العودة للأخطاء السياسية الماضية ضرورية أحيانا للتذكير، والاتعاظ، ولتعريف من لم يرافقوا الحدث.

هذه العودة- عندما تكون موضوعية، هادئة، هي ضرورية، وهي لا تخدش ولا تثير الحساسيات، شخصية او سياسية؛، أو هذا ما هو مفترض.

بهذا الشأن، نشر الأستاذ إبراهيم أحمد مقالا هادئا في إيلاف عن المواقف الشيوعية، [مركزا بوجه خاص على موقفي شخصيا]، مما عرف بquot;خط آبquot; الشيوعي لعام 1964،المعتمد في اجتماع ببراغ]. واستعرض الكاتب التطورات السياسية اللاحقة، والمواقف الشيوعية منها، وأثار قضية التكتيك السياسي، والمرونة والتشدد، وهذا موضوع مهم.- علما بأنني قد تناولته كثيرا في السابق، سواء في دراساتي، أو في مقالاتي في الصحف العربية، ومنها جريدة الحياة بمناسبة وفاة الرمز الشيوعي عامر عبد الله، وكذلك بمناسبة ذكرى غيفارا.

الكاتب مشكور على طرحه للموضوع رغم أن بعض التواريخ والأحداث اختلطت في المقال: مثلا، كعدم التمييز بين عهدي عبد السلام عارف وشقيقه عبد الرحمن عارف.

ما هو الخط الذي عرف بquot;خط آبquot;، الذي أقرته أكثرية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في العام المذكور؟

كان الجنرال العسكري عبد السلام عارف قد انقلب على حلفائه البعثيين في نوفمبر 1963، بعد مشاركته معهم في الانقلاب الدموي الفاشي، الذي أطاح بثورة 14 تموز وقائدها الراحل، عبد الكريم قاسم. ومعروف ما أعقب الانقلاب من حمامات دم، وتعذيب حتى الموت، واعتقالات بالجملة.

عبد السلام قام بمطاردة حلفائه البعثيين، وكشف الكثير من جرائمهم الوحشية، وخطا بعض الخطوات الاقتصادية الإيجابية، ولكنه، في الوقت نفسه، قام بتأسيس كيان حزبي على النمط الناصري لكي يحتوي كل التنظيمات السياسية الأخرى، ومارس الطائفية، واستمر في تقييد الحريات، فكيف كان يمكن تطوره التدريجي إلى أمام نحو الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية؟!! لقد كان ممكنا، مثلا، عام 1954، في عهدي أرشد العمري والجمالي، أن يتطور النظام الملكي تدريجيا بخطوات إصلاحية متدرجة، حتى جاء نوري السعيد بعد عام ليلغي كل إمكانية للتطور السلمي التدريجي، ويفتح باب الثورة بالسلاح. إنني ممن لا يرون أن نظاما عسكريا مستبدا، كحكم عارف، يمكن تطويره نحو الديمقراطية. نعم، وكما يقول الكاتب، كان يجب دعم إجراءاته الإيجابية مؤقتا، لكن دون نسيان الطبيعة الدكتاتورية، العسكرية، الطائفية لذلك النظام، والعاصية على التطور نحو نظام ديمقراطي

ماذا كانت المواقف من كل ذلك داخل اللجنة المركزية الشيوعية؟

الأكثرية ذهبت لوجوب دعم النظام، ولإمكان الدخول quot;بشكل جماعيquot; في مؤسسته الحزبية، quot;الاتحاد الاشتراكيquot;، أما الأقلية، [وهم ليسوا الأسماء التي ذكرها الأستاذ أحمد، فهو يخلط بين حركة تلك المعارضة لعام 1964، وحركة القيادة المركزية بعد 4 سنوات]، فكانت تقول إن عبد السلام امتداد للانقلاب الفاشي، وتجب معارضته، والمطالبة بإسقاطه. المؤيدون كانوا تحت ضغط سوفيتي مكثف وأكيد، [حيث كنت في صميم الحدث]، لاعتماد خط آب، لا حبا بعارف، بل ترضية لعبد الناصر، الذي كان حليفهم الرئيسي في المنطقة. وقال المؤيدون بما اعتبروه quot;الدور الطليعي للبورجوازية الصغيرةquot;، قاصدين قيادة عبد الناصر العسكرية، والقيادات العسكرية المماثلة في العالم الثالث، الموصوفة كquot;تقدميةquot;، واعتبروا خطوات عارف الإيجابية quot;تطورا لا رأسماليquot;، سائرا نحو الاشتراكية.

من جانبي، والقلة معي، عارضنا مقولة quot;التطور اللارأسماليquot;، التي جاء بها السوفييت ليصفوا بها أنظمة عسكرية في العالم الثالث قامت بخطوات اقتصادية واجتماعية إيجابية، ومهمة. وكنا نؤكد على وجوب ارتباط الديمقراطية السياسية [ لكن فهمنا للديمقراطية كان خاطئا]، بالتحولات لاقتصادية والاجتماعية. وكنت ممن رفضوا استمرار الضغوط السوفيتية.

ذلكم، كما أرى، عرض القضية بكل اختزال، فالموضوع متعدد الوجوه ومتشعب.

وماذا بعد؟؟

لقد توصلت في النصف الثاني من الستينات إلى أن موقف الأقلية كان خاطئا من الناحية التكتيكية، إذ كان واجبا دعم الإجراءات الإيجابية، لكن من دون تزكية ذلك النظام. كنا شديدي التشنج تكتيكيا، وكان ذلك خطأ فادحا. وقد أشرت مرارا وتكرارا إلى دروس وعواقب تشنج مواقف المعارضة الوطنية في العهد الملكي، ومعارضة، بل وإدانة، أية خطوة إيجابية كانت تخطوها هذه الحكومة أو تلك، بلا تمحيص، وبلا دراسة- أي معارضة من أجل المعارضة كموقف اليسار الفرنسي اليوم.

ذلك هو الوجه الأول للقضية المطروحة.

أما الوجه الثاني، فهو أن المعارضة الشيوعية الداخلية لعام 1964 كانت على صواب في رفض تحويل التكتيك المؤقت إلى إستراتيجية ومبدأ- أي رفضنا مقولة التطور غير الرأسمالي، وتذويب الحزب الشيوعي بعنوان الدخول جماعيا في الاتحاد لاشتراكي العراقي، كما اندمج شيوعيو مصر في الاتحاد الاشتراكي المصري. كما كان صحيحا رفض الاعتراف بالدور القيادي لعبد الناصر في البلدان العربية، وهو الذي أقام أولنظام شمولي في العالم العربي، وكانت إجراءاته الاجتماعية التقدمية مقرونة بفرض نظام الحزب الواحد، والقائد الواحد، والمغامرات الخارجية.

إن تشددنا التكتيكي في قمة الحزب عام 1964 كان يرافقه موقف متشدد بين نسبة عالية من القواعد و الكوادر الحزبية في العراق، وقاد ذلك تدريجيا لانشطار الحزب أواخر عام 1967، وهذا موضوع آخر.

بعد عبد السلام، جاء شقيقه عبد الرحمن عارف، وكان من طينة أخرى، رغم أنه كان هو الآخر عسكريا. إنه لم يكن دمويا، ولا طائفيا، وعقد اتفاقا هاما مع الحركة المسلحة الكردية. وفي عهده ازدهرت الفنون، وكان الشيوعيون والتقدميون الآخرون من الكتاب يكتبون بحرية في الصحافة، ولبعضهم مراكز صحفية مهمة، وتطور ما عرف بشعر الستينيات، وبرز مسرح عراقي متميز لا نزال نحن إليه. وفي رأيي، أن عهد عارف الثاني كان يتمتع بخصائص إيجابية منعدمة في الوضع السياسي العراقي الراهن. لكن، بدلا من التعامل الإيجابي معه، وقع الشيوعيون وغيرهم في خطأ المعارضة، والمطالبة بإسقاطه، ملتقين في ذلك، موضوعيا أي دون قصد، مع البعثيين، الذين كانوا يعملون بكل شراسة لإسقاط الحكم . خطأ تكتيكي كبير، كانت له عواقبه المؤذية.

وجاء انقلاب حزب البعث، واتخذ في السنوات الأولى سلسلة إجراءات اقتصادية واجتماعية مهمة، واعترف، [لأسباب تكتيكية بحتة وهو يضمر الغدر]، بحق كردستان العراق في الحكم الذاتي، وتعاونت قوى تقدمية، والأكراد، مع النظام الجديد، وتشكل ما سمي بجبهة وطنية دامت حتى أواخر 1978، وتشكلت حكومة سموها ائتلافية. فأين كان الصحيح؟ وأين كان الخطأ؟ هذا موضوع آخر قابل للنقاش.

الخلاصة:

إن المرونة السياسية، أي حسن استخدام التكتيك السياسي، هو من شروط اتخاذ المواقف الصحيحة، كما يؤكد الكاتب إبراهيم أحمد: فمثلا، إن تأييد حرب الولايات المتحدة على صدام كان ضروريا وواجبا، رغم أن الولايات المتحدة أقدمت على الحرب، لأسباب، في مقدمتها الدفاع عن أمنها القومي وأمن المنطقة، ملتقية في ذلك مع المصالح العليا لشعبنا وشعوب المنطقة.

من جهة أخرى، إن فن التكتيك السياسي مقيد بالظرف السياسي، وبموازين القوى السياسية، وهذه الظروف والموازين تتبدل باستمرار؛ فما كان صحيحا في فترة ما يغدو باطلا في فترة أخرى، ومن ثم، فلا يجب تحويل التكتيك المؤقت إلى إستراتيجية دائمة، ولا ينبغي أن يكون على حساب المبدأ، فكريا أو سياسيا.

هذا ما أفهمه اليوم شخصيا من الإستراتيجية والتكتيك، بعد التجارب السياسية القاسية، وهذا مثلا يفسر موقفي حين أنتقد الجبهة الكردستانية، سواء لتحالفها quot;الإستراتيجيquot; مع المجلس الأعلى، أو لموقفها من النظام الإيراني.

لقد تناولت في مقالاتي وكتبي منذ منتصف التسعينات تجربة أخطائي السياسية عندما كنت في الحركة الشيوعية وبعدها، وكان الأدق ما كتبته في آخر كتبي quot;شهادة للتاريخquot;، الذي ظهر قبيل الحرب، وكذلك في مطالعتي عام 2000 في ندوة بلندن بمناسبة ذكرى انقلاب شباط المشئوم لعام 1963 . وكتبت في مقالي بمناسبة رحيل عامر عبد الله أنه كان أكثرنا واقعية وتمرسا بالسياسة عام 1964، ولكنه أفرط في استعمال التكتيك. وفي مقال آخر، نشر في صحيفة الحياة عن غيفارا في أواخر التسعينات، اجتهدت أنه من حسن الحظ أن غبفارا رحل ولم ينتصر. لماذا؟ لأن الأيديولوجية التي كان يعتنقها كانت سوف تؤدي حتما، بعد النصر، إلى قيام نظام شمولي وتعسفي على النمط الكوبي؛ فالأيديولوجيات الشمولية المغلقة تحمل معها حتما ميول احتكار السلطة، والطغيان، والقمع الدموي للمعارضين. هذا هو أيضا شأن الأيديولوجيات الإسلامية، كأمثلة النظام الإيراني، والنظام السوداني، ونظام طالبان بالأمس.

وشكرا للكاتب على إثارة موضوع هام.