تتالى المقالات والتعليقات العربية عن تركيا منذ هجمة أردوغان على شمعون بيريز في سويسرا، ثم إعلان تأجيل مشاركة تركيا في المناورات العسكرية مع إسرائيل، الانفتاح القوي على إيران، والعراق، والقضية الكردية. الروح العامة لما قرأنا عن الموضوع مشبع بالترحيب والحماس بما يعتبرونه سياسة تركية جديدة، ويصفعا العديد من المحللين السياسيين بquot;النيوعثمانيةquot; أو quot;العثمنةquot;.
إليكم مثلا عناوين بعض المقالات: quot; تركيا تعيد اكتشاف نفسهاquot;؛ quot;أردوغان من ثورة أتاتورك إلى سياسة quot;نيوعثمانيةquot;؛quot; الوجه العثماني للدبلوماسية التركية الناشطةquot;؛ quot;طهران وأسطنبول ودمشقquot;؛ quot;الحنين إلى ذكريات الإمبراطوريةquot;؛ quot;العصر التركيquot;، ألخ.. الخ
المحللون العرب الذين يخالفون التهليل لعودة العثمنة بطبعة جديدة قليلون، فالاتجاه الغالب، كما قلنا، هو الحماس، والمنطلق الأول لهذا الموقف هو الموقف من إسرائيل، إذ يعتبر هؤلاء المحللون العرب أن تركيا تعود لأصلها الشرقي بعد الاستغراب، وترجع إلى هويتها الدينية، وراحت تفك ارتباطها بإسرائيل. وأحد من يعتقدون هذا في مقالين له السيد عصام العريان، أحد زعماء الإخوان المصريين.أ
أعتقد أن من السابق لأوانه التوصل لتقييم حاسم حول السياسة التركية ونوايا الحزب الإسلامي الحاكم البعيدة، ولكن ثمة ما يمكن قوله مع ذلك.
هناك، كما يبدو، حنين متزايد لدى شرائح متزايدة من الشعب التركي نحو العهد العثماني، وقد نشرت الشرق الأوسط بتاريخ 6 ديسمبر الجاري تقريرا كشافا بهذا الشأن. فقد جرى تشييع شعبي حافل، وبملابس الحداد، لطغرل عثمان، وهو من كان يحتمل أن يصبح سلطانا، ونفي وتوفي في المنفى عن 97 عاما. وشارك في الاحتفال مسئولون حكوميون، وشوهدت ظاهرة تقبيل أيدي أفراد من بقايا الأسرة العثمانية الحاكمة. وعندما عاد أردوغان من سويسرا بعد تقريعه الصاخب لبيريز بسبب حرب غزة، استقبل في تركيا استقبال الفاتحين، وكان من الهتافات البارزة:quot; عاد الفاتح من جديدquot;، في إشارة للسلطان محمد الثاني الذي قام عام 1453 بفتح القسطنطينية- أي أسطنبول. كما نرى أن فئات من الشبان راحت ترتدي قمصانا عليها شعارات quot;الإمبراطورية تردّ الضرباتquot;، وquot;الأتراك المُرعِبونquot;. و بحسب التقرير المذكور، يرى بعض الأتراك الرافضين للظاهرة أنها بمثابة quot;ثورة ضد الثورة الثقافية العلمانية لأتاتوركquot;.
النقطة الهامة الأولى التي تستوقف النظر في مواقف المهللين العرب هي أنه كيف يمكن للعرب التهليل لانبعاث روح العهد الثماني، الذي كان يتسم بالتخلف والانحطاط والفساد وبحجر المرأة؟! كيف يمكن تمجيد حقبة من الاحتلال العثماني للمنطقة، واتخاذ الاستبداد السلطاني نموذجا؟!
لقد أحسن الكاتب والمعلق اللبناني المتميز، حازم صاغية، حين كتب في quot;الحياةquot; عدد7 ديسمبر الجاري إننا عندما نمتدح العثمانية لا نفعل غير quot;إضافة صوت جديد إلى أصوات الانحطاط المتمادي.quot; ويلاحظ الكاتب أن الشيء الوحيد الذي يشغل العرب اليوم هو إحراز القوة، quot;فلا التقدم على أجندتنا ولا الحداثة ولا التنوير ولا الحرية ولا طبعا الديمقراطية.quot; وإذا كنا نتمنى فعلا التقدم لتركيا، فلنتمنّ لها أنquot; تتطور وتسعى وراء مصالحها ، لا كثمانية جديدة، بل كدولة ndash; أمة حديثة، بدأ مشروعها هذا مع مصطفى كمال ولم تكمله حتى اللحظة. والشوط المتبقي طويل.quot;
أجل، يجب أن نرحب بالانفتاح التركي على القضية الكردية وعلى أرمينيا، وعلى العراق، الذي تربطه روابط كبرى بتركيا، ويجب تثمين كل خطوة لصالح العلاقات المتينة بين البلدين. كما يجب تثمين الحماس التركي للقضية الفلسطينية، ولكن: هل عدم المشاركة في المناورات العسكرية يعني انقطاع جسور تركيا مع إسرائيل التي لا تزال مرتبطة بروابط غير قليلة مع تركيا؟ ثم إن تركيا لا تزال على استعداد للوساطة بين سورية وإسرائيل. آملين ألا تكون انفجارة أردوغان في سويسرا مجرد مناورة للداخل التركي والعربي. كما نأمل ألا يكون انفتاحه على الأكراد مجرد تكتكة لغرض داخلي.
ومهما يكن، فالترحيب بمواقف سياسية طيبة لا ينبغي أن يدفعنا، نحن أيضا، للتهليل للعثمانية، لأن العهد العثماني أذاق شعوبنا الويلات، واحتل بلداننا قرونا، والحنين التركي للعهد العثماني يعكس حنينا للتوجه الإمبراطوري الذي يجب أن يقلقنا لا أن نرحب به.
لقد قام مصطفى كمال بثورة ثقافية واجتماعية كبرى في المنطقة، وألغى دولة الخلافة الإمبراطورية، وأعلن العلمانية لصالح الحداثة والمرأة برغم المآخذ على الأساليب القسرية في فرض العلمانية، وعلى الانغلاق على القضية الكردية. وليس من صالحنا، ولا من صالح الشعب التركي نفسه، الانقضاض التدريجي المراوغ على علمانية أتاتورك، في الطريق التدريجي نحو أسلمة المجتمع والدولة [ * هامش]. كما يجب رفض هذا الدعم القوي للنظام الإيراني الذي يمارسه فريق أردوغان- غول ndash; أوغلو،[ الوزير الموصوف بالعثماني]. إن الفريق التركي الحاكم لا يترك مناسبة دون توبيخ الغرب حول النووي لصالح الموقف الإيراني، مما دفع بالاتحاد الأوروبي لتنبيه الحكومة التركية إلى وجوب تنسيق سياستها الإيرانية مع الموقف الأوروبي ما دامت تركيا لا تزال عضوا في الأطلسي وتطمح للانضمام للاتحاد الأوربي. فكيف يمكن الجمع بين الشتاء القارص والحر اللاهب؟!
نستعير مرة ثانية من حازم صاغية بالتحذير من طلب العظمة حين يقول في مقال ثان له عن الموضوع:
quot;إن طلب العظمة كثيرا ما ينمّ عن أزمة ضعف يوكل إلى تلك العظمة أن تتفادها. وهذا ما رأيناه على نحو مأساوي في تجارب تمتد من الفاشية الأوروبية إلى الناصرية المصرية فالخمينية الإيرانية، وهي كلها حظيت بتهليلنا. وبالطبع، فإن تركيا لا تزال بعيدة جدا من أن توضع في هذه الخانة. إلا أن التحذير من الإيحاء الإمبراطوري التركي يستحق أن يبقى في افتراضاتنا، ولو مقرونا بتهليل من يريد أن يهلل.quot;
أجل، لا يمكن التنبؤ بدقة بما سوف تستقر عليه سياسة وتوجهات الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا: فهناك ما يستحق الترحيب به، ولكن ثمة ما يقلق كثيرا، لاسيما العلاقة مع إيران ومشروعها لقيام محور إقليمي رباعي من طهران وأنقرة ودمشق وبغداد- محور موجه ضد الغرب، ولصالح القنبلة الإيرانية، وتعايش العظمتين الإيرانية والتركية، وهو التعايش الذي، إن قام، فسوف يصطدم بتناقضات المصالح والصراع على الدور الإقليمي الأول. ونقطة أخيرة، وهي يبدو أن أوباما مرتاح للدور والسياسة التركيين رغم انتقادات في الكونغرس لموقف الحكومة التركية في قضية النووي الإيراني. فالإدارة الأميركية تظن أن تركيا يمكن أن تقنع إيران بقبول العروض الدولية وبالاعتدال. وهذا إمعان من الإدارة الأميركية في الأوهام عن النظام الإيراني، الذي يواصل اللعب بالمجتمع الدولي بمناوراته التي تكسبه مزيدا من الوقت. والمستقبل كشاف!

* هامش:

أردوغان علق على قضية المآذن في سويسرا بقوله حرفيا:quot; المساجد ثكنات المسلمين والمآذن حرابهم!!!quot; وهو تصريح يشف عن استعراض القوى لا عن الاعتدال.