كثيرا ما يطرح المفكرون السياسيون والمشتغلون بالحقول الاجتماعية ذات الصلة بالسياسة والعمل السياسي، كثيرا ما يطرحون قضية العلاقة بين السياسي والمثقف، وقد أخذت هذه القضية مكانة مهمة من ساحة السجال الفكري، خاصة في العالم الثالث، فمن الملاحظ حقا أن هناك علاقة سلبية بين المثقف والسلطة، لأسباب كثيرة، لعل منها أن المثقف صاحب رأي قد لا يرضي السياسي، والسياسي يمثل السلطة الحاكمة بإذنها وليس بإذن الشعب، مما يعقد هذه العلاقة، أو يعدمها في كثير من الأحيان. وهناك أكثر من أطروحة لحل هذه الإشكالية التي ما زالت ساخنة. ولكن حصيلة ما طرحه المفكرون الجادون هنا، هو ضرورة تجسير العلاقة بين الحاكم أو السياسي من جهة والمثقف أو المفكر من جهة أخرى، أما، كيف، وما هي سعة وعمق هذا التجسير، وما هي مستحقاته، وما هي نتائجه إذا كان هناك خلاف بين السياسي والمثقف، فقد تركت هذه التساؤلات لكثير من الاجتهادات ووجهات النظر المتباينة. إلى جانب هذه الإشكالية التي انتهت بحصيلة مجملة بضرورة تجسير العلاقة بين المثقف والسياسي، طرحت في الأيام الأخيرة فكرة جادة، لا تتناقض مع سابقتها، بل تكملها، وإن كان البعض يرى فيها ثمة تعارض، ولو جزئيا.
إنها تجيسر العلاقة بين الشعب والحاكم، بين السياسي والجماهير، وربما يرى بعضهم أن لا جديد في أصل الفكرة، خاصة وأن السياسيين يسعون إلى كسب رضا العامة كما يقولون، رضا الناس، يخاطبهم بلغتهم، ويبشر بحلول لهمومهم، ويطرح ما يثير غرائزهم، فأي شيء جديد في هذا يا ترى؟
لا يقصد هؤلاء المنظرون للفكرة الجديدة تلك العلاقة المتأتية من طرف واحد، أي من جانب السياسي، حيث يتواصل مع الجماهير لأسباب دعائية أو إجرائية عادية، بل الفكرة أعمق من هذا كله، وباختصار هي علاقة تأسيس، فهذه الجماهير، على بساطتها، وعلى عفويتها قادرة على تقديم الفكر الناضج على صعيد الإصلاح، إصلاح الاقتصاد، وإصلاح التربية، وإصلاح التعليم، وإصلاح الحياة الاجتماعية، بل لاحظ بعض المهتمين بذلك، إن مقدار الوعي في الأفكار التي يقدمها الجمهور في كثير من الأحيان أنضج من الأفكار التي تقدمها النخبة المثقفة، بل أهل الاختصاص،ومن هنا لا نعجب أن يكون من أهم الكتب التي لاقت رواجا تلك الكتب التي تتحدث عن فشل تجربة النخبة.
بناء على ما سبق يدعو الكثير من المفكرين إلى تجيسر العلاقة بين الجمهور والسياسي، بين أهل المحلة وبين عضو البرلمان، بين الناس وبين الحاكم، علاقة تقوم على أهداف بنائية، وليس علاقة مجاملة، أو علاقة سمر، بل علاقة تخطيط، علاقة طرح مشترك، أي يدخل العنصر الجماهيري في بنية التخطيط السياسي والاقتصادي والتربوي...
يرى هؤلاء بشيء من المبالغة أن الجمهور أذكى من النخبة في تشخيص الحاجات، بل أذكى حتى في طرح المعالجات، ويغالون أكثر حينما يطالبون باستبدال النخبة بالجمهور، فإن نظرية النخبة قد أخفقت أيما إخفاق في تحقيق مشاريع ناجحة، تعم بخيرها الناس، وتساهم في إنقاذ البلاد والعباد من كثير من الأزمات.
لقد طرحت فكرة تجسير العلاقة بين السياسي وابن الشارع، ابن الشارع بصفته جمهورا، بصفته سيل كبير من الناس، وكان أقصى ما توصل إليه الفكر السياسي في هذا المجال، هو أن تكون العلاقة من طرف الجمهور تتمثل بالسؤال والطلب، ومن جهة السياسي بالاستماع والدراسة، أما اليوم، فأن العلاقة أخذت بعدا أخر، بعد إستراتيجياً ضخما، يعتمد على المشاركة الجماهيرية مشاركةَ عقلٍ، مشاركة طرح، مشاركة تصميم، مشاركة تجهِّز بالفكر، والمقترح، والنموذج، والتصور...
يستند أصحاب هذه الفكرة إلى إحساس الناس فطريا بحاجاتهم، ولأنهم على علاقة ماسة بما يحتاجون، يحسون بكل ذلك من صميم الواقع، ثم، أن هؤلاء على علاقة بالمجتمع، يعرفون أين تكمن نقاط القوة، وأين تكمن نقاط الضعف، قادرون على تشخيص ما ينجح وعلى تشخيص ما يفشل، ومن هنا، يقدمون تجربة رائدة في البناء والصيرورة والإنشاء. وبذلك قد تظهر أحدى نقاط الخلاف أو التمايز بين مشاركة النخبة ومشاركة الجمهور، فالنخبة قد تحس من خلال معاناتها أكثر مما تحس من خلال معانات ( العامة )، قد تحس من خلال نماذج مثالية تملا صفحات الذهن النظري، تملأ المخيال الفني، تملأ ساحة الشعور الجمالي، فيما هناك حاجات تلامس الطبقة السفلى من إحساس الناس، همومهم، مشاكلهم، حاجاتهم، ولذلك قد تأتي صرخاتهم أنضج من طروحات الكبار من النخبويين، ومن المفكرين والمخططين.
في تصوري أن هناك مبالغة في تصميم المعادلة بين النخبة والجمهور من جهة والسياسي من جهة أخرى، لأنها تقوم على مبدأ نفي الآخر، فيما التصور الصحيح ينطلق من حاجة السياسي إلى كلا القطا عين، وما المانع من الجمع بينهما... ولكن لأن العلاقة البنائية بين السياسي والناس أو الجماهير غير سائدة، ولم تخطر كمنهاج فكري وسياسي، أركز عليها، واخصها بالذكر، وإلا من الصعب الاستغناء عن النخبة في هذا المجال.
في العراق، حيث يعاني الناس من ا لحرمان، ويتعطشون إلى إشباع أبسط حقوقهم، أرى أننا في حاجة إلى قيادات تأخذ بنظر الاعتبار المنظور الشعبي في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والتربوي والإعماري، أي يجب أن نطرح فكرة تجسير العلاقة بين ا لسياسي العراقي والجماهير العراقية، بنية إشراكها في صناعة القرار، ليس عن طريق البرلمان، بل عن طريق التماس المباشر مع هذه الجماهير، عن طريق التواصل المستمر، عن طريق اللقاءات المفتوحة، عن طريق اللقاءات الواسعة، في الأسواق والنوادي والشوارع والجوامع والكنائس والدوائر...

أننا حقا في حاجة إلى قيادات تؤمن بقدرات الناس العاديين على وضع الخطط، و الحلول، وقبل ذلك على وضع الحاجات الحقيقية على طاولة السياسي، سواء كان حاكما، أو سواء كان عضو برلمان،أو سواء كان عضو مجلس بلدي، أو سواء كان حزبيا كبيرا...
أن حكايات الشعب وتطلعاته ونكاته وتعليقاته وغمزه ولمزه وتساؤلاته وتوقعاته ربما لها من المصداقية الكثير والعميق،وربما احيانا تعبر عن (حكمة) و(حل) و(واقع)، رغم ما تتصف به أحيانا من عفوية وتلقائية وسيولة كلامية وربما حتى فحش بذيء، خاصة وإنها قد تأتي من تجربة ومعايشة وحاجة، وبالتالي، هي مَعين وقوة ومصدر معرفي عميق.
حقا، إننا نتطلع إلى نخبة سياسية تستند إلى تثمين وتقدير واحترام حكمة الناس، حكمة الناس العاديين، الفلاح في حقله، والعامل في مصنعه، والمعلم في مدرسته، والكاسب في متجره، والطالب في صفه..
نتطلع إلى قيادات تؤمن بتجسير العلاقة بينها وبين الناس بنائيا.