقات وثوابت فكرية، سياسية، هي عربية وإسلامية بامتياز، ومفادها أن كل رئيس أميركي محكوم مسبقا بما تريده الموساد، وأنه لو أراد أوباما الخروج عنها، فسوف يعزل!! هذا ، بالطبع، مجرد هراء لا يستحق التعليق.

إن كثيرا من العوامل والظروف والملابسات تتدخل أحيانا في تدني سمعة الساسة وقادة الحكم، وفي حالة بوش، وكما تقول صحيفة الفيجارو الفرنسية، فقد رافق الحكم على سياساته الكثير من التبسيط، بل والكاريكاتورية، وهذا يعرقل التقييم الصحيح.

إن فترة بوش لم تكن quot; ثمان سنوات من الحروب وأخبار الحروب، وتعميق العداوات، وتأصيل الكراهاتquot;. السؤال هو أية حروب خاضتها أميركا في الفترتين؟ هناك حربان، أفغانستان والعراق، فلا حروب غيرهما، والتحليل الموضوعي يتطلب الإجابة عما إذا كانت الحربان مبررتين أم لا، ثم ما إذا اقترفت في شنهما أخطاء، سواء في الإعداد، أو الأداء؛ فأما موضوع حرب العراق، فسوف نكرس له مقالا مستقلا، علما بأن وجهة نظرنا تتطابق مع المفكر الفرنسي أندره غلوكسمان، الذي استعرضنا كتابه quot;غرب ضد غربquot; في مقال سابق، كما أنه لابد من التمييز بين شرعية الحرب إنسانيا، وبين ما وقع بعد سقوط صدام ولحد يومنا، أي طغيان الأحزاب الدينية، ونفوذ إيران المتزايد.

إن الساسة، في الحكم أو خارجه، غير معصومين من الأخطاء، صغيرة او كبيرة، وبوش لم يكن معصوما ولا اوباما سيكون معصوما من الأخطاء. المهم تشخيصها، والإرادة السياسية على تصحيحها، وعدم الانفراد في اتخاذ القرارات.

إن التعليقات العربية تتوقع، أو تأمل، سياسة أميركية لصالح القضية الفلسطينية.

إن هذه المسألة، أي موقف أميركا وبوش من القضية الفلسطينية، تستدعي وقفة تاريخية وموضوعية صريحة.

لا شك أن أميركا تعتبر أمن إسرائيل من ثوابت سياستها منذ قيام إسرائيل، ولكن هذا موقف الغرب كله، كما أن المجتمع الدولي يعتبر وجود إسرائيل كدولة من صميم الشرعية الدولية لكونها قامت بقرار من الأمم المتحدة. إلى هنا والأمر معروف، وتبقى النقاط التالية:

1 - ليست أميركا صاحبة وعد بلفور، ولا المسئولة عن المذابح الهتلرية التي تسببت في هجرة يهود أوروبا. الوعد كان أوروبيا، والحرب والمذابح اليهودية، كانت أوربية.

2 - الدول الغربية، والكتلة الاشتراكية، [عهد ذاك]، جميعها تحمست لقرار الأمم المتحدة، وعندما شنت الدول العربية حربها الفاشلة عام 1948، فإن خطب المندوب السوفيتي والمندوبين الشرقيين كانت عنيفة جدا في إدانة العرب؛

3 ndash; السياسة الأميركية في المنطقة تحددها مصالحها الإستراتيجية، فقد اتخذت مواقف لا تخدم العرب أحيانا، ولاسيما التآمر مع النظام الناصري على ثورة 14 تموز؛ ولكنها في حالات أخرى اتخذت مواقف تخدم العرب، رغم أنه كانت لها أهدافها هي، ولعل من أهم تلك المواقف التحذير الأميركي الحازم لدول العدوان الثلاثي عام 1956، وهو التحذير القوي الذي حسم الأمور، لا الخطب السوفيتية، بانسحاب قوات العدوان؛ وبدلا من استغلال ذلك الموقف إيجابيا، قاد الراحل عبد الناصر الحركة العربية نحو معاداة أميركا والتحالف مع الكتلة الاشتراكية تحت ستار quot;الحياد الإيجابيquot;، الذي كان في واقعه انحيازا لكتلة دولية ضد أخرى. في حالة أخرى، تدخلت أميركا في ولاية بوش الأب لدى إسرائيل لكي لا ترد على صواريخ سكود العراقية في حرب الكويت. أما زمن بوش الابن، فقد أعلن صراحة، وبصورة قاطعة وواضحة، وجوب قيام دولة فلسطينية، وجعل من قضية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي من أولويات سياسته الخارجية، فأرسل كولن باول، وهو وزير الخارجية، للمنطقة لمحاولة إيجاد حل سلمي، وبعده صارت جولات الوزيرة رايس للمنطقة مكوكية، وفي كل مرة كان تخريب المساعي يأتي من حماس والجهاد، ووراءهما إيران وسوريا. إن الإسلاميين الفلسطينيين لا يريدون أي حل سلمي عادل، ويرفعون شعار الكفاح المسلح وquot;تحرير كامل فلسطينquot;، وهو موقف غير عملي، وفاشل مسبقا، ولا يراعي موازين القوى، ومجمل الظروف الدولية والإقليمية، وهو موقف خطر على القضية، كما برهنت مجددا حرب غزة. لا ننسى أيضا ما قدمته الولايات المتحدة من مساعدات مالية سخية للسلطة الفلسطينية الشرعية، المتمثلة في سلطة أبو مازن.

أخيرا، وقبل الانتقال في المقال التالي إلى العراق، تجب الإشارة للموقف الأميركي الواضح، القاطع، لصالح سيادة لبنان وأمنه، وهو ما أكدت عليه بعض الرسائل المنشورة في إيلاف. إنه موقف يلتقي مع الموقف الفرنسي، ويصب في خانة المصالح اللبنانية العليا، التي تواصل إيران وسوريا وحزب الله، تهديدها.