يعتبر الحج أكبر تظاهرة إنسانية لتعميق مفاهيم السلام بالشحن الدوري للجنس البشري، فليس من مدينة في الأرض في كل فج عميق إلا وجاء منها حاج.. ولكن حتى نبني الثقافة السلمية لا بد من بناء القاعدة العلمية، فالثقافة السلمية هي دخول إيجابي ومشاركة فعالة في أحداث العالم، وليست استسلاماً أو انسحاباً من المواجهات المصيرية، لذا يجب أن نفهم العلاقة الجدلية بين العلم والسلم في منظومة رباعية من الأفكار:
أن العلم قاد إلى السلم..
وأن العالم يعيش فراقاً وانفصاماً بين العلم والقيم..
وأن العالم بدأ يتعلم اللغة الجديدة مرغماً وبمعاناة..
وأن العالم الإسلامي لم يدرك طبيعة هذا التحول الجديدquot;.
فأما السلم فقد وصل إليه العالم من خلال التطور العلمي والإستراتيجية النووية العالمية، وتوازن الرعب المتبادل.
وأما شيزوفرينيا (فصام) العلم والقيم، فهي تباين العقلية القديمة والتقنية الجديدة؛ فما زالت عقليات السياسيين زائغة بين صفحات كتاب (مكيافيللي) الذي كتب في القرن الخامس عشر الميلادي، ونظرات العسكريين المشوشة من أثر نظرية الحرب التي دشنها الضابط البروسي (كالاوسفيتز Clauswitz) في القرن التاسع عشر، التي تفيد أن الحرب هي استمرار السياسة بوسائل أخرى.
وأما اللغة الجديدة فقد بدأ العالم بالنطق بها بأكثر من شكل بعد أن أدرك أنه الخيار الوحيد أمامه، ولكن على الرغم من إدراك الشريحة العقلية العليا في العالم لهذا التحول النوعي الجديد، وبدء السير في هذا المنحى، فأن الساحة الفكرية عندنا ما زالت تعيش عقلية الأسطورة والخوارق، وتتغذى من فكر وجو الفتوحات التي تعبق بعطر شعر الخوارج وأدبياتهم:
كما قال قطري بن الفجاءة يوماً
أقول لها وقد طارت شعاعاً
من الأعداء ويحك لن تراع
فإنك لو سألت بقاء يوم
على الأجل الذي لك لم تطاع
فصبراً في مجال الموت صبراً
فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء عز
فيطوى عن أخ الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي
وداعيه لأهل الأرض داع
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم
وتسلمه المنون إلى انقطاع

وحتى يمكن أن نقترب بشكل أفضل من فهم آلية الثقافة (السلمية) والثقافة (العنفية)، علينا أخذ عينتين للدراسة، الأولى من مستوى الأطفال والأخرى من مستوى الجماعات.
فأما الأول فقد روى لي أحد معارفي وهو متضايق أن ابنه الصغير يتعرض للضرب دوما من ابن الجيران! فبماذا ينصح ابنه بالتصرف؟
وأما الثاني فهو الضرب من أولاد الجيران بصورة مختلفة، فلقد أرسل لي صديقي (حسن) والقاطن في ألمانيا بعد أن أطلع على بحثي quot;الحوار أم الصدامquot; فكتب يقول: quot;وهناك بعض التساؤلات ولا سيما في ظل الأحداث وما يجري من قمع وظلم ورفض لأي حوار؛ فأين السلام والقناعة بالوسائل السلمية، لحل المشاكل بين الشعوب والأمم، وكأن قناعة العالم الأول والثاني بالسلام والحوار محصورة على المشاكل في عالمهم، أما في العالم الثالث وبالذات إذا كان طرف النزاع منتسباً للإسلام فإن حل المشاكل هو القوة والعنف فقط، بدون إعطاء أي فرصة للحلول السلميةquot; ويختم الأخ المذكور رسالته بهذه العبارة: quot;إننا جميعاً مقتنعون بأن الحوار ونبذ العنف هما الطريق الأمثل، ولكن هذه القناعة تصطدم كل مرة بالواقع الذي نشاهده وتشاهدونه في كل مكان؛ غروزني وسراييفو وسيبرينيشكا !!quot;...
في الواقع لا يوجد فرق كبير بين ضرب الطفل الصغير لصديقي الشاكي، وضرب الشيشان على يد أولا الجيران الروس؛ فالأول يشكو من ضرب أولاد الجيران، والثاني يشكو من ضرب الدول المجاورة له، فإذا استطعنا توحيد الصورة والآلية النفسية التي يجب أن يربى عليها الطفل أمكن حل مشكلة النزاعات الكبرى بين الدول والجماعات الإنسانية.
وفي الواقع فإن صراعات الأطفال ومعارك الحارات بينهم لا تختلف كثيراً عن نزاعات الزعامات السياسية ومعارك الدبابات والأسلحة النازية، فلو راقبنا عن كثب كيف تحصل (مهاوشات) الأولاد في الشوارع لأمكن فهم نزاعات الكبار ومهاتراتهم ومؤامراتهم في المؤتمرات الدولية، واللقاءات السياسية العاصفة؛ فالأطفال يبدؤون بالانفعال ورفع الصوت وتوجيه الكلمات الجارحة والنابية؛ فإلى الاشتباك بالأيدي، ثم الابتعاد، ليبدأ قذف الحجارة، أو العودة للاشتباك مرة أخرى.
والفارق البسيط والكبير بين الصغار والكبار هو كثافة الأسلحة وتقنيتها المتقدمة..
ودراسة وتحليل نفسية الأطفال، هي حجر الأساس الذي نفهم من خلاله ثقافة (السلام) أو بالعكس ثقافة (العنف)...
وإذا استطعنا بالتالي أن نبني ثقافة السلام عند أطفالنا، أمكن أن نبني ثقافة السلام في مستوى المجتمع، والعلاقة السلامية بين الجماعات الإنسانية المختلفة.
إن حالة الحرب لا تطاق كما كان الإلحاد حالة لا تطاق..
وتتحدث العضوية بألف لسان من التوتر، في حالة العنف، الذي هو طيف يبدأ بالمشاعر ليصل إلى التصفية الجسدية..
والآن كيف يتشرب الأطفال أفكار العنف أو السلام، لتتحول عندهم إلى سلوك مشروع ومعقلن ومبرر بعد ذلك؟
إنه تقليد الآباء وحمل أفكارهم جيلاً بعد جيل؛ فنحن الذين في الواقع نزرع الثقافة العدوانية أو الثقافة السلامية عند الأطفال.
والأطفال يتشربون الأفكار بآلية المحاكاة، لافتقارهم ملكة التمحيص والنقد في سنوات عمرهم الأولى في الطفولة.
وهكذا تتأسس العادات العقلية والسلوكيات اليومية، والأطفال يلجئون إلى آبائهم وأمهاتهم لسؤالهم عن التصرف الرشيد في مثل هذه الظروف، وعندما كنت أوجه السؤال المعاكس للآباء وهو: إذا جاءك طفلك وهو يشكو من ضرب ابن الجيران له فبماذا تنصحه؟ أو كيف توجهه لمقابلة هذه المشكلة؟ أو هل سألته أو حاورته كيف تحدث مثل هذه الظروف من تبادل العنف؟ كان الجواب يأتي في معظم الأحيان سريعاً وبدون تردد: من ضربك أضربه و لا أريدك أن تأتي إلي شاكياً باكياً، بل اضرب بأشد كي تردعه عن العدوان للمستقبل!
ولكننا ننسى في سرعة جوابنا هذا أن هذه ثقافة معممة، بمعنى أن كل طفل وكل أب وأم عندهم الشعور أن طفلهم فقط هو المسكن والمعتدى عليه، وأنه البريء والمظلوم، وأن ابن الجار هو الشيطان والشقي والمعتدي والظالم!!
ولكن تباين الأدوار يجعلنا نفهم الموضوع بشكل أفضل، حين نتصور أن الجار هو أنا، وأن أنا هو الجار، عند ذلك سيختلف شعورنا تجاه المسألة.
إن تكريس الثقافة العدوانية هو من صنع أيدينا وإفراز ثقافتنا، ومن خلال أفكار بسيطة للغاية، مبررة تماماً تحت دعوى (حق الدفاع المشروع عن النفس)؟!
والذي يحدث في العادة والواقع أن طفلنا البريء والرائع، حينما يكون مفتول العضلات، يعرف توجيه اللكمات، نفرح ببطولته، وبتفوقه على أقرانه، وشدة بأسه، ويدخل عالم الأبطال مبكراً، يرفرف فوق جمجمته بيرق؟!
ولكنه إذا هزم في المعارك، ودحر في المناوشات، وجرح في معارك البطولة، تألمنا أشد الألم وشعرنا بأنه مظلوم مسكين، وعلى القوى العظمى (الآباء) التدخل حينئذ لحماية هذا البريء؟!
وننسى أننا نحن السبب في إشعال معارك الصغار الأبرياء؛ فالطفل هو لوحة بريئة، تنقشها يدانا الأثيمتان، بكل ثمار العنف وإفرازاتها الضارة...
و(حق الدفاع عن النفس) المشروع، هو في الواقع الوجه الأول للعملة نفسها، التي يقول وجهها الثاني أيضاً حق الدفاع عن النفس المشروع، ولكن حق الدفاع المشروع والمتبادل، متصل بخيط وهمي، حيث ينقلب الدفاع إلى هجوم مبرر، الذي يستقبله الآخر بالدفاع المشروع، فانقلاب الدفاع إلى هجوم.
وانقلاب الهجوم إلى دفاع وبالعكس هو خيط واه أضعف من خيط العنكبوت، ولا غرابة فالهجوم هو خير وسيلة للدفاع ولم لا؟ طالما كنا نتوقع هجوماً مضاداً من الطرف الآخر، من خلال جو العدوانية والتنافس الشرس غير الأخلاقي.
وتشكيل جو من هذا النوع هو الذي يخلق النزاعات، وتصبح قضية من يبدأ أولاً، هي تحصيل حاصل، ومسألة وقت لا أكثر.
وهو ما حصل تماما بين العراق وإيران في السنوات الثماني العجاف التي التهمت مليون شاب و400 مليار دولار.
ولولا ذكرى الحرب الأهلية الطازجة في ذكرى اللبنانيين لالتهم حزب الله لبنان، مثل فطيرة محشوة بالزبيب..
ومن هنا نفهم المعنى الانقلابي الهائل في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن القاتل والمقتول كلاهما في النار؛ فهذا قانون اجتماعي صارم في النزاعات الإنسانية، والصحابة رضوان الله عليهم لم يدركوا المعنى الخفي العميق خلف دلالة هذه الكلمات، فأن يكون القاتل مصيره النار أمر مفهوم ولكن أن يكون نفس المصير (المسكين) المظلوم المقتول فهو صعب التصديق؟!
فيسأل أحدهم (هذا القاتل فما بال المقتول؟) إنني أستطيع فهم أن القاتل في النار لأنه ارتكب جريمة، ولكن الضحية أي المجني عليه وليس الجاني. أي الذي وقع عليه العدوان!! كيف يمكن أن يدخل النار مع القاتل يداً بيد؟! إن هناك فرقا كبيراً بين المجرم والضحية..بين القاتل والمقتول..بين المعتدي والمعتدى عليه..؟!
هكذا خيل للصحابي رضي الله عنه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يسوي تماماً بين الطرفين، وبسبب بسيط quot;إنه كان حريصاً على مقتل صاحبهquot; فهذا فهم رائع مدهش لجوهر النزاعات البشرية وآلياتها النفسية العميقة.
ذلك أن حصيلة ما بالنفوس بين طرفي النزاع واحدة، وإلا كيف تشتعل الحروب الأهلية، بل الحروب قاطبة إن لم تكن بنفس الآلية (الحرص المتبادل على إلغاء كل طرف الآخر وتصفيته من الوجود وعدم السماح له بالظهور والتعبير عن نفسه مطلقا)، ويبقى بعد ذلك القتل وسفك الدماء تحصيل حاصل.
إن المقتول في الواقع هو قاتل، وأن القاتل هو مقتول، وتغيير الأدوار متعلق بوقت التنفيذ فقط، فأسرعهما هو القاتل، وأبطأهما هو المقتول، ولكن ماراتون السباق الدموي هو واحد، والخوض في هذا الوحل لكلا الطرفين مشترك، والنار في النهاية هي مرتع لهذه النفوس التي لم تتطهر بعد، فقاعدة الانطلاق النفسي في هذا الصراع واحدة بحرص كل طرف على إلغاء الآخر وتصفيته جسدياً، وليس العكس، بتوفيره، فضلاً عن الحرص عليه، بل حمايته، بل إيجاده إن كان ملغياً.
إن هذه الآلية هي أشبه بانشوطة حبل المشنقة، ولكنه ملفوف على عنقين، فإذا أحب أحد الطرفين شد المزيد؛ فإن عليه أن ينتظر المزيد من إطباق الحبل على عنقه؛ فإذا مضى إلى النهاية، وصل إلى ما يريد أي إنهاء صاحبه، ولكنه سوف يصل إلى إنهاء نفسه، في الوقت الذي يسلم الروح الآخر، ليجتمعا معاً في جهنم.
إن هذه الآلية التي كشفها الحديث خفية علينا للغاية، فآلية الإعدام متبادلة، وآلية الاعتراف بالآخر كذلك، فهذه كما نرى ثقافة جديدة يجب أن نبدأ في صنعها يوماً بيوم وفكرة بفكرة وحدثاً بحدث، وهي أمر تربوي يحتاج إلى برنامج متكامل مثل أي برنامج (عنفي) فإذا كان للعنف أسلحته فالثقافة السلمية لها أيضاً أدواتها الخاصة بها التي تدشن بها الوجود الإنسان الجديد.
وإذا كانت المعاناة والعذاب للمجتمعات التي تدخل الصراع مصيراً فإن العكس أيضاً صحيح، فإذا كان كل طرف حريص على (قتل صاحبه) يودي بالطرفين إلى الهلاك، فإن الحرص على (الحفاظ على صاحبه) يفضي بالطرفين إلى الجنة الاجتماعية الدنيوية والأخروية على حد سواء، مقابل النار التي التهمت طرفي النزاع.
فالتربية (السلمية) تنطلق من روح الإسلام التي تريد المحافظة على الإنسان وليس قتله وتدميره، فهي عملية تربوية عملاقة تقوم ليس على إلغاء الطرف المقابل بل الاجتماع به، ليس قتله بل الحفاظ عليه. ومن الضروري في هذا التركيب النفسي طرد المشاعر السلبية من الحساسية والخوف والكراهية والحقد، لأن العنف هو ثمرة طبيعية لشجرة الأفكار العدوانية.
إن الحقد والكراهية وكل المشاعر السلبية هي عملية ارتداد على الذات ونفي الآخر في حين أن الحب هو مشاركة مع الآخر، ومن المعلوم في الطبيعة أن المشاركة هي قاعدة النمو والتكاثر، وأن الانفصام والانفصال والارتداد على الذات قاعدة لتدمير الذات بالذات، فالعواطف تستجلب وتحرض تكوين مثيلاتها، فالحقد يولد الحقد، والكراهية تستحضر الكراهية، والدمار ينتج مثيله، والحب يحرض الحب quot;فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميمquot;.
إن الصراع حالة مرضية وليست طبيعية سواء للغالب أو المغلوب، فالغالب تستولي عليه مشاعر الجريمة، والمغلوب مشاعر الانتقام، فالمجرم ينطلق للبحث عن أمنه إلى المزيد من التسلح، والمغلوب إلى الثأر، وهكذا تتوج عمليات الصراع بالمشاعر السلبية التي لا تجد لها قراراً إلا بالصلح والسلم من جديد، وهذا يشفع مرة أخرى إلى مقولة أن السلم هو الوضع الصحي للنفس والمجتمع، أما المواجهة السلمية فهي تعتمد ليس كسر الخصم وإذلاله بل تذكيره وعدم التراجع أمام تهديده أو حتى أذيته،فالممارسة السلمية تقوم أيضاً على معاناة لا تقل عن معاناة الصراع العنفي، ولكنها تختلف بشكل جذري بنتائجها وتكاليفها، فكلفتها أقل ونتائجها مباركة، لأنها تصب في النهاية ليس عند تحطم إحدى الإرادتين، أي ولادة جو جديد ليس فيه أعلى وأدنى، ربوبية وعبودية، موجود وملغي، بل بشر متحابون متساوون متفاهمون..فهي وسيلة اقتصادية إلى أبعد الحدود.

أتراه كالفأر يا أبتي
كلما كتبت في هذا البحث وغصت فيه وأعدت ترتيب أفكاره أتذكر قصة quot;أتراه كالفأر يا أبتيquot;.
وهذا المثل هو حكاية الوزير الذي سجن ومعه ولده الذي لم ير الفيل بعد، فصادف أن شرح الوالد الوزير لابنه عن صفة الفيل وحجمه وشكله الغريب، فكان إذا انتهى من الشرح يسأل الولد كل مرة أتراه كالفأر يا أبتي لأن الطفل لم ير في السجن غير الفئران التي تركض.
وكذلك الحال مع أفكار السلام التي تريد إعادة صياغة الإنسان صياغة جديدة، وطرح أفكار لم يعتد سامعها سماع مثلها؛ فهي مثل فأر السجن الذي رواه ابن خلدون في مقدمته في قصة الوزير..
كلما أعدنا شرحها وتفكيكها من وجهة علم النفس الاجتماعي، يأتينا التعليق أنها أفكار خيالية رومانسية لا علاقة لها بالواقع..
ولكن كل الاكتشافات والاختراعات والانقلابات المصيرية في تاريخ الإنسان كانت أحلاما رومانسية يوما ما....