منطقة القصيم في نجد السعودية، منطقة جديرة بالدرس والاهتمام الثقافي والديني، لكونها من أكثر مناطق السعودية تخريجاً لشتى أشكال المثقفين. ففي هذه المنطقة ولد وتربي فيها وانتسب إليها عشرات بل مئات من أشهر مثقفي السعودية، دون غيرها من مناطق المملكة المختلفة.

التجارة جاءت بالثقافة الأخرى
وفي رأيي المتواضع، أن النشاط التجاري في منطقة القصيم، منذ عهد بعيد وترحال تجارها ndash; وهم من أذكى ، وأحرص، وأنجح تجار المملكة العربية السعودية ndash; إلى بلاد الشام والعراق ومصر، بحيث كانوا إلى فترة قريبة يقومون برحلة الشتاء والصيف التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، هي السبب في هذه الغزارة الثقافية، التي خرجت من منطقة القصيم، ومن عاصمتها quot;بريدةquot;.
فالتجارة سبيل مهم لتنوع الثقافة. والتجار في فجر الإسلام لعبوا دوراً ثقافياً مهماً. فالتجار، لا يذهبون، ولا يرجعون بكم هائل من البضائع فقط، ولكنهم يحملون معهم جزءاً، أو لمحات من ثقافة البلد الذي يتاجرون معه. ومن هنا كانت المدن الساحلية في العالم كله، أكثر المدن انفتاحاً وتنوعاً من غيرها.

ينبوعان في القصيم حار وبارد
خرج من القصيم، كبار المثقفين المؤثرين في السعودية والعالم العربي. فمن أقصى اليسار جاء المفكر عبد الله القصيمي، وجاء والد الروائي عبد الرحمن منيف (ولد في الأردن)، وكذلك الروائي والباحث تركي الحمد البريدي (مولود في الأردن)، والمفكر والباحث والناشط عبد الله الحامد، والمفكر والباحث إبراهيم البليهي، وغيرهم كثيرون من المفكرين والكتاب والناشطين الليبراليين. وإضافة إلى هؤلاء وغيرهم من الليبراليين، كانت منطقة القصيم بؤرة كبيرة ومهمة من بؤر السلفية الدينية. فقد خرج منها سلمان العودة، الذي دعا الكاتب الصحافي الأمريكي المعروف توماس فريدمان إلى بيته في بريدة عام 2002، لكي يناقش معه ظاهرة الإرهاب في العالم العربي، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وقبل أن ينتقل العودة من اليمين إلى اليسار، ومن صفوف quot;الصحويينquot; إلى صفوف quot;اليقظينquot; إيقاظاً صحياً على حقيقة العصر. كما خرج من بريدة الشيخ السلفي محمد بن صالح العثيمين المعروف بـ quot;ابن عثيمينquot;، والشيخ السلفي صالح فوزان الفوزان، والشيخ السلفي المتشدد والمتطرف ناصر العمر. بل إن معظم الشيوخ السلفية، هم من نتاج منطقة القصيم، وتضم quot;هيئة كبار العلماءquot; الدينيين معظمهم.

بريدة أنتجت quot;السروريةquot; والإسماعيلية quot;الإخوانquot;
وكما أنتجت مدينة الإسماعيلية في مصر quot;حركة الإخوان المسلمينquot;، فقد أنتجت منطقة القصيم الحركة quot;السروريةquot; (وهي خليط من حركية الإخوان المسلمين، وثورية سيّد قطب، وسلفية ابن تيمية) المنسوبة الى الشيخ السوري عضو quot;جماعة الإخوان المسلمينquot; محمد سرور بن نايف زين العابدين، الذي جاء من سوريا وعمل في معهد ديني في القصيم (معهد بريدة العلمي) (ولا أدري لماذا يطلقون على المشائخ quot;علماءquot;. فهم ربما quot;علماءquot; في الدين فقط، وفي اتجاه واحد محدد فقط. والمعاهد العلمية ما هي إلا معاهد دينية فقط، ولا علاقة لها بالعلوم الوضعية). كذلك خرج معظم رموز quot;حركة الصحوةquot; أو ما عُرف بـ quot;ثورة بريدةquot; عام 1991، وهي الحركة الدينية السلفية التي عارضت نزول القوات الأجنبية في السعودية، لصدِّ هجوم صدام حسين على شرق السعودية، وتحرير الكويت.

شباب: من السلفية إلى الليبرالية
والأهم من هذا كله، أن هناك مجموعة من الشباب المتدينين السلفيين البارزين الذين انتقلوا بفكرهم من السلفية إلى الليبرالية بخصائص سعودية كمنصور النقيدان، ومشاري الذايدي، وعبد الله بن بجاد العتيبي، ويوسف أبا الخيل وغيرهم، ولدوا ونشأوا في منطقة نجد. وهكذا تبقى منطقة نجد، هي المنطقة التي ازدهرت فيها السلفية الدينية، واستطاع الإخوان المسلمون، منذ الستينات، اختراقها بفكرهم المتطرف، أكثر من أية منطقة أخرى في السعودية. وربما يعود السبب في ذلك إلى العذرية الثقافية لهذه المنطقة، وعزلها التاريخي عن كافة مجريات العصور السابقة.

زحزحة الثوابت عن أماكنها
وكان الشباب السلفي السابق الذي أبصر نور حقيقة العصر الذي يعيش فيه قد بدأوا يكتبون في الصحافة السعودية مقالات هزّت كثيراً من الثوابت الدينية السلفية وزحزحت هذه الثوابت عن أمكانها الراسخة منذ مئات السنين، منتهزين فرصة تكبير هامش حرية الرأي في الصحافة السعودية. فصدرت الفتاوى السلفية ضدهم، تُكفِّرهم، وتهدر دماءهم. فأصدر الشيخ السلفي عبد الرحمن البراك فتوى تُكفِّر الكاتبين السلفيين السابقين، والليبراليين اللاحقين: عبد الله بن بجاد العتيبي ويوسف أبا الخيل، مطالبًا بمحاكمتهما بتهمة الردة، وقتلهما إن لم يتوبا. وجاءت الفتوى على خلفية مقال كتبه العتيبي في جريدة quot;الرياضquot; بعنوان quot;إسلام النص وإسلام الصراعquot;، ومقال آخر كتبه يوسف أبا الخيل بعنوان quot;الآخر في ميزان الإسلامquot;. ورأي العتيبي في مقاله: quot;أن المتصارعين في التراث أدخلوا على النص زيادات ليبرروا بها رغباتهم وأهدافهم.quot; بينما قال يوسف أبا الخيل في مقاله: quot;إن الإسلام لا يُكفِّر من لا يدين به، إلا إذا حال بين الناس وبين ممارسة حرية العقيدة التي يدينون بها. وأن الإسلام، لا يُكفِّر من لم يحارب الإسلام من الكتابيين، أو من أتباع الديانات الأخرى، بل عدَّهم من الناجين.quot;

سيرة الفتى منصور
منصور النقيدان شاب سلفي سابق وليبرالي لاحق. ولد 1970 ونشأ في quot;بريدةquot; كبرى مدن القصيم. وانتسب في شبابه المبكر إلى quot;جماعة الإخوان المسلمينquot;، فيما عُرف بـ quot;إخوان بريدةquot;. ترك المدرسة، وهو في سن السادسة عشر من عمره، وتفرغ لقراءة النصوص الدينية التي كانت تموج بها منطقة القصيم في الثمانينات والتسعينات، وانتسب في ذلك الوقت إلى ما أُطلق عليه quot;السلفية الجديدةquot;. وغيّر وبدَّل من سلوكيات حياته. وغالى في التغيير، وتطرف في التبديل.
كان يحب الموسيقى فكرهها.
وكان يملك مجموعة من الأشرطة والأسطوانات الموسيقية فحرقها وحطمها.
وكانت لديه كتباً في الشعر والأدب والنقد والفلسفة والتاريخ فحرقها.
وكان في معصمه ساعة، فخلعها، وكسرها، واستعاض عنها بالشمس لمعرفة الوقت.
ونزل إلى الشارع في بريدة، وأخذ يهاجم محلات الفيديو، ويكسِّرها، ويتلف محتوياتها، فألقت عليه الشرطة القبض، وأُودع السجن عدة مرات بتهمة الاعتداء على الغير، دون مبرر. وفي السجن، خلا النقيدان إلى نفسه، وبعيداً عن هوس السلفية القديمة والجديدة، وبدأ التحوّل من أقصى اليمين المتطرف إلى ما لا يَعرف بعد.

عندما تُفتح الآفاق على وسعها
في 1997 أُطلق سراح منصور النقيدان. وبدأ يقرأ الإسلام غير المُقيَّد بكلبشات الأيديولوجية السلفية الواحدة والخاصة. وبدأ يقرأ في الأفق المفتوح إسلام المجددين. ووجد أن الإسلام ليس فقط، ما هو في الكتب الدينية السلفية، وما هو في رؤوس السلفيين، ولكن هناك إسلام المجددين، وإسلام المصلحين، وإسلام المتصوفة، وإسلام المتكلمين، والإسلام الحركي وإسلام الفقهاء .. الخ. وأخذ النقيدان يقرأ ملياً إسلام المجددين. وكيف أن الإسلام بحاجة إلى تجديد وتنجيد من فترة لأخرى، حتى يلحق بالعصر. فالعصر لا يلحق بأية إيديولوجية، ولكن الإيديولوجيات تلحق بالعصر، وإلا تحجّرت الإيديولوجيا، وأصبحت من زينة المتاحف. كالقطار الذي لا يركب الناس، ولكن الناس تركبه، وإذ لم يركبوه في الزمن الصحيح، وفي المكان الصحيح، فسيبقون على رصيف الانتظار، والتأخر عن مواعيد كانوا قد ضربوها مع الآخرين.
وفي المقال القادم نُكمل.

السلام عليكم.