قيل الكثير عن التدخل الأمريكي المباشر في إسقاط حكم البعث الصدامي، سواء من قبل المؤيدين لهذا التدخل ومبرراته أو المعارضين له. وقد تجددت الحملة الآن بمناسبة انتهاء ولاية الرئيس بوش واستلام الرئيس أوباما للإدارة الأمريكية، لذا أرى من المفيد العودة لهذا الموضوع المهم وتسليط الضوء على بعض الأمور.

أ - الوضع العراقي وعلاقته بالأمن الدولي:
في آب 2007 زار العراق كوشنر، وزير الخارجية الفرنسية، ونشر مقالا ترجمته الحياة في عددها 27 آب ndash; أغسطس- من العام المذكور. كان عنوان المقال: quot;جزء من مستقبلنا يتحدد في العراق.quot; المعروف أن وزير الخارجية الفرنسية الحالي قد أيد الحرب في حينه، وكان من الدعاة الأوائل لمبدأ quot;التدخل الإنسانيquot;. بدأ كوشنر مقاله كالتالي:
quot; ماذا أقول عن العراق، وأنا عائد منه اليوم؟ إنه عراق quot;ديمقراطيquot;، - [ القويسان لكوشنر]، مزود بدستور أقر بموجب استفتاء، وبالانتخاب العام المباشر ndash; ولكنه في حرب مع نفسه. عراق تحرر من ديكتاتورية دموية ndash; أهلكت مليونين إلى أربعة ملايين شخص ndash; حيث لا يزال الدم يسفك مع ذلك. عراق متناقض، ومقطّع، على غرار العقول، والقلوب: منطقة خضراء فائقة الحماية، ومنطقة كردية أكثر استقرارا، وما تبقى من البلاد فريسة احتدام الحقد والعنف دفع بأربعة ملايين لاجئ ومهجَّر على طريق المنفى، ولا يزال ذهب ضحيته ألفا شخص كل شهر.quot;
كان الوضع الأمني، كما كتب، في غاية التدهور، ولكن تحسنا جزئيا حدث في العام المنصرم، وإن كانت الأخطار الأمنية لا تزال كبيرة.
أما تقرير بيكر وهاملتون، الصادر في ديسمبر 2006، أي قبل مقال كوشنر بحوالي نصف سنة، فيتحدث عن تفشي الفساد في مرافق الدولة، وعنف الإرهاب، والجريمة المنظمة، وسرقة الثروات، وغياب الشعور بالمسئولية، وعدم الولاء للعراق، وتردي الضبط العسكري في القوات المسلحة واختراقها من قبل المليشيات والقاعدة، وولائهم لعشائرهم وطائفتهم بدل الولاء للوطن والشعب والدولة، [ نشر الدكتور عبد الخالق حسين في حينه دراسة جيدة عن التقرير المذكور استفدنا منها هنا]. يجب أن نؤكد هنا تأكيدا خاصا على دور التدخل الإيراني واسع النطاق في شؤون العراق ومفاصل الدولة والمجتمع بحيث صارت اليوم هي القوة السياسية الأولى في البلاد.
إن كوشنر، هاملتون، وبيكر، يعطون أهمية كبرى للعراق، بما يبدو لنا هو تقدير مخالف لتقييم أوباما، الذي لا يتحدث عن العراق إلا في معرض الانسحاب العاجل. التقرير يحث الإدارة الأميركية على العمل لتحقيق الاستقرار حتى ولو بزيادة القوات، ولا يطالب بجدول زمني للانسحاب، ولكنه يشدد على وجوب انتقال المهمة العسكرية للقوات الأميركية تدريجيا إلى التركيز على دعم القوات العراقية، وتدريب قوات الأمن وتقديم العون لها، مثلما يحذر الحكومة العراقية تحذيرا قويا وذا مغزى من الاتكال على أميركا، وإن عليها أن تمارس مسئولياتها لمعالجة الوضع وإلا فيجب أن يكون لواشنطن موقف آخر. يؤكد التقرير على أن quot;على الولايات المتحدة أن تعالج ما أمكنها المشاكل العراقية...quot;. ويضيف أن quot;للولايات المتحدة علاقات ومصالح طويلة المدى، معرضة للخطر في الشرق الأوسط، وهي بحاجة إلى أن تبقى في القلب.quot;
أما كوشنر، فإن عنوان مقاله بالذات تأكيد على أهمية العراق لفرنسا والغرب، قائلا إن quot; العراق واقع في قلب رهانات عالمية: مواجهات بين الطوائف وضمنها، عدم التسامح والتعصب الديني، نزاعات بين الحضارات، تأثيرات ذات طابع ازدواجي للبلدان المجاورة، بما في ذلك ضمن سباق الانتشار النووي، وعولمة الإرهابquot;، فالعراق واقع في منطقة شديدة الحساسية وإن أوضاعه، سلبا أو إيجابا، تمس مصالح الأمن الدولي، والولايات المتحدة بالذات.
في اعتقادي أنه يجب التمييز القاطع بين شن حرب إسقاط النظام البعثي السابق، وبين ما جرى بعدئذ من مضاعفات ومشاكل حادة وكبرى، حتى وصلت الأمور إلى ما حددها التقريران المذكوران وهو ما نشرنا عنها عشرات المرات، ومنذ الأسابيع الأولى لسقوط صدام.

ب - إسقاط صدام كان لمصلحة شعبنا والأمن الدولي:
هل كانت الحرب مبررة، ومن صالح الأمن العالمي والعراق؟ هذا أولا، وبعد هذا: أين هي المسؤوليات عما وصلت إليه الأمور رغم مرور حوالي ست سنوات؟
لقد عالجنا في عشرات المقالات، قبل الحرب وبعدها، شرعية الحرب، سواء إنسانيا، أو قانونيا، أي وفق قرارات مجلس الأمن، القرارات 678 و687 و1441. كل هذه القرارات كانت بموجب الفصل السابع من الميثاق الدولي الذي يبيح استخدام القوة بهدف إعادة السلام والأمن الدوليين، وقد أوضح وزير العدل البريطاني عشية الحرب أن quot;الأمر الوحيد الذي يطلبه القرار 1441 هو أن تكون المخالفات العراقية موضع تقرير ومناقشة في مجلس الأمن، لكن لا ينص على استصدار قرار جديد صريح للسماح باستخدام القوة.quot;

لقد أعدت في مقالي quot; القضية العراقية أمام الهستيريا والابتذال المقرفquot;، المنشور في 31 ديسمبر 2008، توضيح الأسانيد التي تبرر شن الحرب من الوجهة الإنسانية، وكذلك موضوع أسلحة الدمار الشامل، وكان ذلك في استعراض كتاب المفكر الفرنسي أندريه غلوكسمان: quot;غرب ضد الغربquot;، وقد أيدت آراءه التي سبق لي الكتابة فيها مرارا، واعني شرعية التدخل لإنقاذ شعوب تتعرض لحملات إبادة، عرقية أو دينية، وهو ما يدعوه المؤلف بالحروب الإنسانية، التي يجب خوضها في حالات خاصة جدا، وبمبررات كافية، وقد أكد، في الوقت نفسه، أن حق التدخل الإنساني حق غير مكتوب، ومعقد كثيرا، وليس سهلا الدفاع عنه دبلوماسيا، لكنه، مع ذلك، يجب أن يمارس عندما يتهدد مصير شعب من الشعوب. ومهما كانت أسباب الحرب أميركيا، فإن سقوط النظام السابق كان لمصلحة العراقيين، الذين كانوا تواقين لذلك ولكنهم كانوا غير قادرين، ولعل خير تلخيص لوجهة النظر هذه هو قول مأمون فندي قبل الحرب: quot; إن موت النظام [العراقي] حياة للجسد العراقي، وبقاء هذا السرطان يعني القضاء على العراقquot;، ونعرف أن النظام المنهار لم يكن يهدد شعبه وحسب، بل كان في نفس الوقت يهدد جيرانه في الخليج، وطريق تصدير النفط الخليجي، ناهيكم عن تهديداته الفارغة لأمن إسرائيل ولأغراض غوغائية، دعائية فقط لكسب الشارع العربي.

لقد أشرنا في مقال سابق عن الانتخابات الأميركية إلى دراسة هامة نشرتها الهيرالد تريبيون، وهي قرينة نيويورك تايمس، والصحيفتان تعارضان بشدة الحزب الجمهوري ومؤيدتان لترشيح أوباما. نشرت الدراسة المذكورة في 23 أكتوبر الماضي على الصفحة الأولى تحت عنوان: quot;كلما تتقدم الحملة الانتخابية، فإن كلا المرشحين يغيران السياسات.quot; الدراسة تبين مدى حماس أوباما لمبدأ التدخل الإنساني، وأنه أكثر حماسا بكثير من ماكين، الذي عارض التدخل الأميركي في لبنان في الثمانينات، والتدخل في هايتي، والصومال، وحتى في البوسنة. إن الرجلين، مع ذلك، يتفقان على المبدأ الجديد الدارج في الأمم المتحدة، وهو quot; مسئولية الحمايةquot;، أي حماية الشعوب التي تحتاج لحماية، ولكن الرجلين يؤكدان على وجوب دراسة كل حالة على حدة قبل التدخل. وكان أوباما قد دعا لقصف باكستان عند الضرورة لملاحقة طالبان والقاعدة، كما دعا لتقوية الموقف الأميركي من مأساة دارفور، مع تملصه من الإجابة عما إذا كان يرى ضرورة إرسال قوات أميركية إلى هناك، أو إلى باكستان، في حين أن ماكين انتقد تصريحاته عن قصف باكستان، وإذا كان خطاب التنصيب لم يستعمل عبارة quot;الحرب على الإرهابquot;، فإنه قد عبر عن مضمون ذلك بلباقة فائقة، مهددا المتطرفين الذين يعرضون أمن أميركا للخطر، وإن استعماله تعبير quot;القوة الناعمةquot;، وكما فسرت صحيفة هيرالد تريبيون، يتضمن معنى أن سناتورا شابا مثله قد تكون له، هو الآخر، قبضة quot;فولاذية.quot;، على حد تعبير الصحيفة.

إن الحرب قد أنقذت شعبنا من نظام المقابر الجماعية، واستخدام الغاز ضد الشعب، وزنزانات التعذيب حتى الموت، والمقابر الجماعية، والحملات العرقية والمذهبية، والفضل في كل ذلك لبوش، ولتضحيات الجنود الأميركيين، ولو كان العراقيون أوفياء، لأطلقوا اسم بوش على ساحة رئيسية من ساحات بغداد، لتذكير الجماهير، والقيادات العراقية الحاكمة دوما بمن كان له الفضل في تحرير العراق من الظلم والفاشية؛ أما النواب الذين يطالبون بإطلاق سراح البعثي الحذائي، فيجب تذكيرهم بأنهم وصلوا البرلمان بفضل الحرية التي توفرت بعد سقوط صدام، وبأنهم ينتهكون سيادة القانون حين يطالبون بإطلاق من خرق القانون بكل جبن وابتذال.

والآن:
إذا كانت هذه ضرورة الحرب، وشرعيتها، وأهمية سقوط النظام البعثي للعراقيين، ولأمن المنطقة والعالم، وما ضمنته نهاية ذلك النظام الجائر، من حريات واسعة للعراقيين، فكيف نفسر كل المشاكل، والمآسي، والعنف، والصراعات، والفساد، ونظام المحاصصة الذي ينسف أسس الديمقراطية؟ وكيف صار النفوذ السياسي الإيراني هو الأول في العراق؟ وكيف نحدد المسؤوليات عن كل هذا؟؟ ثم كيف نتصور تطور الأوضاع في المستقبلين القريب والمتوسط؟ هذا ما نترك تناوله للمقال التالي.