العالم يتقدم في المختبرات. هذا ما يجب ان نلاحظه دائماً على ما ينبئنا برونو لاتور. وحين يضرب تسونامي مكاناً ما فإنما يكون قد افشل اختباراً وقتل بضعة فئران تجارب. العالم بالنسبة للسلطات العلمية هو حقل تجارب. حقلان: واحد تم استعماره وتذليل كائناته وآخر قيد المراقبة والاستعمار. لكن العالم الذي تديره السلطات العلمية يفتقد إلى دلائل وجوده. ينبغي ان نعيش في دائرة الهواء الصناعي، حتى نستوي فئران تجارب محظوظة. في ستار اكاديمي او تحت تأثير القصف الجوي في العراق. كلا المكانان يضعاننا قيد الاختبار. أولهما يريد ان يتيح مراقبة كيف يمكننا ان نستمر كفراريج المداجن، وآخر يريد ان يختبر نتائج وضعنا في موضع خراف المسالخ. الاستعارة باهظة. لكنها ليست مستغربة.
اجرى ادوارد هال اختباراً على فئران تجارب، محاولاً تحديد العلاقة بين الترتيب المكاني وطبيعة العلاقات الإجتماعية التي تنشأ عنه. تبين لهال في هذا الاختبار ان حشر الفئران في مكان ضيق قد يجعلها اشرس واكثر عدوانية. ولاحظ ان الفئران الإناث التي تحشر في مكان ضيق ومكتظ لا تعود تهتم بنظافتها مثلما تفعل الفئران الاناث التي تحوز مجالاً اوسع وارحب. وعلى النحو نفسه فإن الإعتداءات الجنسية كانت تكثر بين الفئران حين يكتظ المكان بهم لكنها تنعدم في الاحياز التي تتمتع فيها الفئران بمساحة كبيرة للتنقل والعيش.
بهذا البحث اراد هال ان يثبت ان بعض التصرفات العدوانية والمشاكسة وفي بعض الاحيان مسائل مثل المثلية الجنسية الذكرية انما تعود اسبابها إلى هذه الشروط الاجتماعية الخانقة. بهذا المعنى يمكن التحكم بحدود العدوانية والشراسة لدى شعب من الشعوب او فئة من الفئات بالنظر إلى الاحياز المكانية التي تحتلها في عيشها وتنقلها، ومدى اتساع الحيز الخاص ومدى تنظيم الأحياز العامة. وعلى هذا يصبح العنف نفسه أشبه ما يكون بنتائج امتحان علني. وهذا يشبه في كثير من الوجوه العروض التلفزيونية الغربية التي تهتم بالفضائح ونشر غسيل الأفراد الوسخ على ملأ التلفزيونات النهمة. تجمع عدداً من الناس ويعترفون جهاراً بأخطاء وخيانات. النتائج واضحة من قبل العرض. جل ما يختلف بين امرئ وآخر هو الحد الذي يستطيع بلوغه في إيذاء الآخر، جسدياً ومعنوياً. الجمهور الذي يتجمع لا يلبث ان يدين البعض من المعترفين، وينحاز إلى طرف آخر. هذه البرامج تريد الإثبات ان الشر واضح وساطع ولا يمكن نكران موجباته او التحايل عليها. حين يخون المرء شريكه فهو مدان: القانون واضح ومن دون رحمة، والحكم معد مسبقاً. لكن ذلك لا يمنع الناس من الدخول إلى الاستديو والتعرض لهذه التجربة. تجربة ان تكون شريراً مداناً. المسألة تتعلق هنا في قدرة التلفزيون على جعل الشرير مداناً من دون تبعات لإدانته. مداناً على الشاشة، لكنه ما ان يعود إلى بيته حتى يكون قد انهى معظم مشاكله، لأن ما يحدث على التفزيون لا يحدث حقاً. هذه البرامج اشبه بتنظيم صراعات الديوك، تتذابح على الشاشة لكنها ما ان تعود إلى اقنانها حتى تعاود سيرتها الأولى من دون تبعات. احسب ان اي كان يريد ان ينهي علاقته بزوجته لأنه عشق عليها لن يجد حلاً انسب من ان يستدعيها إلى برنامج مماثل ويقول لها انه يخونها منذ زمن وان العلاقة بينهما انتهت. لن يكون الأمر سهلاً لكنه من دون شك افضل من ان يقيما حفلة عراك عنيفة في منزلهما من دون رقيب. ثم ان المقدم التلفزيوني يتيح المجال للطرفين للتعبير. ليس الخائن في هذه البرامج بلا لسان. المذنب يملك منطقاً ايضاً. والمنطق هو ما يحميه ويجعله قادراً على استئناف حياته كأن البرنامج لم يكن اصلاً.
هذه البرامج تقنن حدة العنف بين المتخاصمين، لكنها من جهة أخرى تجعل القيم التي جمعت شخصين في فراش واحد بلا وزن. وتالياً تستباح هذه القيم من دون اي تبعات اجتماعية او فردية. فقط ثمة عرض تلفزيوني مطلوب: يدان فيه من يدان ويبرأ من يبرأ ثم تعود الأمور إلى سيرها السابق المعتدل والعادي والرتيب والفاتر. اننا امام نوع من انواع تقنين المشاعر وترتيبها على صعد ومراتب ثم جعل التبعات عن اعمالنا اقل وطأة. ليس بهدف التسامح مع الشرير والمذنب والمجرم، بل بهدف حسن سير النظام العام. ادعاؤه الذي لا يكل عن امساكه بأعنة تفاصيل وحركات وسكنات المجتمع برمته. لا شيء يخرج عن السيطرة. اما لو خرج فعليه ان يخرج مكاناً وزماناً من الحدود العامة التي يسور المجتمع نفسه ضمن اسوارها، او انه محكوم بان يرتضي الامتثال لسلطات لا تني تتكاثر وتتشدد وتتدخل اكثر فأكثر في كل شيء. حتى في المشاعر العابرة.