المعلومات الجديدة حول اكتشاف (الأنا)
من يكون أنا؟ ماهو الوعي؟ واللاوعي؟ ماهو التفكير؟

في مؤتمر العلوم العصبية (SOCIETY FOR NEUROSCIENCES) الذي انعقد قبل فترة في مدينة سان دييغو (SAN DIEGO) في مقاطعة كاليفورنيا الأمريكية، في مناسبة تأسيس وحدات البحث العلمية قبل ربع قرن من الزمان، احتشدت مظاهرة ضخمة من العلماء، زاد عددها عن عشرين ألف عالم، في شتى ميادين العلوم العصبية؛ من الذين يعملون في تشريح الدماغ (ANATOMY) وفسيولوجيا الأعصاب، وجراحة المخ، وأبحاث الخلايا العصبية، وعلماء النفس، والفلاسفة، والمختصين بكيمياء الدماغ، والمخدرين، والمعنيين بالمخدرات والمدمنين والجريمة، وجماعات التنويم المغناطيسي، والمعتقدين بالباراسيكولوجيا، والطب البديل، وأطباء النفس العصبي (PSYCHONEUROLOGY)، وأطباء الصحة النفسية، وعلماء الكمبيوتر، والمعلوماتيين.
كانت عناوين الأبحاث فقط (ABSTRACTS) تضم ثلاث مجلدات ضخمة، وكان هدف الاجتماع هو محاولة حل المشكلة الفلسفية القديمة في اكتشاف الذات؟! من يكون أنا؟ ما هو الوعي واللاوعي؟ ما هو التفكير؟
وكان أطرف ما جاء في المؤتمر بعض الاختراقات المعرفية الجديدة التي قدمها بعض العلماء مثل (بنيامين ليبيت)(BENJAMIN LIBET) الذي يعمل في فسيولوجيا الأعصاب، من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، حول ظاهرة غياب الوعي عن الحاضر، فالوعي يتأخر دوماً عن اللحظة الراهنة بأجزاء من الثانية، فهو يلهث للحاق بنبض الزمن عبثاً، فنحن عملياً خارج الزمن الفعلي؟
ومنها التي قدمها الدكتور (انتونيو داماسيو)(ANTONIO DAMASIO) ذو الأصل البرتغالي من جامعة (إيوا)(IOWA) حول فهم جديد لجدلية العواطف والعقل، في تقسيم مثير للعواطف الإنسانية، فيما يشبه طيف الضوء، فكما يتجمع طيف الضوء الأبيض من سبعة ألوان في حزمة واحدة، حولته الى اللون الأبيض الذي نشعر به، كذلك انبثقت تصرفات الإنسان من حزمةٍ من خمسة عواطف هي: الحزن والسرور، الخوف والغضب، والاشمئزاز، ليصل في النهاية الى دراسة ميدانية مثيرة، في تطبيق مقياس خاص على قياس العواطف ونبض العقل ونظم الأفكار عن طريق فحص مادي لتعرق الجلد.

حادثة المريض ايليوت (EIIIOT):
كان الصداع الذي استولى على المريض مبرحاً، لا يفارقه ليل نهار، مما اضطره الى مراجعة طبيب الأعصاب الدكتور (انتونيو داماسيو) الذي اكتشف عنده ورم في المنطقة الجبهية من الدماغ.
كان المريض السيد (ايليوت) ذو وظيفة محترمة، في حياة زوجية رائعة، وفي علاقات ممتازة مع زملاءه وجيرانه، وباستشارة جراحي الأعصاب تم التداخل الجراحي، لاستئصال ورم سليم في الفص الجبهي الدماغي!!
تمت العملية بسلام ورجع المريض الى بيته معافاً... ولكن؟؟؟؟؟

تناقض الذكاء والتصرفات:
بعد العملية الجراحية بفترة قصيرة، بدأت شخصية السيد ايليوت بالتغير تدريجياً، كما هو الحال في حادثة عامل الطرق (فينياس جاج) الذي اخترق جمجمته قضيب الحديد (1) التي شابهت قصته قصة إيليوت!!
المريض ايليوت ولى ظهره لزملائه وعاف أقرباءه. خسر وظيفته. بدأ يدخل في مضاربات مالية خطيرة، أودت به الى حافة الإفلاس.
انهدمت عائلته وفارقته زوجته. لم يعد يستيقظ مبكراً، وتحول الى رجل بدون طموح. لم يعد يدقق في المواعيد والزمن وتحول الى كم فوضوي.
يقول الدكتور (داماسيو): الشيء الذي لفت نظري في هذا المريض وحرضني للبحث العلمي، هو أن ذكاءه لم يضطرب؛ فبقيت المحاكمة العقلية صافية دقيقة، لم تخنه ذاكرته.
كانت فحوصات الذكاء عنده (I Q) عادية، وتذكر الكلمات والأرقام على ما يرام. قدرة المحاكمة كما هي. بل حتى منظره الأنيق وروحه الفكاهية لم يخسرها. مع كل هذا فإن المريض (ايليوت) أصبح عاجزاً في أن يُتْرَكَ لوحده ليحل مشاكله اليومية منفرداً.
وكان السؤال ما الذي أوصل المريض الى حافة الانهيار هذه؟ وأي خلل ترتب بعد هذه العملية الجراحية، التي لم تستخرج فيها سوى ورماً حميداً تخلص منه المريض في الظاهر؟
ما هي نوعية الاتصالات العصبية التي تدمرت من جراح الاستئصال الجراحي؟
هذه الحادثة دفعت الدكتور (داماسيو) أن يكرس عشرين سنة من العمل الشاق في الأبحاث العصبية، قبل أن يتقدم ببعض النتائج المتماسكة في مؤتمر جمعية العلوم العصبية في سان دييغو.
ولكن قبل عرض نتائج الدكتور داماسيو عندنا رحلة مثيرة في دراسة الوعي عند الإنسان أماط العلم اللثام عن طرف منها.

عصر اكتشاف الذات:
اهتم الإنسان بشغف في اكتشاف العالم الخارجي ونسي نفسه، ربما بسبب الصعوبة النوعية، أو ربما لشدة قربها من الذات، فكيف تريد الذات دراسة نفسها بدون إطلالة خارجية، ولكن وعي الذات في الحقيقة هو أرفع أنواع الوعي.
هذه الحقيقة انتبه لها العلماء مما جعل الرئيس الأمريكي سيء الذكر بوش يعلن عن افتتاح (عَقْد) اكتشاف الدماغ الإنساني.
واليوم لا يسعى العلماء فقط لاكتشاف الكواركز في الذرة (2) ولا خفايا ميكانيكا الكم، أو ولادة النجوم في المجرات، بل يغطسون باتجاه العالم الداخلي، والنزول على سطح الكوكب الجديد: رأس الإنسان.
الأبحاث العصبية اليوم هي من أكثر الأبحاث إثارةً وسريةً بأعتى من الأبحاث النووية، وارتياد الفضاء، وسبر المحيطات، وفلق البروتون.

بين الفرينولوجيا وبيولوجيا الجزيئات:
وإذا كانت الإثارة العلمية التي أثارها مجموعة من العلماء في القرن التاسع عشر، عن زعم فهم الإنسان بمجرد تأمل وقياس القحف، والتي أخذت اسم الفرينولوجيا، فإن علماء (بيولوجيا الجزيئات ) يعلوهم هذا الشعور اليوم، ولكن الأيام تعلمنا كل يوم، أن كل النظريات التي تريد تطويق فهم الإنسان تتهاوى تحت قدميه.

تجربة القيصر فردريك الثاني في الامساك بالروح:
بل إن محاولة فهم الكيان المعنوي عند الإنسان قديمة قدم الإنسان مما ينقل لنا التاريخ بعض القصص المثيرة عن الملك فريدريك الثاني، الذي أغلق الحجرة تماماً على محكوم عليهم بالإعدام، ثم حاول بعد موت الضحية، أن يفتح بحذر وبطء كوةً في الجدار، ليرى ماذا يتسرب منها؟
هل ثمة آخر خاص غير البدن الذي عانق الموت.

تجربة عالم النفس مكدوجل بوزن الروح:
بل إن عالم النفس الأمريكي (دانكان مكدوجل)(DUNCAN MacDOUGALL) قام بتجربةٍ مثيرة أكثر، عندما راقب المحتضرين في سكرات الموت، فقام بحملهم الى موازين في غاية الدقة، تفرق بين الغرامات، فوصل الى نتيجة مفادها: أن الموتى الذين يودعون الى العالم الآخر، يخسرون من وزنهم في المتوسط بين 10 ـ 42 غراماً، دلالةً على أن شيئاً ما ولو بهذا القدر البسيط يودع الجسم.
فإذا علمنا علاقة الطاقة بالمادة من خلال معادلة آينشتاين، التي تقول بأن المادة والطاقة هما وجهان لحقيقة واحدة، وكانت الروح ثمة طاقة ما فإن الطاقة المتسربة رهيبة للغاية، لأن الطاقة هي تحول المادة مضروبة في سرعة الضوء المضاعفة، أي قوة تسعين مليار.
هذا إذا صدقت هذه المزاعم وصمدت للحقيقة، لأن مكدوجل أردف بأن وزن الكلاب لم يتغير في تجاربه، قبل وبعد الموت، ومزاعم مكدوجل حتى الآن لم تكذب تماماً (3).

ملاحظات طريفة حول عمل الوعي:
ومن النقاط التي أثيرت في المؤتمر هي آليات عمل الوعي وكيفية عمله؟ فلقد تم رصد مجموعة من الملاحظات الملفتة للنظر:
1ـ أولا: لقد لوحظ أولاً: أن إمكانية الاستيعاب في الوعي محدودة، فبإمكان الوعي أن يلتقط سبعة وحدات من المعلومات في الوقت الواحد لا تزيد.
2ـ ثانياً: يعمل الوعي ببطء شديد إذا قورن مع أجهزة الكمبيوتر، فلا يستطيع التمييز بين أكثر من أربعين حدثاً في الثانية الواحدة.
في حين أن أجهزة الكمبيوتر العادية تعمل بطاقة تزيد عن هذا بملايين المرات في كمية المعلومات، فالوعي مقارنة بالكمبيوتر يبدو جهازاً سخيفاً!! ولكن هل هو كذلك؟
3ـ ثالثاً: مع كل تركيز الوعي فإن الدماغ لا يشتغل بكل طاقته، بل يستخدم في المتوسط فقط واحد بالمائة من خلاياه العصبية...!! لماذا يا ترى؟!
4 ـ رابعاً: يعمل الوعي ببلادة وتراخي ملفت للنظر، فهو يعرج خلف الزمن لاهثاً متصبباً عرقاً بدون قدرة اللحاق به.
إنه خلف الزمن دوماً بحوالي ثلث الثانية. وهذا يدخلنا الى أبحاث عالم النفس الأمريكي (برايان تريسي) الذي لفت النظر الى كيفية عمل العقل الإنساني، في كتابه (أسس علم نفس النجاح)(4)

نظرية (براين تريسي) في كيفية عمل الدماغ:
يرى عالم النفس الأمريكي أن أفضل ما يكون عمل العقل عندما يكون مرتخياً؛ فالمسمار حتى تدخله الحائط، يجب أن تضربه بالمطرقة بقوة وتوجيه؛ حتى تقتحم بالمسمار صلابة الحائط، في حين أن الدماغ لا يعمل بنفس الطريقة؛ فعند الانفعال يهتز عمله، وخير الأوساط لعمل الدماغ الإنساني هي أن يعمل بهدوء وحب.
قشرة الدماغ تسيطر على العمليات العقلية، وتأخذ الوقود من الدماغ السفلي والمتوسط.
الدماغ السفلي هو دماغ التماسيح الرهيبة، لتأدية الأعمال التي تشبه في قساوتها سماكة جلد التماسيح.
والدماغ المتوسط مركز الزلازل والبراكين العاطفية، وهي مثل طاقة البخار؛ فيمكن إدخالها في مرجل العقل، كي تؤدي دورها على خير وجه. ولكن تسرب الطاقة من مفاصل ماكينة التفكير البارد التحليلي العقلاني يقود الى الانفجارات المروعة، وتأرجح عمل الماكينة العقلية إذا صح التعبير.
يضطرب الإنسان عندما ينفعل؛ فترتجف أصابعه، ويجف عرقه وينحبس بوله، ويرتفع الضغط عنده. يصاب بالإمساك، وتجف عصارة المعدة، وتبدأ بالتقرح، ويصب الأدرنالين في الدم صباً.....!!
كل هذا يتولد في جو الانفعال، والاهم من هذا هو اضطراب التفكير المتوازن، وهذا هو قسم من تفسير المنازعات الإنسانية، فالحرب جريمة وجنون وإفلاس أخلاقي، ولكن من يخوضها تعلق على صدره النياشين؟؟؟
ذلك أن مشاعر الخنازير والتماسيح وصراع الغابة يَمسح ودفعة واحدة؛ كل قشرة الدماغ وتطورها الذي استغرق نصف مليون سنة، لنرتد وننهار دفعةً واحدةً من الإنسانية الى قعر خندق الحيوانية البئيس.
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين.
يجب أن نضع أمام مكتبنا هذه الحكمة دوماً:
(يجب ضبط النفس في انفجار بركان الغضب، وعند اشتعال نار الانفعال، في كسرة الحزن، وانهيار الخوف، وعند كثافة ضباب الشهوة )).


اكتشاف عجيب: سحرية العدد سبعة!!
لقد استطاع العالم الأمريكي (جورج ميللر)(GEORGE MILLER) عام 1956م، أن يفك طلسماً آخر من كيفية عمل الدماغ والوعي الإنساني، إنه القانون السباعي؛ فطريقة فهم الإنسان تعتمد على نوع من النظم المعين السباعي: إذا بلغت الكلمة سبعة حروف التقطها الوعي برشاقة وساقها الى ساحات الإدراك؛ وعند تجاوزها فوق سبعة حروف اُضطر الى تهجيتها وتقسيمها من جديد؛ فالوعي يلتقط الكلمة كقطعة واحدة، تقذف في فرن الوعي لهضمها.
نفس الشيء ينطبق على فهم مجموعة أو حزمة الكلمات، حيث تقفز الى مستوى المغزى المحدد، في إطار السبع كلمات، فإذا تجاوز المعنى الكلمات السبع المثاني، اُضطر الفهم من جديد الى تقسيم الكلمات.
ويبدو أن كل اللغات الإنسانية المنطوقة تعتمد مثل هذه القاعدة السحرية السباعية، وتعرف بطريقة (شان كينج)(CHUNKING).
نفس الشيء ينطبق على المحادثات التلفونية في الأرقام (من هنا اعتمدت الأرقام التلفونية كسبعة أرقام كحد أقصى) ـ هي كذلك في المدن وفي الموبايل قفزت إلى عشرة ـ كذلك في اللغط وتمييز الأصوات من أي شخص تصدر؛ كلها يفككها ويتعامل معها الوعي بنفس الطريقة، وتحويلها الى أفكار أو صور ذهنية.

كوانتم الوعي (ميكانيكا الكم في إطار العمل العقلي):
هذه الظاهرة من محدودية الوعي بقيت الى فترة قريبة غير ملاحظة، بسبب التقلب الدائم بين حقول التأثير، بل حتى التدفق الدائم لتيار الوعي وانقلابه المستمر يمشي ببطء ملفت للنظر؛ فــ (نوافذ الوقت) إذا صح التعبير التي يعمل عليها الوعي تبلغ حوالي ثلاثين ميلي ثانية (أي ثلاثين جزءً من الألف من الثانية)، والوعي يتعامل مع وحدات الزمن بهذه القسمة، حيث تم التأكد من ذلك بتطبيقها على بشر متطوعين لمثل هذه التجارب؛ فــ (تكة الساعة) مثلاً يستطيع الوعي أن يفرق بينها وبين التي بعدها، حتى إذا انضغطت وحدة الزمن الى عشرين ميلي ثانية، أي إذا تسارعت حركة تتالي نظم الصوت، بين الصوت والذي بعده، بمعنى الفاصل بين الوحدتين، أمكن للدماغ استيعاب ما يأتيه، ويكلّ إذا تجاوز هذا المقدار.
ويقفز عمل الوعي الى ما يشبه قوانين الكوانتوم (ميكانيكا الكم) حيث يمكن للعقل الإنساني أن يستقبل العالم الخارجي، إذا تلقى وحدات الصوت هي موسيقى أو شعر، قصائد أو أهازيج، أفكار أو تجليات روحية؛ فيما إذا خضعت لقانون الثلاث ثواني.
فكما يقوم الكون كما فهمه العالم الألماني (ماكس بلانك) على الانفصال على صورة وحدات، كما في كومة حبات القمح؛ فعند النظر إليها تبدو كأنها كومة متصلة، فإذا اقترب الإنسان منها أدرك أنها مكونة من حبات منفصلة. هكذا أيضاً يتعامل الوعي. وإذا كان قانون الكم لماكس بلانك له وحدة رياضية؛ فقد تم كشفها الآن في مستوى الوعي، فوحدة الوعي 30 ميلي ثانية، والفرق بين النبضتين الصوتيتين 20 ميلي ثانية، ولكن وحدة الفهم يجب أن تكون في حدود ثلاث ثواني.
فإذا تجاوزت الجملة أو الحركة الصوتية هذه الحبسة الزمنية، اُضطر العقل من جديد الى تجزئتها وفق قانون الثواني الثلاث.

الوعي محبوس في زنزانة الماضي بدون أي أمل في النجاة:
ومن الأفكار التي جاءت في المؤتمر عن الوعي والتي هزت وعي الحاضرين، هي جدلية الوعي واللاوعي، وغطس المعلومات في اللاوعي قبل انبثاقه الى الوعي، فقد استطاع (بنيامين ليبيت)(BENJAMIN LIBET) الباحث في فسيولوجيا الأعصاب من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، من فتح عاصفة من الإثارة حول ظاهرة ما يعرف الآن بــ (فترة الحضانة) بين الفكر والعمل وبشكل معكوس.
وتم كل هذا من خلال تطوير تقنيات جديدة من ملامسة قشرة المخ مباشرة بواسطة مسابر خاصة، ودراسة الزمن بين التحريض أو تلقي التحريض، بمعنى البدء بإشارة التفكير، فالذي يقوم بالتجربة يبدأ الفعل ولكن الفعل لا يبدأ فوراً، بل يغطس في عالم آخر يُعالج فيه ويتفاعل قبل أن يطل برأسه في عالم الوعي ليلحق بالأمر، كما أن العكس صحيح فعندما تمس اليد لا نتلقى الأثر في الدماغ إلا بعد مرور أجزاء من الثانية، تتراوح بين ثلث ونصف ثانية.
هذه التجارب أثارت عاصفة فلسفية، فالإنسان يبدو وفق هذا المنظور خارج الزمن تماماً، ويعلق تشارلز فورست على ذلك بقوله:
(وقد يكون التأويل الممكن لهذا الاكتشاف هو أن العصبونات المسؤولة عن الإدراك الواعي تتواجد في مكان آخر غير قشرة الدماغ، وقد تعكس فترة الحضانة للتنبيه القشري في تجربة واعية التشارك بين الوعي والتعقيد العصبي الفيزيولوجي)(5)

تسخير علم النفس للدعاية (تمرير المعلومات مباشرة الى اللاوعي):
وتبرز هنا حكمة ملفتة للنظر في جدلية العلم والضمير مما جعلت الفيلسوف الألماني (ايمانويل كانط) أن يطلب من تلاميذه أن ينقشوا على قبره من بعده هذه العبارة: شيئان يملآن صدري بالإعجاب: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في صدري)؛ فــ (كوانتم الوعي) تم استخدامه في التلاعب بعقول الناس، كما هو الحال في الديمقراطية الغربية، التي يمكن وصفها بأنها أقل الأشياء سوءً في العالم، فظاهرة التمثيل النيابي تخضع لجبروت المؤسسات المالية، مما لا تجعل التمثيل صحيحاً تماماً.
وبالطبع لا يمكن مقارنة هذا بأوضاع دول شتى من العالم التي لا تعرف نظام نقل السلطة السلمي بالكامل ولم تسمع به..
أما في الجملوكيات العربية من سوريا لتونس والجزائر؛ فهي مسيرة من الباب للمحراب بقوة الطبنجة والغدارة وشوارب المخابرات!!
أما الملكيات بدون انتخابات؛ فهي أقرب لصدق الواقع الميت؛ فهي تعيش كالسلاحف منبطحة أيام المملوك الشارد كما رواها جرجي زيدان!!
ولعل أجمل ما في الديمقراطية هي هشاشتها وإمكانية نقدها من داخلها، كما فعل نعوم تشومسكي في كتابه المزلزل (ردع الديمقراطية).
كذلك حصل مع نظرية الكوانتوم في الوعي، فيمكن استيعاب ما يمر في التلفزيون أثناء تمرير كمية من المعلومات السياسية أو التجارية بالسرعة المألوفة، ولكن حين يتم التحكم بالسرعة بحيث تراهن على بطء (الوعي) في الاستيعاب؛ فإن هذه المعلومات ترى بالعين وتسمع بالأذن، ولكنها عملياً لا ترى ولا تسمع، ذلك أنها تسربت عبر منافذ اللاوعي، ويبقى الإنسان يتذكرها وكأنه رآها فعلاً، بسبب تدفقها المباشر الى مخزن اللاوعي في الذاكرة، وهكذا يمكن التلاعب بالإنسان من خلال تسخير العلم؟!
ولقد تم الكشف عن هذه الحيل وفاحت رائحتها آلية السطح، ولكن يا ترى كم من هذه الحيل العلمية تستخدم اليوم للتلاعب بالإنسان تحت اسم العلم والتقدم؟!
وما يقرب من هذا الطب السري الذي يحقن في عروق شخصيات وملوك وقادة العالم المرضى الأشباح، بحيث يحافظون عليهم جثثا ميتة وغير ميتة، كما في جثة سليمان، فيتحكمون بالوسط من حولهم ويلعبون بمصائر الأمم، على تعبير رجل المخابرات الأمريكي في كتابه المشهور (لعبة الأمم).. فما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبين الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين!!

بنتاجون (خماسي) الأخلاق عند داماسيو:
انطلق داماسيو من محاولة الوصول الى منابع المشاعر الأساسية؛ فاعتبر أن هناك خمسة مشاعر تشكل حزمة وجودنا العاطفي بالكامل، فكما كانت الألوان الأساسية الثلاثة: الأزرق والأحمر والأصفر، هي التي تكون بقية الألوان، كذلك فإن تحليل أي موقف عاطفي يرجع الى طيفٍ من ألوان شتى من المشاعر، ولكن قاعدتها هي مزيج معقد من خمسةٍ من المشاعر القاعدية، فإما الحزمة الخماسية للمشاعر فهي:
السرور، والحزن، الغضب والخوف، والاشمئزاز...
هذه واحدة ومضى داماسيو في تدعيم نظريته الى أن الجسم والدماغ هما في حوار ودي لا يعرف التوقف والانقطاع، آناء الليل وأطراف النهار؛ في تسبيحة متواصلة، ليصل في النهاية الى تعليل ما أصاب مريضه ايليوت.
إن الذي حدث هو انقطاع (كابل) التواصل العاطفي العقلي، فكما كان للماكينة (جير) التعشيق مع عمود الحركة، كذلك لعب الفص الجبهي في الدماغ هذا الدور، في جدلية المشاعر والتفكير المنظم التحليلي.
إن داماسيو بهذا الطرح يزعم أنه وصل الى تحديد الوعي وآلية عمله عند الإنسان، لذلك فهو يرى أن طرح ديكارت في مقولته المشهورة (أنا أفكر أنا موجود) هو خاطئ.
داماسيو بهذا الطرح يضع يده على مفاتيح جديدة في فهم آلية عمل الوعي والدماغ.
بين ديكارت وداماسيو: أنا أفكر.. أنا موجود؟! أنا موجود أنا أفكر:
في إحدى التجليات الروحية كاد دماغ ديكارت أن يحترق وهو يتعذب في ظلمات الشك الحالكة.
وهو يقول كما قال الغزالي سابقاً:
ليس هناك من شيء يمكن أن يستقر أو يقف على قدميه. لأنني أشك في كل شيء. لم يعد هناك شيء لم أعد أشك به، فكل ما تعلمناه بني على التقليد لا أكثر.
ثم أنقدح نور في هذا الظلام، بدأ يكبر وينير رحلة العقل المضنية، وشعر ديكارت بالتماسك بعد هذا الدوار العقلي. نعم إنني أشك في كل شيء، ولكن هناك شيء لا أشك فيه وهو أنني أشك؟!
فإنا إذاً أفكر لأن الشك تفكير، وإذا كنت أفكر فهناك حقيقة موجودة ولاشك، وهي حقيقة عقلية بالدرجة الأولى، فأنا موجود على صورة من الصور.... أنا أفكر.. إذاً أنا موجود...
هذه هي الحقيقة الديكارتية، التي كانت إحدى مصابيح التنوير في النهضة الأوربية، وكانت قبساً من وهج عقلية الغزالي، الذي سار بنفس الخطوات، ولكن نهاية ديكارت كانت نهضة عقلية، في حين أن نهاية الغزالي كانت انتحاراً صوفياً على ضرب صنج الحضرة.
وعندما يدخل الإنسان تلك النشوة الروحية ويتم اغتيال عقله بالكامل، ومصادرة كل إمكانية تفكير، تحت ثلاث شعارات: من قال لشيخه لا.. لم يفلح؟!! والمريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين... والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل؟!
يزعم داماسيو إن ديكارت يجب أن يقلب الآن رأساً على عقب، لأن مركز الوعي هو في تلك الجدلية التي يبدأ الدماغ رحلتها، فمع (وجود الدماغ) أمكن للروح أن تتنفس، فالبدن هو تجلي الروح وتعبيرها وطريقة تنفسها في جدلية وضفيرة لا تقبل الانفصام.
أراد داماسيو أن يكتب في الأول كتاباً بعنوان خطأ ديكارت، ولكنه بعد مؤتمر سان دييغو بدله الى عنوان:
ديكارت مقلوباً.. أنا موجود... أنا أفكر؟!


مراجع وهوامش:
(1) تراجع مقالتي رقم 96 التي نشرت في جريدة الرياض ـ العدد 10251 تاريخ 18يوليو 1996 م الموافق 3 ربيع أول 1417 ه (2) يعتبر الكواركز حتى الآن من أصغر الجزيئات دون الذرية فالذرة تتكون من نواة فيها بروتون ذو شحنة إيجابية وإلكترون سابح حوله بشحنة سلبية، ونعرف اليوم أن نفس البروتون مكون من ثلاثة من الكواركز ولكن هل هذه نهاية الرحلة؟ أم أنها بدون نهاية باتجاه العالم الأصغر، وهي كذلك بدون نهاية باتجاه العالم الأكبر عالم المجرات، أي أننا مطوقين باللانهايتين من فوق ومن تحت؟! (3) وردت هذه الأخبار في مجلة الشبيجل الألمانية عدد 16 عام 1996 م ص 192 (4) كتاب ( أسس علم نفس النجاح ) براين تريسي ـ ترجمة الدكتور عبد اللطيف خياط وهو كتاب صغير ولكنه في غاية الدسامة في علم النفس مثل كتاب (علم النفس والأخلاق) لهادفيلد الذي كُتب قبل أكثر من نصف قرن ولكن فيه كمٌ ضخم من العلم النفسي الذي مازال يتمتع بصلابة حتى اليوم (5) الدماغ والفكر ـ تشارلز فورست ـ ترجمة محمود سيد رصاص ـ مطبعة الصباح ـ دمشق ـ ص 232.