ثارت ثائرة بعض اللبنانيين اعتراضاً على زيارة الرئيس سليمان إلى الولايات المتحدة الأميركية. بعض الشخصيات السياسية اللبنانية اخذت على الرئيس اللبناني اصراره على إتمام الزيارة وإنجاحها رغم السلوك الأميركي حيال لبنان في السنوات الأخيرة. هذا السلوك قد يقال فيه الكثير مدحاً وذماً، إنما الاهم من هذا كله ان ابواب واشنطن ما زالت مفتوحة أمام لبنان.
المعترضون على الزيارة رأوا ان السياسة الاميركية اليوم لا تحفل بما يجري في لبنان، وهي قطعاً لم تعقد العزم على مساعدته لتجاوز أزماته المزمنة. ويحسب هؤلاء المعترضين ان الزيارة لا معنى لها في ظل ادارة ظهر أميركية لما يجري في لبنان. لكنهم في الوقت نفسه، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا ما أبدت الإدارة الأميركية اي اهتمام بالشأن اللبناني. والحال ثمة تناقض صارخ في المنطق قد يعجز عن فهمه من يراقب الوضع اللبناني من بعيد.
الأرجح ان المطالبة السياسية اللبنانية لسليمان بالعدول عن الزيارة، ثم بخفض سقف التوقعات منها، تتصل اتصالاً واضحاً بتاريخ العلاقة اللبنانية - السورية. وحيث ان البلد برمته اصبح على ابواب زيارة دمشق، فليس خافياً ان ثمة من يرغب ان تعود الحياة السياسية اللبنانية إلى سابق عهدها من النشاط الاحادي الذي كان سائداً في زمن الهيمنة السورية على لبنان. ذلك ان مطلب هذه القوى يتلخص في ان تقعد الرئاسة اللبنانية وتالياً السلطة التنفيذية اللبنانية عن اي نشاط يتعلق بالسياسات الخارجية للبنان، وان تلزّم الشؤون الدبلوماسية كلها، جملة ومفرقاً، للقادة السوريين. ومع ان الرئيس سليمان نسق برنامج زيارته مع الإدارة السورية ولم يتجاوز في مواقفه ما أجمع عليه اللبنانيون، إلا أن الاصوات المعترضة لم تتوقف عن الاعتراض.
في المنطق، ليس ثمة عاقل يمكن ان يعترض على توسيع علاقات لبنان الخارجية وتمتينها، وفي المبدأ ايضاً ليس هناك من سبب يمنع لبنان من تمتين صلاته الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأميركية، والحق ان هذا مطلب ملح لدى دول العالم كله، ذلك أن الولايات المتحدة الاميركية ليست أكبر دولة في العالم فحسب، بل ايضاً هي الدولة التي تدير دفة الاقتصاد العالمي من دون منازع. وبصرف النظر عن الأحاديث الصينية واليابانية التي تحفل بها خطب المعترضين، إلا ان الثابت ان الولايات المتحدة هي القاطرة الحقيقية للاقتصاد العالمي، وتالياً فإن اي اقتصاد محلي، أكان نامياً ام مزدهراً يحتاج إلى ترتيب علاقاته مع الولايات المتحدة لدوام ازدهاره او نموه إذا لم يكن مزدهراً.
لا نحسب ان برنامج الزيارة اقتصادي اصلاً، والأرجح ان الولايات المتحدة اخذت تتصرف منذ تسلم اوباما مقاليد السلطة فيها بوصف لبنان مجرد لقمة إقليمية تتخاصم القوى الإقليمية على بلعها. ولم يعد ثمة حرص اميركي على استقلال لبنان وسيادته وسلامة أراضيه. وهو الحرص الذي لطالما كان مشكواً من مفاعيله في لبنان، خصوصاً لدى اهل المعارضة السابقة التي تربطها بالنظام السوري اوثق الصلات.
زيارة الرئيس سليمان إلى واشنطن، ستكون ناجحة لبنانياً، ذلك ان المطلب اللبناني من هذه الزيارة هو صرف النظر الأميركي عن مسارات تنفيذ القرار الدولي 1559، وتخفيف الضغوط الرامية لنزع سلاح حزب الله. والحق ان الإدارة الأميركية لا ترى مانعاً من تحقيق المطالب اللبنانية هذه، ذلك ان موضوع لبنان برمته لم يعد موضوعاً حاراً ومهماً. بل ان لبنان بسلاح حزب الله والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات، بات بلداً هامشياً في تقرير مصائر المنطقة وإعادة رسم الخرائط الجارية فيها. والحال، فإن من يركز سياساته الخارحية على معالجة الملف النووي الإيراني وعلى ربح الحرب في افغانستان والعراق، لن يرى في الشأن اللبناني إلا حادثاً عابراً لا يستحق بذل الجهد لأجل إصلاح شؤونه.
قد يثلج هذا العزوف الأميركي صدور المعترضين على الزيارة، وقد ينزل برداً وسلاماً على معارضي الإمبريالية الأميركية في المنطقة. لكن الثابت ان هذا العزوف يدل دلالة عميقة على ان البلد بات بلداً ناقصاً، ولن يحوز اكتماله بالاستقلال عن أميركا ومشاريعها. ذلك ان ما يهدد استقلال البلد اليوم اكثر من اي وقت مضى، ليس التدخل الاميركي في شؤونه بل التدخلات الإقليمية من دون شك.
يدور لبنان اليوم في دوامة متعددة الأضلاع تبدأ من عودة مظفرة للفكرة العثمانية مروراً بمشروع تصدير الثورة الإيرانية، وبقايا الأحلام الوحدوية وصولاً إلى المشروع الإسرائيلي الامبراطوري. وهو في هذا كله، بلد مهدد بوجوده اصلاً. وليس ثمة في الزيارة الرئاسية إلى أميركا ما يجعل هذا التهديد اقل خطورة. إنه لبنان، يجدر بنا ان نفكر إن كان اهله يفضلون استقلاله على تبعيته، ويفضلون سيادة دولته على كامل اراضيها على عودة الاحتلال.