قال الرئيس الأميركي عند تسلم جائزة نوبل للسلام في 10 ديسمبر الجاري، وهو يشير للحرب في أفغانستان، إن استخدام القوة له أحيانا ما يبرره، خصوصا لأسباب إنسانية. أرجو التركيز على حجته quot;لأسباب إنسانيةquot;، وهي حجة مبررة تماما.
لقد سبق وأن تطرقنا في مقالاتنا خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية إلى مواقف كل من المرشحين من التدخل بالقوة لأسباب إنسانية، مستندين لتقرير واسع للنيويورك تايمس، نشر في 23 أكتوبر من عام 2008، والصحيفة كانت، ولا تزال، من مؤيدي أوباما وخصوم الجمهوريين. ووفقا للتقرير الضافي، فإن أوباما كان قبيل، وفي الأيام الأولى لحملته، يبرر تدخل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لإنقاذ شعوب معرضة لمخاطر الإبادة العرقية والدينية وضحية الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان. وكان في الأسابيع الأولى للحملة يشير عدة مرات لمآسي دارفور، ويأسف لفشل أميركا في منع الإبادة الجماعية هناك، ملمحا لبوش الابن. غير أن مستشاري أوباما المرشح تملصوا من سؤال الصحافة عما إذا كان أوباما يبرر التدخل المسلح في دارفور. وبالمناسبة، فإن بيل كلينتون أشاد بجورج بوش في موضوع دارفور في مناظرة ودية فريدة بين الرئيسين السابقين جرت قبل شهور في كندا، ولكن بوش أبدى ألمه لعدم تمكنه من فعل أكثر مما كان بسبب مواقف الدول الأخرى. واليوم؟ أين دارفور من السياسة الأميركية الجديدة؟ صحيح، لقد جددت العقوبات الأميركية ولكن بعد شهور من الحوار مع نظام البشير والصمت عن دارفور وتجنب استعمال كلمة quot;إبادة جماعيةquot;، فيما تراجعت قضية إدانة البشير دوليا بقرار النائب العام في المحكمة الجنائية الدولية، وتكاد تصبح في خبر كان. وهذا أيضا ما يحدث مع محكمة الحريري، حيث انتصر حزب الله وسوريا وإيران في هندسة السياسة والوضع اللبنانيين الجديدين بعد شهور متواصلة من الأزمة الحكومية بعد الانتخابات.
قرار أوباما بإرسال قوات إضافية لأفغانستان كان صحيحا ومطلوبا، رغم أن العدد كان أقل مما طلبت القيادة العسكرية الميدانية، ورغم أن أوباما أعلن عن جدول زمني للانسحاب، وهو مما يمكن أن يشجع القاعدة وطالبان. ونضيف أن قضية أفغانستان ليست قضية حسم عسكري وحسب، رغم أنه الأهم، بل هي أيضا قضية مكافحة التخلف والفساد المستشري، ورفع مستوى المواطنين المعيشية والتعليمية، ورفض دعوات الحوار مع طالبان.
أوباما كان صوتا يكاد يكون منفردا في الكونغرس في معارضة حرب العراق. حتى بايدن كان من بين أكثر المؤيدين والمتحمسين، ولا يزال أوباما على موقفه مدعوما، هذه المرة، من الحزب الديمقراطي نفسه الذي كان قد أيد قرار الحرب، فضلا عن مواصلة اليسار الغربي في إدانة تلك الحرب، في اتفاق موضوعي مع معظم النخب العربية والإسلامية، التي ترى في تلك الحرب أكبر خطايا بوش، ويستحق بسببها اللعنات وأشنع الأوصاف. وإن قضية تحرير العراق من نظام صدام هي محور الحملات المستمرة على بوش الابن، ووصفه بالانفرادي وداعية حرب والوحش، ألخ.. ألخ..
ولكن: أين اختفت دعوة أوباما للتدخل الدولي لأسباب quot;إنسانيةquot; في موضوع العراق؟؟!! فنظام صدام أقام المقابر الجماعية، واستعمل الكيميائي ضد الشعب، ومارس سياسات التمييز المذهبي والعرقي، وكان يستخدم أبشع الأساليب الفاشية في المعتقلات والسجون ضد المعارضين، ولحد الموت تحت التعذيب. ونظام صدام كان، في الوقت نفسه، يشكل خطرا في المنطقة بدليل غزو الكويت ونهبه على أوسع نطاق. إن حلف الأطلسي تدخل في البوسنة وكوسوفو لأسباب إنسانية، دون أن تكون هناك قضية أسلحة محظورة، وإن ما عاناه شعب العراق خلال رئاسة صدام كان أبشع وأوسع نطاقا في الظلم والعنف والتمييز ضد المواطنين. فلماذا إذن إدانة حرب العراق؟ يقال، لأن أميركا انفردت بالقرار. ولكن، هل كان الحصول على قرار جماعي من الدول الكبرى في مجلس الأمن ممكنا، وإن بوش استعجل، كما يدعي اليوم، مثلا، حتى السفير البريطاني السابق في الأمم المتحدة؟ لا نعتقد أنه كان ممكنا الحصول على قرار دولي بتوجيه إنذار رسمي لصدام بالانسحاب من السلطة وإلا فهو التدخل بالقوة لإزاحة نظامه. كان ذلك مستحيلا بسبب المواقف الانتهازية لفرنسا وروسيا وألمانيا والصين، التي انحازت لمصالحها النفطية والتجارية وتركت الشعب العراقي يعاني لوحده.
إن توني بلير، الذي يطاردونه اليوم بالمحاسبة، يبرر مشاركة بريطانيا في الحرب على الحيثيات التي مرت، وهو المحق تماما، بالعكس من خصومه ومن جميع منتقدي الحرب في كل مكان، ومنهم الرئيس الأميركي.
أما عن موضوع الأسلحة، فقد كتبنا عن ذلك مرارا قبيل سقوط النظام البعثي وبعده، ومن ذلك مثلا مقالنا في 8 مارس 2003، أي قبيل سقوط صدام، وكان بعنوان quot;بليكس وتهافت تقريرهquot;- علما بأن بليكس يعود اليوم لمهاجمة حرب العراق وجورج بوش.
في مقالنا ذاك أشرنا إلى مقال لنا قبله في إيلاف أيضا، ورد فيه:
quot; لا أعتقد أنه- [ بليكس] - يجهل محتوى ونصوص القرارات الدولية حول التسلح العراقي، ولا يعقل أنه نسي بسهولة كونه ومجلس الأمن قد وجها مع صدور القرار 1441 سلسلة أسئلة محددة وملموسة للنظام العراقي حول كميات كبيرة من أسلحة الدمار الشامل التي كانت بحوزته حين طرد المفتشين الدوليين عام 1998. وبدلا من الإجابة على الأسئلة، وتقديم البراهين على إتلاف نلك الأسلحة، أو كشفها للمفتشين حالا لغرض إتلافها، فإنه أرسل مذكرة طويلة تعيد معلومات مكررة قالها منذ سنوات عديدة، ولكنها تتجاهل تماما التطرق لما كان مطلوبا منهquot;، وquot; .... والسيد بليكس، ومعه حكومات فرنسا وروسيا وشلة آخرين، يقلبون محتوى القرار من إتلاف أسلحة إلى جولات نزهة للمفتشين في بلد واسع المساحة كالعراق.. إن الغرض هو الالتفاف على القرارات الدولية لإنقاذ النظام مرة أخرى.quot;
وقد أشرنا في المقال، مستدركين، إلى أن جولات مفتشي بليكس كشفت بعد 4 شهور من مقالنا الأول المار ذكره عددا من الصواريخ وكمية متواضعة من الأسلحة الجرثومية، التي كان مجلس الأمن قد طلب من النظام العراقي السابق إيضاحات عنها، فأنكر وجودها أصلا حتى اللحظات الأخيرة، وبذلك منح بليكس حجة لكي يتحدث عن quot; العراق المتعاونquot;. والواقع، أن مجرد إنكار نظام صدام على مدى شهور من بعد القرار 1441 لوجود أسلحة محظورة، ثم كشف بعضها فقط بعد شهور، هو دليل الكذب والتلاعب والمناورة لتضييع الوقت- وما أشبه اللعب الإيراني اليوم بمناورات صدام بالأمس.
أخيرا، نكرر ما قلناه في مقالات سابقة من أن الدبلوماسية الأميركية قد أخطأت منذ البداية حين وافقت على قرارات عقوبات وفق البند السابع يركز على موضوع السلاح وحده ويتجاهل حقوق الإنسان وعمليات الإبادة في العراق- أي إهمال المجتمع الدولي للجانب الإنساني في التعامل مع النظام السابق. وهذه الثغرة هي التي أعطت السلاح للمنددين بالحرب من كل الأصناف والاتجاهات والبلدان. فلماذا كانت حرب البوسنة وكوسوفو مشروعة، وحرب إسقاط نظام الإرهاب الدموي في العراق غير مشروعة؟؟!! علما، بان ذلك النظام هو سبب الحرب لتحديه حتى اللحظات الأخيرة للمجتمع الدولي.
إن مفهوم quot;الحرب العادلةquot; قد يبدو نقيض واقع ما تسببه كل حرب من مآسي كوارث بشرية ومادية، ومن آلام وأنهار دماء. فكيف تكون حرب ما عادلة مع عواقب كهذه؟! والجواب هو أنها الحرب التي لابد منها لإنقاذ البشر من مآس أكبر وتجنب تكرار المآسي المماثلة. إنها كالطب الذي يلجأ لعملية جراحية خطيرة جدا لإنقاذ المريض من آلامه المبرحة، و quot;آخر الدواء الكيquot;.
لم يشك أحد في الغرب في مشروعية حرب الحلفاء على العدوان النازي والفاشي لدول المحور، ردا على عدوان تلك الدول المتكرر على الشعوب وقضم أراضيها، و عمليات الإبادة ضد الشعوب. توهم تشمبرلن أن تنازلاته لهتلر في ميونيخ سوف تجنب الحرب، وعاد إلى بلاده كبطل للسلام أمام الرأي العام البريطاني والغربي. أما ما حدث، فهو أن تنازلاته قد شجعت هتلر على المزيد من العدوان وعمليات الاستباحة، فجاء تشرشل لإنقاذ الموقف. كما لا يشك أحد في مشروعية حروب التحرير الوطنية حين لا يكون مفرا منها وتفشل أساليب النضال السلمي أو المفاوضات. وبالعكس، لابد من الترحيب بالمقاومة السلمية لشعب ما تحت الاحتلال عندما يمكن حل القضية سلميا وبالتفاوض، كما فعل السادات، ومن قبله، غاندي بطل اللاعنف. والتجربة الهندية،[ التي لا يشير لها أوباما بالمرة رغم إشاراته الدائمة لتجربة الأفارقة الأميركيين]، هي أكبر تجربة تحرر شعب من الاستعمار بالنضال السلمي، [اللاعنف]. أي إن كل قضية تدرس على حدة وبظروفها وبموازين قواها. وإذا كان أوباما محقا في التأكيد على عدم جدوى الحوار مع القاعدة، فعليه أن يدرك أخيرا أن الحوار مع النظام الإيراني هو في الطريق المسدود، خصوصا بعد انكشاف محاولات إيران لصنع مكون لتفجير القنابل النووية، بعد أن رفضت اتفاق جنيف، [ الإشارة هنا هي إلى الوثائق التي نشرت مؤخرا في صحيفة التايمس اللندنية].
الخلاصة: إن أوباما محق في موضوع أفغانستان ولكنه على خطأ في موضوع العراق، وإن توني بلير محق في الحالتين.