يقولون ان وليد جنبلاط يستطيع ان يبيع الديك نفسه اكثر من مرة في السياسة اللبنانية. ويقولون ايضاً ان جنبلاط تعلم بيع الديك اضطراراً، ذلك ان السياسة السورية في لبنان وحيال لبنان، كانت على الدوام تنجح في بيع ديكها أكثر من مرة. ولم يكن أمام السياسي الذي تخضرم بالعلاقة مع هذا النظام مداً وجزراً، خصومة وصداقة، إلا ان يتعلم كيف يبيع الديك اكثر من مرة ليستطيع البقاء قيد التأثير.
ما من شك ان النظام السوري يجيد هذه اللعبة. لكن الشك اليوم يطاول الديك نفسه ومشتريه. هل ما زال الديك حياً، وان كان حياً هل ما زال مرغوباً في سوق السياسة الدولية؟ وما هو الحد الذي لا يستطيع التاجر تجاوزه لئلا يموت الديك او يفقد الشارون الرغبة بشرائه؟
في العام 1992 نجح النظام السوري في بيع ما يمكن تسميته تغطية سياسية عربية للهجوم الأميركي على العراق. وقد قبض الثمن من المحصول مباشرة: التحكم الكامل في لبنان، وقبول شركائه الدوليين باستثماره المحصول اللبناني جملة وتفصيلاً. الشريك الأميركي في هذه المعادلة لم يطوب الموقع اللبناني للمهيمن السوري، لكنه سمح له بالاستفادة من ريع العقار كاملاً. وما جرى دولياً في العام 2005 بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، هو بالضبط عودة أميركا إلى المطالبة بحصتها من الريع العقاري اللبناني. ليس لأنها تملك في لبنان حصة وازنة، بل لأنها كانت ولا تزال تملك في سوريا نفسها حصة حاسمة. هذا ما دفع السوريين إلى التمنع عن تسليم المحصول السوري نفسه، والمتاجرة به في السوق الدولية والإقليمية، طوراً مع ايران وأطواراً مع تركيا، واحياناً مع إسرائيل.
اليوم لا يبدو ان النظام السوري ما زال يملك هذه المحاصيل كلها. لقد تصرف في لبنان على اساس أنه مملوك بكليته لدول أخرى: اميركا، مصر، المملكة العربية السعودية. وبناء على اقراره بحقوق الملكية هذه عمد إلى ايقاف البلد وتعطيله. وفي الخلاصة التي وصلت إليها هذه السياسة التي اتبعها طوال سنوات، وصل في النهاية إلى قناعة مفادها: ليس ثمة اهتمام أميركي فائق الحدة حيال لبنان وما يجري فيه. وليس ثمة اهتمام مصري كذلك. وثمة مشترين هامشيين يبحثون عن دور في السوق الدولية، من فرنسا إلى تركيا ويرغبون في الشراء، فضلاً عن اهتمام سعودي حاسم بالموضوع اللبناني. وعليه انعقدت المفاوضات الفعلية مع المملكة العربية السعودية، وليس مع اي طرف آخر.
السياسة السورية سلكت المسالك نفسها في العراق ولبنان وفلسطين. مسلك من له في الأمن ولا يملك في السياسة. ففي نهاية المطاف لن يكون العراق خاضعاً لهيمنة سورية، ذلك ان القوى المتخاصمة فيه اقوى من سوريا أدواراً وموارد وأوزان: من ايران إلى تركيا فالمملكة العربية السعودية فضلاً عن الولايات المتحدة الاميركية نفسها. هذا من دون ان نغفل ان العراق دولة وشعباً لا يسلس قياده لأي قوة إقليمية مهما تعاظم دورها، ما ان يتعافى من امراضه، تلك المزمنة منها التي ورثها من فترة حكم صدام حسين، والأخرى المستجدة منها التي اتت مع الاحتلال الاميركي وما رافقه من فتح ابواب العراق على مصراعيها على التأثيرات الخارجية.
في فلسطين ايضاً ليس ثمة سبب يدعو أي كان للاعتقاد ان مصالحة فلسطينية ndash; فلسطينية ستلحظ دوراً راجحاً لسوريا في فلسطين. على الأرجح سيبقى لإيران تأثير ما في الساحة الفلسطينية في المدى المنظور. لكن البيض الفلسطيني، الفاسد منه والصحيح، يوضع اليوم في السلة المصرية.
في لبنان ايضاً، اثبتت تطورات الشهور الأخيرة ان البلد لم يعد يشكل عقبة فعلية في حال انفراط عقد الهدنة الدولية في الشرق الأوسط. لأن المطروح على طاولة البحث الدولية هو خيار من اثنين: إما اخضاع إيران بالقوة والضغط، وإما الوصول إلى اتفاقات معها تمهيداً لإعادة تنظيم المشهد السياسي في الشرق الأوسط. واعتماد الخيار الأول يحيل لبنان إلى نقطة تفصيلية لا يحسب حسابها، ذلك ان التحضير لهجوم عسكري على إيران، يعني ان من يحضر لهذا الهجوم لن يعتبر لبنان او حتى سوريا عقبة تحول دون تنفيذ خططه. ففي لحظة من لحظات الجنون الحربية الكبرى، كالتي يجري التحضير لها حيال إيران، يفقد لبنان كل قدراته الردعية، وكل ما يملكه من أسلحة في رد العدوان.
والحال، فإن سوريا لم تجد ما تبيعه هذه المرة في مقابل احتفاظها بالهيمنة على لبنان وموارده. والأرجح ان القمة السعودية ndash; السورية لحظت هذا الأمر جيداً: لا جدوى من التعطيل، لأنه يضر بسوريا نفسها، ولا جدوى من التدليل على بضاعة في العراق وفلسطين لمقايضتها في لبنان. والحال، فإن النظام السوري وجد نفسه نحكوماً بالقبول في افتتاح عصر من التعاون حيال الموضوع اللبناني إلى ان يتغير في المشهد العام في المنطقة ما يمكنه من تغيير قواعد اللعبة لبنانياً على الأقل.