الببغاء ذلك الطائر الجميل الملون، والقادر على تقليد ما يسمع من أصوات وترديدها.. نظلمه ونظلم أنفسنا، إذ نستخدمه لوصف ما لا يوجد بالحقيقة إلا لدى البشر.. الببغاء فيما يصدر من أصوات، لا يتوجه إلينا بخطاب، يحمل رسالة ما يبغي إيصالها لنا، ويفترض أن تحمل الرسالة مضموناً يسعى الببغاء لتحقيقه على أرض الواقع.. كما لا يستهدف الببغاء بالتأكيد تحصيل مكاسب إنسانية -أو ببغائية- جراء تطبيق فحوى الرسالة المفترضة.. الببغاء يصدر أصواتاً لا إشارية، هي غاية في ذاتها، وليست بأي حال رسالة إلى آخرين.. هو يسلي نفسه، وربما يسلي من يستمع إليه، بترديد ما يصل إلى أذنيه من أصوات.. وإذا كان هناك ثمة خطأ، فلابد وأن يكون خطأ من يتعامل مع ما يصدره من أصوات، وكأنه رسالة ذات مضمون، وتستحق التأمل والتفحص والنقد.. وقد يحاكيه بالفعل بعض البشر، فيصدر أصواتاً، وقد يسكب حروفاً على صفحات حقيقية أو افتراضية.. لكن هذا لا يعني أن السامع أو القارئ، يتوجب عليه أن يتعامل مع تلك الأصوات أو الحروف على أنها كلمات تشكل جملاً، ومن يفعل ذلك يكون الذنب ذنبه، وليس ذنب المفكر الكبير، الذي ربما لم يجد ما يقوله، فقرر أن يصدر بعض الأصوات، أو يهرق بعض الحروف، من قبيل التسلية ومقاومة الملل لا أكثر ولا أقل!!
داهمتني تلك التأملات حول الظاهرة الببغائية، بعد أن تورطت لبعض الوقت، في محاولة استخراج معنى أو هدف من حروف مرصوصة، ظننتها كلمات تشكل جملاً، لابد وأن يكون لها مغزى، وأن مغزاها إذا ما أخذنا به في حياتنا المتنيلة بستين نيلة، لابد وأن تتحسن ولو قليلاً.. لم ينقذني من ورطتي، إلا انتباهي أخيراً إلى أن صاحبنا الليبرالي الكبير لا يمكن بأي حال أن يكون بحروفه المهدرة هذه، يبغي بالفعل إيصال رسالة لشعوب الشرق الكبير المضروبة بالتخلف، فهو كبير دعاة الاستنارة والتحرر، وليس من المنطقي أن يقصد توجيه رسالة جدية لنا، تجعل من تخلفنا قدراً لا مهرب لنا منه، بل ويحكم علينا في الألفية الثالثة، بحياة إنسانية وسياسية، وفق رؤيته الخاصة المتعسفة لمجتمع بدوي صغير، تواجد يوماً منذ أربعة عشر قرناً مضت!!
الفكرة المركزية لمقال صاحبنا يلخصها عنوانه: quot;فصلُ الدين عن الدولة.. هُراء تردده الببغاواتquot;.. هو يقدم طرحه إذن، مصحوباً بسخرية واستهزاء بمن يقولون العكس، وهذا استهلال طريف من الليبرالي الكبير.. ولو افترضنا جدلاً بأن صاحبنا الأكاديمي والمفكر الكبير، لم يكن وهو ينقر حروفه تلك على الكيبورد، كمن يغني في الحمام ليسلي نفسه، ولا يحق لنا عندها محاسبته على اختياره للأغنية التي يرددها ومعانيها وما شابه، لأنه من حقه تحت تأثير الماء والصابون أن يدندن ما شاء له الهوى، وعلى المتضرر أن يسد أذنيه، أو يقطع المياه من المحبس العمومي، فتجف رغاوي الصابون، ويجف معها الغناء أو الهراء.. لو لم نأخذ الأمر على هذا النحو، وكان (لا محيص) أن نأخذ ما سطره على محمل الجد، فسوف نكتفي مؤقتاً بلفت انتباه سيادته، إلى بعض مما يعرفه هو يقيناً حق المعرفة.
عندما نتحدث عن العلاقة بين الدين والدولة، فإننا نعني بالتأكيد الدولة الوطنية الحديثة، والتي لم يتبلور مفهومها إلا في القرن التاسع عشر، وبعد الثورة الفرنسية.. هي أمر مختلف تماماً عن دولة العصور الوسطي، كما تختلف بالتأكيد عن دولة المدينة، التي ظهرت في أثينا، رغم أنه هناك تجسدت الملامح الأولى لمفهوم الديموقراطية.. فديموقراطية أثينا كما عرفها التاريخ، لا تمت أيضاً لديموقراطيتنا الحالية إلا في النذر اليسير من الملامح، فلقد اقتصر مفهومها وتطبيقها على نسبة ضئيلة من المجتمع الأثيني، واعتبر الباقون سابلة أو نفايات لا حق لها في تقرير مصيرهم أو مصير موطنهم.
قد يفيدنا كخلفية معرفية أن ندرس كيف كانت الأقوام عبر التاريخ تدير شئونها، وأن نتدارس أشكال الحكم عبر اختلاف الزمان والمكان والأحوال، ليس لنتخذ منها مرجعية نقيس عليها، وإنما لندرك من خلالها مراحل التطور البشري.. بالتأكيد كانت في دول آشور وبابل ومنف وطيبة وأثينا وأسبرطة ويثرب ومكة وغيرها، أنظمة حكم كانت هي المثلى وقتها، وفق ظروفها الواقعية، وطبيعة العلاقات التي تفرضها تلك الظروف داخلياً وخارجياً.. ولو لم تكن تلك النظم هي الأمثل وقتها، لما حققت تلك المدن انجازات وشادت حضارات، وبقيت ما بقيت الظروف التي أنشأتها، حتى ورثتها نظم أخرى، كانت بدورها المثلى، في عالم ليس ثمة ثابت فيه غير قانون التغير.
الغريب أن مقال صاحبنا المشار إليه، والذي يبدأ في عنوانه بهجوم مستفز على طواحين هواء يصارعها، يتضمن في متنه منطقاً يهدم ما يوهمنا بأنه يذهب للتدليل عليه، فنجده يقول:
quot;وكان مجتمع quot;دولة النبيquot; متعدد الإثنيات، واللغـات، والديانات. ووضع الرسول لهذه الدولة دستوراً، يشتمل على سبعٍ وأربعين مادة تنظيمية لشؤون الحرب، والسلم، والمال، والحدود الجغرافيـة، والعلاقات الداخلية والخارجية. وهذا دليل على الأخذ بالنظم والقوانين الموضوعة، وما يُعرف اليوم بالدساتير. فكان الرسول عليه السلام أول من أنشأ quot;الدولةquot;، ووضع لهذه الدولة دستوراً مكتوباً، ولم يكتفِ بالقول، بأن القرآن الكريم، هو دستور الأمةquot;
مرجعية الحكم إذن يا صديقنا الليبرالي حسب قراءتك أنت للتاريخ، هي ظروف الواقع، وليست النصوص المقدسة، كما تحاول أن تقنعنا مقاربتك!!
وربما كان قد استفاق صاحبنا جزئياً وهو يدندن، إذ يتساءل:
quot;ولكن، هل تصلح لنا هذه الدولة الآن؟ الجواب نعم، ولكن في بعض أجزائها، وليس في مجملها.quot;
لكنه ترك السؤال معلقاً بإجابة منقوصة، فلم يحدد لنا حجم هذه الأجزاء الصالحة لنا الآن، ولو بنسبتها إلى الحجم الإجمالي لما نحتاجه لتأسيس دولة حديثة.. ونحن نقول له إن حجم ما يناسبنا من نظم الماضي، يتطابق مع حجم التشابه بين حجم دولنا وطبيعة نشاطات سكانها وتشابك علاقاتها، وبين حجم تجمعات بدوية غاية في الصغر، تعيش حياة بدائية بسيطة تقوم على الفطرة.. هو بمقدار التشابه بين الناقة والسيف، وبين الطائرات الأسرع من الصوت وصواريخ كروز.. بين الثريد والماء القراح، وبين وجبات الكنتاكي والكوكاكولا والسفن أب.. بين رسائل الحمام الزاجل، وبين الموبايل واللاب توب والقنوات التليفزيونية الفضائية.. بين حياة البدوي البسيط في جزيرة العرب، وبين ما ينعم به المفكر الليبرالي في أرض الكفر والطاغوت.. فهل يرى سيادته أن هذا القدر من التشابه المادي والواقعي، يمكن أن يكون مثار خلاف بين أحد كائناً من كان، أو أنه مما يستدعي الجدل الساخن أو البارد؟!!
يبدو أن صاحبنا في إفاقته الجزئية قد أدرك أنه يصدر أصواتاً نشازاً، وبدلاً من أن يتراجع، أراد أن يضمنها خط رجعة، لم يزد عن أن يكون شرخاً فيما تصوره من بناء منطقي، فنجده يقول:
quot;أما رجال الدين فهم نصوص ورجال، والدولة كذلك رجال ونصوص. وهنا يجب أن نصرَّ على الفصل التام بينهما. وسيبقى الدين بقيمه الإنسانية العامة في الدولةquot;
عجيب أمرك يا صديقي، فمَن مِن غلاة الليبراليين والعلمانيين قال بغير هذا، وهل ثمة خلاف بيننا على ديمومة القيم الإنسانية العامة، التي هي العمود الفقري للدين؟.. وإن كان هذا هو رأيك الفعلي، فلماذا كتبت ما سطرته قبل هذه العبارة وبعدها، ومن تتهم بالببغائية إذن؟!!
وعندما ينتهي مقال صاحبنا بعبارة:
quot;والدولة العربية ستظل قريبة من الدين وقيمه الإنسانية أكثر من قرب الدولة الغربية من الدين المسيحي، وذلك لثراء الدين الإسلامي بالتشريع للحياة اليومية، وبالواقعية الإنسانية في كثير من جوانبه.quot;
فإنه هكذا بنقرات معدودة على الكيبورد، يضع صاحبي نفسه في صف من نسميهم دعاة التأسلم السياسي، أو المتأسلمين.. وليس لنا أن نستغرب أن يأتي التعليق الأول على مقاله، من قارئ يسمي نفسه quot;حدوقةquot; يقول: هل بدل جلده؟!!
الأرجح يا عزيزي quot;حدوقةquot; أن صاحبنا لم يبدل جلده كما تتصور، فقد عودنا أن يعكس جلده درجات متعددة من ألوان الطيف، وربما هذا أحد معالم ليبرالية طريفة وظريفة!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]