هناك من يتوقعون تطورات إيجابية هامة بعد الانتخابات القادمة، وثمة من يرون أن الدورة نفسها ستتكرر، أي استمرار نظام المحاصصة، والركض وراء المناصب وتعزيز المواقع الحزبية في أجهزة الدولة، بدلا من الانكباب على حل المشاكل الكبيرة المعلقة.
إن الوضع العراقي الراهن يتميز بفوضى سياسية عامة في عشية الانتخابات: ائتلاف انتخابي يقوم، ومقابله ثان، ثم تكتل بعد تكتيل، والجميع يتغزلون بليلى العراقية، ويتبرؤون من الطائفية والمحاصصة، ويقدمون الوعود الجميلة للشعب- كل ذلك بينما لم يتفقوا بعد على قانون الانتخابات!!
في زحمة دوامة التكتلات والتحالفات، وفوران الشعارات الانتخابية، هل يمكن تصديق أن الجميع يفكرون حقا بأمن المواطنين، ومعالجة موضوع الخدمات، ومشاكل الأرامل والأيتام؟؟ هل حقا ينوي الجميع تنفيذ التعهدات بالتخلص من المحاصصة الطائفية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب؟ هل صحيح أن الجميع سيعملون على وقف التدخل الإيراني المستفحل، وليس فقط التصدي للتدخل السوري، أو أي تدخل عربي آخر؟ هل يريدون حقا رفض تدخل سليماني ومتقي وعلي لاريجاني، أم لا يجرؤون؟؟ هل ستتم مكافحة الفساد بجد وبلا انتقائية؟؟ هل ستكون الحكومة القادمة قادرة على حل الخلافات المستعصية بين المركز وحكومة إقليم كردستان، والتوصل لحل عملي وواقعي ومرن لمسألة كركوك؟؟ هل ستتوقف المراجع الدينية عن التدخل في شؤون الدولة والسياسة؟؟ هل سيتم ضرب التنظيمات المسلحة السرية في البصرة، والممولة والمسلحة إيرانيا، جنبا لجنب مع الضرب الحازم بلا هوادة لعصابات البعث الصدامي والقاعدة؟؟ هل سوف تتخذ الإجراءات الحازمة والمخلصة لحماية الأقليات الدينية؟؟
تلكم عينة مما هو مطلوب من جميع القوى العراقية المخلصة الاتفاق للعمل في سبيل تحقيقها بنكران ذات. إنها ليست شروطا تعجيزية. إنها ليست مطالبة بالتحول بقفزة واحدة إلى نظام ديمقراطي متكامل. إنها مشاكل مر أكثر من ست سنوات ولم تحل، بل منها ما ازداد انتشارا كالفساد، ومنها ما ظل يراوح مكانه كالخدمات. وإن السعي الجاد والمثابر لحل مشاكل كهذه مطلوب من أية حكومة توفر الحد المناسب من الحريات المدنية، ولها الحرص الكافي على خدمة المواطن، وتتمتع حقا بالإيمان بالوحدة الوطنية، وقدسية التراب العراقي، وبحقوق المواطنين بلا تمييز.
ليس الحاسم هو رفع شعارات جميلة، بل المطلوب الإرادة الصادقة على التنفيذ والوفاء بالوعود.
إن ما نراه اليوم هو خليط عجيب من المفارقات والمزايدات والمراهنات. السيد المالكي فعل خيرا بعدم الانضمام للإتلاف الطائفي quot;الشيعيquot;، ولكن ها هو يعلن في تصريحات تلفزيونية من واشنطن نية تشكيل تحالف انتخابي بين الائتلافين. فعلى أي أساس؟ وهل صحيح أن مركز الخلاف هو عدد المقاعد النيابية، ومن سيتولى رئاسة الوزراء؟ وزارة التربية تجبر التلميذات والموظفات، بكل أشكال الضغط، على لبس الحجاب، ووزير التعليم العالي يتشكى من تدخل الأحزاب الحاكمة في الجامعات ولجوء طلبة ينتمون لهذا الحزب الحاكم أو ذاك إلى ابتزاز وتهديد الأساتذة لفرض نجاح مجاني أو تسليمهم أسئلة الامتحانات، وما شابه. ومنذ شهور شهدت بغداد نوعا من الانفتاح الاجتماعي بعد ظلمات قيود المليشيات والقاعدة، واليوم تجري مطالبات بمنع بيع وتناول الخمور، والشرطة بدأت فعلا بغلق محلات البيع مؤخرا، أسوة بمحافظة البصرة. فهل سترضخ الحكومة لحملات الضغط الدينية بهذا الاتجاه، فنعود عودا على بدء؟؟ والمالكي ينفي من واشنطن وجود تدخل إيراني في العملية السياسية، ناسيا أن علي لاريجاني أعلن جهارا في زيارته للعراق عن الحرص على عودة الإتلاف الطائفي، وتبعه متقي. وهذه وقائع لا حكايات كاذبة للتشهير.
وحسنا فعلت الحكومة باتفاقاتها مع تركيا، في مسائل المياه والأمن، ولكن لماذا لا يطالبون إيران بوقف عمليات تجفيف وادي الرافدين في الجنوب، وحيث تجف الأهوار وتتقلص غابات النخيل، وتتراجع مياه شط العرب؟
إن موقف المالكي من التدخل السوري ممتاز، ويجب دعمه بقوة، أما صمته عن التدخل الإيراني، فلا يخدم المصالح الوطنية العراقية. وحسنا فعل السيد المالكي بزيارته لواشنطن لتعزيز العلاقات الإستراتيجية والمنية، وبحضوره لمؤتمر المستثمرين، بعد أن كان قد أقام المهرجانات الصاخبة بمناسبة مغادرة القوات الأميركية للمدن، معتبرا ذلك عيدا وطنيا وكأنه حرر المدن من غزاة ولم تكن الخطوة تنفيذا للاتفاقية الأمنية. لقد أيدنا المالكي في موضوع صلاحيات المركز والمحافظات وإقليم كردستان، والمطلوب مركز اتحادي قوي وراسخ. لكن هذا لا يعني حصر الصلاحيات في يد رئيس الوزراء، بما في ذلك إدارة الاستخبارات العسكرية وإدارة المخابرات العامة. وحرية النقابات والاتحادات المهنية هي من المنجزات المهمة، ولكن تدخل الحكومة وأحزابها باستمرار في شؤون هذه الهيئات، حتى الرياضية منها، مخالف للديمقراطية، وهو يعني الميل لتحويلها لمجرد ذيول للحكومة والأحزاب الحاكمة، كما كان يفعل صدام.
إن من الواجب تقييم كل خطوة إيجابية، مهما كان الرأي في الحكومة، أو في شخص رئيسها، أوفي هذه الجهة العراقية أو تلك. فالموقف الموضوعي المنصف مطلوب، ولكن النقد الصريح، هو الآخر، واجب من الدرجة الأولى. نعم، يجب رفض الإشاعات الكاذبة والحكايات المفبركة للتشهير بالحكومة أو برئيسها، ولكن يجب، في نفس الوقت، انتقاد الاعوجاج والإجراءات الخاطئة، ومن ذلك أخيرا قرار المالكي بالاستيلاء على أكثر من 100 ألف دونم من الأراضي على دجلة لتوزيعها على الوزراء والمدراء العامين. هذا خبر أكيد ومؤسف للغاية. فأي مبرر لمثل إجراء كهذا؟ وهل صحيح أنه من بين الخطوات الانتخابية لكسب مزيد من الأصوات؟؟
باختصار: لا يمكن التنبؤ بحجم ما سيعقب الانتخابات القادمة من تغيير، وبأي اتجاه. وإنني أتمنى من القلب أن يكون خطوة كبيرة للأمام، وإن كنت ممن لا ينظرون بتفاؤل كبير لقادمات الأيام!