أطلقت الحكومة الفرنسية مؤخرا حملة نقاش عن quot;الهوية الفرنسيةquot;، لا تزال في بدايتها.
اليسار الفرنسي شجب المبادرة، قائلا إنها تتزامن مع قرب الانتخابات المحلية. وأكثر، صرحت سكرتيرة الحزب الاشتراكي إن القصد بالدعوة هم المهاجرون والهجرة. ومعلوم أن الحكومة الفرنسية سبق أن قررت طرد اللاجئين الذين لا يمتلكون أوراق إقامة، وهم عموما أفارقة، وتؤيدهم منظمات إنسانية وجمعية مكافحة التمييز وأطراف اليسار. فالحزب الاشتراكي يطالب بمنح جميع هؤلاء أوراق إقامة دفعة واحدة وليس بحث كل قضية على حدة. وهذه سياسة اتبعتها أسبانيا في السابق فندمت وعدلت عنها، كما اتبعها مرارا الاشتراكيون الفرنسيون حين كانوا في الحكم، ولكن وزير الداخلية الاشتراكي عهد ذاك، بيير شوفنمان، اعتبر تلك القرارات خاطئة وخطرة.

ما المقصود بالهوية الفرنسية؟
يبدو ثمة تفسيرات مختلفة. فمن الجانب الحكومي، لخص سركوزي القضية كالتالي: فرنسا دولة منفتحة ومتسامحة وتحترم الآخر ولكنها تريد من الآخر أن يحترمها، قاصدا احترام مبادئ الجمهورية وقوانينها والالتزام بالواجبات كما بالحقوق. المبادئ المقصودة هي مبادئ الثورة، من حرية ومساواة وإخاء وعلمانية، وأضاف لها قيمة العمل، وأكمل رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم بإضافة قضية الأمن. ويفضل بعض الكتاب الفرنسيين استخدام تعبير quot;المواطنة الجمهوريةquot; بدلا من quot;الهويةquot;، التي يرون تفسيراتها عديدة.
تزامنت دعوة النقاش العام مع قضية البرقع، التي سبق لسركوزي أن قال أن الجمهورية لا توافق على وجود البرقع على أراضيها- وهو ما أكده من جديد في خطابه الأخير، الذي شرح فيه مغزى دعوة النقاش العام.
مع ذلك، فإن بعض الكتاب يشخصون نوعا من البلبلة والتناقض في التفسيرات الحكومية نفسها وفي بعض الإجراءات الرسمية. مثلا، كلفت الحكومة رئيس quot;المجلس التمثيلي للجمعيات السوداءquot; بمهمة مكافحة العنصرية، فقال الكاتب quot; إيفان ليوفولquot; في quot;الفيجاروquot; إن هذا القرار هو كمن يعهد لمشعل النيران بمهمة إطفائها! والحقيقة أن العنصرية السوداء بارزة في فرنسا، كما في الدول الغربية الأخرى، ومنها أميركا، رغم محاولات مستميتة لطمس هذه الحقيقة الصادمة. كما تواصل البلديات تمويل جمعية مكافحة التمييز، رغم أن لقادتها تصريحات ومواقف تصب الزيت على النار.
أما التحدي الأكبر، فهو تصاعد الأصولية الإسلامية والتشدد الديني الإسلامي، وهو ما لا يجرؤ المسئولون الفرنسيون على الإشارة له علنا خوفا من إغضاب المسلمين. ويقول البرلماني المكلف بملف البرقع، quot;أندره جيرانquot;:

quot;فرنسا تواجه انحرافا أصوليا، وانكفاءَ على التقوقع الفئوي الذي تغذيه الأصولية الإسلاميةquot;، مضيفا: quot; الوضع أخطر مما نعتقد.. وعلينا أن نخرج- على الصعيد الوطني - من العمى وعدم الاكتراث.quot;
إن على المسلمين في الغرب عدم تجاهل أسباب القلق، وحتى الخوف من كلمة إسلام ومسلمين عند فئات متزايدة من الغربيين ممن لا يمكن اتهامها بالعنصرية، ولكن بينها من قد ينخدعون بالدعايات العنصرية ضد العرب والمسلمين. ولا داعي لتكرار الإشارات إلى عمليات الإرهاب المتكررة في الغرب منذ الثمانينات، وخصوصا جرائم 11 سبتمبر، وما بعدها في لندن ومدريد، وهي جرائم لم تقم الجاليات العربية والمسلمة بما ينبغي للتنصل الصادق منها، واستنكارها علنا وبلا التباس أو تأويل وتبريرات سياسية. وكيف يكون شعور الفرنسي عندما يهين أبناء من الهجرة المغاربية نشيد فرنسا الوطني؟! أو عندما يبعث رجل دين إيراني في أستراليا رسائل لعائلات جنود قتلي يكتب فيها إن هؤلاء يستحقون الموت؟! وكيف يمكن القبول بمحاولات فرض النقاب والحجاب على هذه المجتمعات، فيما رفض شيخ الأزهر بنفسه ارتداءهما في مصر؟! وماذا يقولون عنا حين يقترف منا من يقتلون بناتهم لمجرد صداقة أجنبي أو لرفض الزواج بمن لا تريد، أو عن تزويج قاصرة؟! ألخ.... ألخ....؟؟!! والحال أن معظم أئمة الجوامع والفريق الواسع من المثقفين المسلمين لا يقومون بواجبهم، بل منهم من يزيدون الوضع سوءا على سوء، ولعلهم يحلمون بتحويل العالم كله إلى مسلمين. آخر مثل قصة المآذن في سويسرا. فاليمين السويسري المتطرف استغل مشاعر الخوف من التطرف الإسلامي ليفرض الاستفتاء الشعبي، الذي نعرف نتائجه ويجب أخذه بالحسبان لكون النتيجة إرادة شعب مسالم لا يرفض المسجد، ولكنه يرفض منارة يعتقد أنها تشوه الأصول المعمارية ووجه الطبيعة، ولأنها ترمز- في نظرهم- للتحدي الديني. وحسنا نصحت جهات مسلمة سويسرية بالتأني والهدوء، وطلبت من بقية المسلمين عدم التدخل، ولكن جواب العالم الإسلامي المصري الدكتور عبد المنعم البيوميquot; جاء بالقول:

quot;إن مسلمي سويسرا ليس معهم الحق فيما يتعلق بالحريات الدينية لأنها أصبحت خاضعة للعهد الدولي لحقوق الإنسان...quot; أما الداعية الإسلامي، طارق رمضان، الموصوف بالمعتدل، فقال إن نتائج الاستفتاء quot;كارثيةquot;!! إننا لا نرى علاقة بين الحرية الدينية للمسلمين، والتي يمارسونها في الغرب أكثر مما في بلدان الأصل، وبين بناء مأذنة هي مجرد شكل معماري، ولا داعي لها في مجتمع غير مسلم ما دام غير مسموح بوجود مؤذن وأذان؟؟ بل لم تكن زمن الرسول الكريم مآذن، ووجودها ليس فريضة قرآنية. ويقول صوت نادر بين الأئمة المسلمين في فرنسا، إمام مدينة بوردو، طارق أوبرو:
quot; في المناخ الحالي تبدو الماذنة كتحدي، ويجب استبعاد إيقاظ المخاوف والمتطرفين وأنا مع حضور غير بارز للإسلام.quot; وهذا موقف يعاكس مواقف زعماء التنظيم الإخواني، الذين يصرون على أن منارة تبرز مكان المسجد للجميع كرمز لحضور الإسلام! - علما بأنه توجد 2000 أماكن عبادة للمسلمين في فرنسا، منها 20 بمنارة، وهناك تصميم إنشاء 200 مسجد آخر بلا مآذن. وأمر المآذن يعود أصلا لكل رئيس بلدية، ويمكن حل القضية بلا ضجة. وعلى الهامش نقول: مسكينة هذه الدولة السويسرية المسالمة، غير المدججة بالسلاح: إليها يهرب عرب الدولار بأموالهم بعد نهبها، وعليها يمكن لأولاد هذا الرئيس العربي أو ذاك العدوان على الآخرين بحرية، فإذا تحرك القضاء السويسري، جاءت العقوبات والهجمات الدبلوماسية ودعوات تفكيك سويسرا!
إننا نسأل السيد البيومي وغيره: كيف هو حال الحرية الدينية في الدول العربية والمسلمة، ومنها مصر؟! وكم كنيسة وكاتدرائية موجودة على نطاق العالمين العربي والإسلامي؟! وماذا سيكون جواب الشارع في معظم بلداننا على استفتاء حول إنشاء كنيسة؟! وكم من الكنائس القليلة الموجودة بقيت سالمة من العدوان؟! هذا الموضوع متشعب، وليس هنا مجال التوقف مطولا لديه.
إن الاعتراف بالهوية الفرنسية لا يعني، في نظر الباحثين الفرنسيين والحكومة، تجاهل سيئات الماضي وجوانبه المظلمة: كمحاكم التفتيش والحروب الصليبية والعهد الاستعماري. فهذه كلها جزء من تاريخ البلد، ولا يمكن طمسه، لكن المهم هو على أية قيم ومبادئ وأسس ونظام استقرت فرنسا بعد كل ما مر عليها بعد كل تلك المراحل، وواجب احترام هذه المبادئ والقيم والنظام الجمهوري الديمقراطي الفرنسي كما عليه اليوم. وقبل أن نلوم فرنسا وسويسرا وكل الغرب، يجب أن تكون لدى العرب والمسلمين شجاعة إعادة النظر في أوضاعهم وماضيهم وحاضرهم المتردي، وعلى أبناء الهجرة في الغرب أن يحملوا شعور الاعتراف بالامتنان لمجتمعات احتضنتهم وتكرمهم وتساعدهم في كل الميادين، دون أن تعمل على طمس خصائصهم وانتماءاتهم الدينية والقومية والثقافية، ودون أن تبغي مقابل ذلك غير أن يكونوا مواطنين صالحين، وأن لا يطلبوا لأنفسهم امتيازات خاصة لا يتمتع بها بقية الفرنسيين من أهل البلد لمجرد أنهم عرب أو مسلمون، وأن يحترموا إرادة الشعوب التي هم بينها.