-1-
يستكثر محمد حسن عوّاد إطلاق لقب quot;علماءquot; على بعض رجال الدين. ويقارن بينهم وبين علماء الطبيعة الغربيين، ويخلص إلى أن عقول العلماء الغربيين باحثة ومتدفقة، وأن بعض علماء الدين جهلة منغلقون، يفتقدون الفهم للحقائق العلمية.
وأما بعد:
فما أقرب هذا الواقع، وهذا الجدل، وهذا النقد، وهذه المقارعات، بين القديم والجديد، وبين الحداثة والقدامة، وبين الثابت والمتحوّل، وبين الإبداع والابتداع، مما يجري الآن على الساحة العربية عامة، والساحة السعودية خاصة، تجاه كل خطوة شجاعة للتغيير والتطوير.

-2-
والهجوم على رجال الدين المتشددين دفع بعض رجال الدين إلى شكوى العوَّاد للدولة لمعاقبته. وعيَّنت الحكومة لجنة للتحقيق معه فيما ورد في كتابه، مؤلفة من الأمير (الملك الراحل) فيصل بن عبد العزيز، والشيخ محمد صالح نصيف ومهدي المصلح (مدير الأمن العام).
واكتفت الدولة بقرار quot;مدرسة الفلاحquot; طرد العوَّاد من هذه المدرسة. وربما كان سبب هذه العقوبة quot;السهلةquot; أن الملك عبد العزيز- كما يقول الناشط الليبرالي السعودي محمد آل زلفة - كان منفتحاً على الكتّاب بمن فيهم الذين كانوا في صف الهاشميين، قبل ضمِّ الحجاز وإعلان المملكة العربية السعودية عام 1932، ولاحقاً أمنوا بما يدعو إليه. ولكنه لم يُقيّد عليهم، وترك لهم أن يكتبوا ما يريدون.
وأضاف آل زلفة:
quot;إن بعض المتشددين الذين لم يعرفوا قيمة كتاب العوّاد (خواطر مُصرَّحة)، كانوا يحاولون أن يُلفتوا انتباه الملك عبد العزيز، إلى أنهم لا يعرفون مدى قوة عقيدة بعض الكُتَّاب. وكان الملك يُشجّع الكتّاب، ويدعوهم للنشر، ويحتضن الكثير منهم، حتى من خصومه الذين تحوَّلوا إلى مؤيدين لهquot;.

-3-
وتفيد بعض الروايات المتداولة في السعودية، أن هناك من أرسل إلى الملك عبد العزيز يطالب برأس محمد حسن عوَّاد، أو سجنه على الأقل، أو نفيه بسبب أفكاره، إلا أن الملك أحال الرسالة إلى نائبه في الحجاز آنذاك- الأمير(الملك) فيصل بن عبد العزيز- فكان ردُّ الأمير فيصل:
quot; أن الفكر يُقارَع بالفكر. quot;
ويا ليتنا نلتزم بهذا المبدأ الآن، ولا ننفي الرأي الآخر المخالف لنا، وندع الفكر يقارع الفكر. وتلك (المقارعة) واحدة من آليات الديمقراطية، التي أصبحت هذه الأيام شيطاناً غربياً رجيماً.
وهنا يقول محمد آل زلفة:
quot;الملك عبد العزيز كان متنوراً، وأسس التعليم المدني قبل الديني المنتشر في كل قرية، عبر القرآن وتعليم الحديث، وقال: أنا بحاجة إلى رجال يعرفون كيف يكتبون في الصحافةquot;.

-4-
وهكذا كانت المعرفة خطرة في مجتمع الحجاز في العشرينات من القرن الماضي، الذي رتب أموره على أساس الجهل المنظم. ومن ثم يصبح تداول المعلومة كمن يُشعل ألعابا نارية في مستودع مليء بالمتفجرات، كما قال الباحث السعودي سحمي الهاجري في بحثه quot;المروة والصفا شرارة التنوير الأولىquot;.
ومن الجدير بالذكر أن العوَّاد كان يكتب مقالات في جريدة quot;القبلةquot; الحجازية بعنوان quot;الصفا والمروةquot;، باسم مستعار، قبل أن ينشر كتابه quot;خواطر مُصرَّحةquot; باسمه الصريح والمكشوف.
ويقول الباحث السعودي سحمي الهاجري حول اختيار العوَّاد quot;الصفا والمروة عنواناً لمقالاته في جريدة quot;القبلةquot;، وهو أيضاً عنوان دراسة الهاجري، حول كتاب quot;خواطر مُصرَّحةquot;:
quot;إنه عنوان يتجه نحو الفضاء الأصلي للغة في تعاملها مع الطبيعة البكر، على اعتبار أن اللغة دائماً تعني أكثر مما تقول، وأنها ذلك النداء الأصيل الذي تتكلم به الأشياء من خلالنا. وهي نبض الأشياء ووجودها الحي الناطق.

-5-
والعنوان في هذا السياق، يمزج بين المعنى في إطار علاقات اللغة الداخلية، والإحالة إلى علاقاتها الخارجية، بحيث يتعدى مجرد المقلوب الشكلي لعبارة راسخة بما يوحي بالانقلاب على الثقافة السائدة، ليحيل إلى احتفاء اللغة بانطلاق الشرارة التي تتولد عادة من احتكاك عنصرين، ربما كانت مادتهما متشابهة،ولكنها ليست متماثلة. فإذا كان الصفا هو quot;الحجر الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئاًquot;، فإن المروة هي quot;الحجر الأبيض الهش الذي يكون فيه النار باصطدامه بجسم أصلب منه.quot;
ويضيف الهاجري:
quot;أن الأفكار التي جاءت في كتاب ]خواطر مُصرَّحة[ معروفة ومتداولة في مجتمع الحجاز في العشرينات من القرن الماضي، ولكن الانتقال بها مما يشبه الدعوة السرية إلى الفضاء العلني هو مكمن التأثير. ويكشف الوهج الذي أحدثه الكتاب العديد من الفضاءات. فالصورة الذهنية للحجر الصلد الضخم تحيل إلى معانٍ مثل الصرح والقوة، حيث تكون الصراحة في حضرتهما في أعلى مراتبها، أي درجة: قول الحق .quot;

-6-
ويقول الكاتب السعودي الراحل عبد الوهاب آشي في مقدمة كتاب quot;خواطر مُصرَّحةquot;:
quot;إذا كان للشباب الحجازي المتأدب اليوم ميزة أو سيماء خاصة به، فليس إلا الروح الحية فيه، وباندفاعه بقوة، في طلب الرقي، وبثوران نفسه ونشوزه على كل قديم، يُوقف تياره، ويقف حائلاً دون مرامه. وما مرامه إلا توخي الكمال في جميع مظاهره، والحرية التي تفسح لفكره مجال الرأي، ولنفسه ميدان العمل، فيرى الأشياء كما يجب أن تُرى. ثم ينطق، ويعمل حسب ما رأى.quot;

-7-
ويدلل الباحث الهاجري على حداثة وليبرالية أفكار العوَّاد، في تلك الحقبة الزمنية بقوله:
quot; لقد حدث الارتطام بين الأفكار البيضاء للشاب الغض محمد حسن عوَّاد، والخطاب الاجتماعي الذي كان قد جُمِّد، وتجلمد، وخمدت شعلته. ومع أنه خطاب راسخ، ويتمسح بمرجعيات عريقة، إلا أنه لم يقُد المجتمع إلى النهوض والتقدم، ومواكبة مسيرة الحضارة الإنسانية، إذ انه قد توقف عن القدرة على ذلك منذ زمن بعيد. وهكذا إذن أصبحت quot;واقعة الاصطدامquot;، حادثة ذات دلالة رمزية، اكتسبت المزيد من البريق، بمقدار رد الفعل الذي أثارته، فولدت تلك الشرارة، التي كان لها ما بعدها.quot;
والشرارة التي يعنيها الهاجري هنا، هي الليبرالية والحداثة، بمفهوم النخبة الحجازية، في العشرينات من القرن الماضي.
السلام عليكم.