1
رواة الطبري في قصة الحسين
يروي الطبري الواقعة عن رواة مشهود لهم بعلم الروا ية والاخبار، وهم على التوالي : ــ
1 : لوط بن يحي، أبو مخنف، المتوفي سنة (157) ويعد أهم مصدر من مصادر الطبري في روايته في قضية خروج الحسين بشكل تفصيلي، ويعبر عن رواية أبي مخنف في ذلك بـ (الرواية العراقية) في كثير من الاحيان، وسبب التسمية يعود ربما إلى كون أبي مخنف عراقي، وتخصص بأخبار العراق بشكل وا ضح.
2 : عمار الدُهني، وهو أبو معاوية عمار بن معاوية الدُّهني البجلي الكوفي، ويرويها عن طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، المعروف بـ (الباقر)، ويعبرون عن روايته في كثير من الأحيان بـ (الرواية الحجازية)، لان الرواي والمروي عنه كانا يعيشان في الحجاز.
3 : عوانة بن الحكم.
4 : الحصين بن عبد الرحمن السلمي، أبو هذيل الكوفي ا لمتوفي سنة 136 للهجرة.
5 : محمد بن عمر الواقدي صاحب المغازي المعروف ا لمتوفي سنة 270 للهجرة.
6 : أبو معشر السندي، نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني المتوفي سنة 170 للهجرة.
هؤلاء هم رواة معركة الطف في الطبري، ولكن المدار فيهم هو أبو مخنف، وذلك للأسباب التالية : ــ
أولا: لما يراه الطبري من أن رواية أبي مخنف في هذه القضية أكثر من غيرها تفصيلا وإشباعا، وله في ذلك قول صريح، فقد قال : (وأمّا أبو مخنف فإنه ذكر من قصّة مسلم بن عقيل، وشخوصه إلى الكوفة، ومقتله، قصة هي أشبع وأتم من خبر عمّار الدُّهني عن أبي جعفر التي ذكرناها) 1/ تاريخ الطبري جزء 6 طبع دار الفكر ص 271 /، وقد بلغ عدد رواياته في زمن يزيد بن معاوية فيما يخص واقعة الطف (ثلاث ومائة رواية) / مرويات ابي مخنف في تاريخ الطبري، منها 108 رواية في قضية الطف.
ثانيا : وربما إضافة الى ذلك كون هذا الراوي عراقي المولد والنشأة، وصاحب اختصاص واضح بـ (المقاتل)، فإن ابن النديم ينسب إليه أكثر من مصنف في هذا الفن، منها: (مقتل علي عليه السلام، كتاب مقتل حجر بن عدي، كتاب مقتل محمد بن أبي بكر والأشتر ومحمد بن أبي حذيفة... مقتل عثمان... كتا ب مقتل الحسين) 2 / فهرست ابن النديم، تحقيق رضا تجدد، بلا معطيات ص 105 /
ثالثا : إن أبا مخنف يروي عن رجال شهدوا الواقعة، وذلك مثل (حميد بن مسلم)، و(زهير بن أبي الأخنس) 3 / الطبري ص / وغيرهما، وهذه نقطة جديرة بأن ينتبه إليها الطبري الذي يعتبر مؤرخ سندي بالدرجة الاولى، بل هو من المصنفيين المغرمين بفن السند والإسناد حتى في محاولته التفسيرية.
لهذه الاسباب وربما لغيرها أيضا كان اعتماد الطبري على ابي مخنف أساسيا بل متقدما على كل مصدر آخر، بحيث تختفي المصادر الاخرى في زحمة إعتماد الطبري على هذا المصدر.
لقد استرعى ابن كثير اعتماد الطبري على (ابو مخنف) في قصة الحسين، وكان ذلك مدعاة هجوم لاذع من قبل ابن كثير على الطبري، فقد جاء في البداية والنهاية لابن كثير: (ويظهر من غبون كلامه قوّة وجده به وغرامه، ولهذا توسّع في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحي، وهو متهم فيما يرويه) 4 / المصدر جزء 8 ص 277 / وكان ابن كثير قد اتهم أبا مخنف بشكل صريح وواضح، قائلا: (وقد كان شيعيا، وهو ضعيف الحديث عند الأئمة، ولكنه اخباري حافظ، عنده من هذه الاشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنفين في هذا الشأن ممن بعده والله أعلم) 5 / المصدر نفسه ص 203 /
هناك شبه اتفاق على أن أبا مخنف اخباري عارف باخبار العراق أكثر من غيره، وفي ذلك يقول ابن النديم في الفهرست: (قرأت بخط احمد بن الحارث ا لخزار: ــ قالت العلماء أبو مخنف بأمر العراق واخبارها وفتوحها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بالحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام) 6 / الفهرست ص 106 /
لقد توسّع ابو مخنف في روايته عن الحسين، وذلك منذ (خروجه من المدينة إلى مكّة، ثم الى الكوفة، وحتى مقتله بكربلاء، وهو ما تفتقده التآليف الأخرى التي ألفها ثقاة من أهل السنة، حيث تبدو الفجوات، وعدم تسلسل الحديث واضحا خلال بعض النصوص التي وصلت إلينا) 7 / الشيباني، محمد عبد الهادي / مواقف المعارضة في عهد يزيد بن معاوية / دار طيبة للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، ط 2 ص 196، سنة 2009 /.
يرى بعضهم أن الطبري كان مضطرا للاعتماد على رواية أبي مخنف بسبب هذا الجدب الخبري في المصادر الاخرى، خاصة وإن الطبري بين في مقدمته إنه لا يتحمل تبعة كل ما ينقله في كتابه، ولكن هل يكفي كل هذا للتسليم ما يرويه ابو مخنف في قصة الحسين عليه السلام؟
هذا الكلام لا يتسم بالعلمية والموضوعية، ذلك أن الطبري اعتمد على أبي مخنف في كثير من قضايا التاريخ الاسلامي، وقد بلغت عدد رواياته عن ابي مخنف (قرابة ستمائة رواية استغرقت الفترة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى سنة 132، وهي فترة تأسيس الأمة، ونشاة النظم الاسلامية، وإقامة صرح دولة الاسلام) / اليحي، يحي بني ابراهيم بن علي، مرويات أبي مخنف في تا ريخ الطبري، طبع دار العاصمة، الرياض، ص 6 من المقدمة /

2: أبو مخنف في الكتب الرجاليَّة

الكتب السنية :
تتناول كتب الرجال السنية شخصيَّة أبي مخنف بكثير من الشكوك بل الرفض المطلق، ففي لسان الميزان: (لوط ابن يحي أبو مخنف : إخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره، وقال الدار قطني: ضعيف، وقال يحي بن معين : ليس بثقة، وقال مرّة: ليس بشيء، وقال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم... وقال ابو عبيد الآجري: سألت أبا حاتم عنه فنفض يده) 8 / لسان الميزان رقم 1568 /. وفي سير أعلام النبلاء (لوط ابن يحي، صاحب تصانيف وتواريخ، روى عن جابر الجُعفي، ومُجالد بن سعيد، وصقعب بن بن زهير، وطائفة من المجهولين... قلتُ : توفي سنة سبع وخمسين ومئة سنة، وهو من بابة سيف بن عمر التميمي صاحب الردّة، وعبد الله بن عياش المنتوف، وعوانة بن الحكم 9 / المصدر 7 ص 301 /
وهذه النماذج التي ذكرها الذهبي نماذج مرفوضة في علم الرجال السني، ولا تعدها من طبقة المحدِّثين، بل هي مسؤولة عن الإساءة الى التاريخ الإسلامي بسبب كذبهم وإفترائهم، وبالتالي، يعد أبو مخنف في نظر علماء الرجال السنة من الكوارث والمصائب!!
أبو مخنف في تقييم علم الرجال السني ضعيف بحد ذاته، ومن ثم يروي عن ضعفاء ومجهولين، فجابر الجعفي مثلا من الغلاة المتروك عند الشيعة، والمُتهم عند السنة، وكذك غيره ممّن يروي عنهم.

الكتب الشيعية
ترجمة أبي مخنف في التراث الرجالي الشيعي تكاد تكون مضطربة، كذلك تقييم الرجل جاء في صيغة غير واضحة، فالشيخ الكشي جعله من أصحاب علي عليه السلام والشيخين الجليلين الحسن والحسين، فيما يخطِّئه الشيخ الطوسي في ترجمته له في الفهرست رقم (585) ويقول: (والصحيح : أن أباه كان من أصحاب علي عليه السلام، وهو لم يلقه...) ولكن الشيخ الطوسي يعده من أصحاب الامام الحسن تارة والحسين تارة أخرى والصادق تارة ثالثة!10 / معجم الخوئي 14 ص 136 /
وفيما يستبعد بعضهم أن يكون ابو مخنف من أصحاب الامام علي يستظهره بعضهم، ولا يرى فيه مستحيلا، ويستند هؤلاء إلى رواية هي: (... عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله،عن محمّد بن علي، عن أحمد بن عمرو بن سليمان البجلي، عن اسماعيل بن الحسن، عن ابن شعيب، عن ابن ميثم التمار، عن إبراهيم بن إسحق المدائني، عن رجل، عن أبي مخنف الازدي، قال : أتى أمير المؤمنين رهط من الشيعة....) 11 / المصدر السابق /
يستشهد بعضهم بهذه الرواية أو يستنبط منها إمكان لقاء أبي مخنف عليا عليه السلام، ولكن هذا الاستظهار يصطدم باكثر من عقبة، هي باختصار ما يلي : ــ

أولا : الرواية أصلا مرسلة.
ثانيا : قد لا يكون ابو مخنف قد نقل الرواية مباشرة عن الامام علي، بل بواسطة محذوفة.
يروي أبو مخنف خطبة الزهراء بواسطتين كما يذكر السيد الخوئي، وبالتالي، من المستبعد أن يكون قد عاصر عليا عليه السلام.
يقول النجاشي: (لوط بن يحي بن سعيد بن مخنف بن سالم الازدي الغامدي أبو مخنف، شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، وكان يُسْكَن إلى ما يرويه...) / 12 النجاشي رقم 875 /، وهذا توثيق ضعيف، توثيق بالكاد كما يقولون، ولكن هل نطمئن إلى توثيقات النجاشي بلا نقاش؟ ترى كيف كان يوثق وما هي طريقته في التوثيق؟
جاء في خلاصة العلامة الحلي: (لوط بن يحي بن سعيد بن مخنف بن مسلم الأزدي الغامدي... أبو مخنف رحمه الله شيخ أصحاب الأخبار ووجههم، وكان يُسْكَن إلى مايرويه، روي عن جعفر بن محمّد عليه السلام... وقيل: روى عن أبي جعفر عليه السلام ولم يصح، وقال الشيخ الطوسي والكشي رحمهما الله :أنه من أصحاب أمير المؤمنين والظاهر خلافه، أمّا أبوه يحي فإنه من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فلعل قول الشيخ والكشي إشارة إلى الأب والله أعلم...)، لكن الطوسي هو الذي نفى أن يكون من أصحاب علي عليه السلام ردا على الكشي!!
هذه المفارقة تكشف لنا ضرورة التدقيق في النصوص المنقولة، وتقييم الحلي متأخر كما هو معلوم، وهو ينقل عين تقييم النجاشي.
يصر رجالي شيعي على (إماميَّة) أبو مخنف، ردا على كلام لصاحب نهج البلاغة حيث أنكر أن يكون كذلك، وذهب إلى أن الرجل ممن يقول إنّ الإمامة بالاختيار وليس بالنص.
يقول المامقاني [ لا ينبغي التأمل في كونه إماميا كما صرح به جماعة، وإنكار ابن أبي الحديد ذلك لقوله (وأبومخنف من المحدثين وممّن يرى صحة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة، ولا معدودا من رجالها) من الخرافات، كيف وفي القاموس في خنف (أبو مخنف أخباري شيعي مؤلف متروك) والعجب العجاب أن ابن أبي حديد نطق... بعد أن روى أشعارا في أن عليا وصى رسول الله صلى الله عليه وأله وقال (ذكر هذه الاشعار والاراجيز باجمعها أبومخنف في كتابه وقعة الجمل) ](13).
هذا النص مرتبك شيء ما، فهو لم يميز بين (الشيعي) و ا(لامامي)، فإن كلَّ إمامي شيعي ولكن ليس كل شيعي أماميا كما هو واضح، ومن هنا قول ابي مخنف في مصنفه عن وقعة الجمل من أن النبيَّ عليا وصيُّ النبي الكريم ربما ينسجم مع القول الشيعي بشكل عام، وليس مع القول الشيعي الإمامي على وجه الخصوص.


3: أبو مخنف والبلاذري

يروي البلاذري من أعلام القرن الثالث الهجري قصة الحسين على نحو من التفصيل ايضا، في كتابه الممتاز (أنساب الاشراف) في جزئه الثالث، ولكن روايته كانت بصيغة الاسناد الجمعي، اي بصيغة (قالوا)، فقد روى عن فضائل الحسين عليه السلام، وروى تعداد ولد الامام الحسين واسما ئهم، وروى قصّة خروج الحسين من المدينة الى مكة، وقصة المراسلات بين الحسين وأهل الكوفة، وخروج الحسين من مكة إلى الكوفة، وما جرى خلالها من أحداث ووقائع وملابسات، ومن ثم تحدث عن مقتل الحسين، والحورات التي جرت بين أنصار الحسين وبين صناع قرار الحرب والسياسة في جيش عمر بن سعد، وروى لنا عن مقاتل ا لطا لبيين في المعركة، وروى لنا عن مصير رأس الحسين بعد أن استشهد، ولكن كما قلت أن البلاذري يصدِّر كثيرا من رواياته بصيغة الاسناد الجمعي، أي (قالوا)، وفي بعض الاحيان يذكر سنده الشخصي بعينه، كما في روايته عن أبو خيثمة / 14 أنساب الاشراف، تحقيق محمد باقر المحمودي رواية رقم 86 / وكما في روايته عن عمر بن شبّة / 15 نفسه 87، وكما في روايته عن عبيد الله بن محمّد بن عائشة /16 نفسه رقم 85 / وكما في روايته عن حفص بن عمر /17 نفسه رقم 80 / وكما في روايته عن عوانة بن الحكم ر قم 67 / وغيرهم من الرواة المعروفين، وقراءة سريعة لمدخول (قالوا) كما يروي البلاذري يكتشف القاريء ببساطة إنها رواية ابي مخنف، ولكن البلاذري تخفّاها بهذا السند الجمعي، أي السند بصيغة (قالوا) وقد اكتشف ذلك باحث متتبع عن طريق المقارنة بين رواية البلاذري هذه ورواية ابي مخنف في الطبري، سوى بعض الاختلافات اليسيرة (راجع مواقف المعارضة في عهد يزيد بن معاوية للدكتور محمّد بن عبد الهادي الشيباني)، ويعلل الباحث الشيباني ذلك بأن البلاذري إنما صنع هذا خوفا من الاتهام، لأن أبا مخنف معروف بتشيعه، خاصة وأن البلاذري كان على صلة وثيقة وحميمية بالخليفة العباسي المتوكل على الله، وهذا الخليفة كان ينصب العداء لعلي بن أبي طالب وعموم الطالبيين والشيعة بشكل عام، وهناك تعليل آخر يذكره الباحث المذكور بقوله : (إن البلاذري سلك منهج المحدِّثين خلال تأليفه لكتابه أنساب الاشراف، وذلك عن طريق توثيق الروايات، وتوثيق الرواية في ذلك العصر لا يتم با لتحديث والسماع من الراوي نفسه، وذلك من أجل بقاء السلسلة متصلة حتى الحدث) /18 نفسه ص 198 / فيما يرى أحد كبار مصنفي التراث العربي فؤاد سركين أن السبب في ذلك هو (أن كتب أ بي مخنف كانت من الكتب التي كثر قرّاؤها، ولا سيما بين الشيعة، وهناك مؤلفات وصلت إلينا منسوبة إليه، غير أنّها تبدو بتعديلات متأ خرة، فيها تصرف في النص، زاد بمضي الوقت، زيادة مطَّردة، حتى أصبحت نصوصها بعيدة عن أصل المؤلف، ورغم هذا نجد فيها نواة من الحقيقة، وفي بعض المواضع نصوصا لم تتغير، وهذا ما أثبته فستنفلد في دراسته لكتابين معروضين في ذلك الوقت، وهما: مقتل الحسين، والمختار الثقفي) / 19 نفسه ص 199 نقلا عن تاريخ التراث العربي لبروكلمان/
يتداول كثير من الناس كتابا بعنوان (مقتل أبي مخنف)، وهذا الكتاب منسوب لأبي مخنف وليس هو الكتاب الأصلي، فقد نصت البحوث التراثية الرصينة أن الكتاب هذا مفقود، وأن أي مقارنة بين الكتاب الموجود حاليا ورواية أبي مخنف في الطبري تكشف عن زيف هذا الكتاب المتداول بين الناس اليوم، وقد أشار الى ذلك باحثون شيعة في علم الرجال والرواية، منهم الشيخ عباس القمي في كتابه المعروف (الكنى والألقاب).
هذا وسوف أواصل الحديث عن روايات ابي مخنف نفسها في حلقة مقبلة في ايلاف بالذات، وفي حلقة مقبلة أقوم بعملية تصفية للروايات الخاصة بواقعة الطف، بين الترجيح والاهمال والرد، والضمير من وراء القصد.