من مفكرة سفير عربي في اليابان

لفت نظري وأنا أزور بحيرة هاكونيه في ضواحي العاصمة طوكيو، الفيلات الجميلة التي تحيط بهذه البحيرة والتي تمتلكها سفارات الدول الأوربية، للاصطياف لدبلوماسيها ومنذ عقود طويلة. فكان الدبلوماسيين يقضون إجازة الصيف، في القرن التاسع عشر، حول هذه البحيرة، بسبب طول مدة السفر لبلدانهم، التي كانت تستغرق شهور عديدة. فقد كان الدبلوماسيين الوسيلة الرئيسية لنقل الأخبار لحكوماتهم، والتواصل مع حكومات الدول الأخرى. ومع تطور تكنولوجية المواصلات والاتصالات، أصبحت عملية التواصل سلسة وسهلة، فاليوم تنتشر الأخبار عبر الوسائل الإعلامية لمختلف أرجاء العالم وبسرعة متناهية، ويتم التواصل مباشرة بين أية حكومة وأخرى. والسؤال: هل ستقلل تكنولوجيات الألفية الثالثة الحروب في قريتنا الكونية الصغيرة؟ وهل ستؤدي الإبداعات التكنولوجية لبروز دبلوماسية اقتصادية جديدة؟
لقد فرحت الدبلوماسية اليابانية، في الصيف الماضي، حينما سمت الصحافة البروفيسور جوزيف ناي، أستاذ السياسة الدولية بجامعة هارفارد، السفير الأمريكي القادم لليابان، واستغربت حينما عين الرئيس أوباما، جون روس، محامي الشركات التكنولوجية في السليكون فالي. ومن المعروف بأن اليابان ثاني قوة اقتصادية في العالم، واعتبرتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية الدرع الحصين ضد الشيوعية، لذلك كانت تختار خيرة سفرائها لليابان، والذي يكون عادة صديق قريب من الرئيس الأمريكي.
وقد بدأت تتضح الصورة بعد مرور عدة شهور من تعين السفير روس، فيبدو بأن الرئيس أوباما أستوعب التحديات الجديدة للدبلوماسية، لذلك حاول تحويل مسئوليتها لتحقيق أولوياته الاقتصادية، في خطة لتطوير التكنولوجية الصناعية الأمريكية بالتعاون مع اليابان. فقد طورت اليابان، خلال العقود الخمسة الماضية، تكنولوجيتها في كفاءة استهلاك الطاقة واستخدام الطاقة البديلة، لخفض نسب التلوث بثاني أكسيد الكربون. وتعاني الشركات اليابانية الصغيرة والمتوسطة، والتي تزيد عن الخمسة مليون، من قلة توفر السيولة المالية لتسويق تكنولوجياتها الجديدة. وقد توجه الرئيس أوباما للاستفادة من الإبداعات التكنولوجية لهذه الشركات اليابانية، بتطوير تعاون أمريكي ياباني لخلق ثورة تكنولوجية في الطاقة البديلة، لبدأ صناعة عالمية توازي ثورة الإنترنت، ليقلل الاعتماد على النفط في بلاده، ولإيجاد فرص عمل جديدة لمواطنيه، ولانقاد الاقتصاد الأمريكي من إخفاقاته.
وقد اختار الرئيس أوباما السفير روس، لخبرته الطويلة كرئيس تنفيذي لشركة ويلسون سونسيني جودريش روزاتي، المتخصصة في تقديم خدمات قانونية للتكنولوجيا والعلوم الطبيعية وخاصة لشركاتها المبتدئة، والسوق المالية الممولة لها. وترجع جذور هذه الشركة لمنطقة السيليكون فالي، ومنذ عام 1961، وقد لعب جون روس دورا هاما في قيادة الشركة خلال موجات الإبداع في ثورات تطور البرامج التشغيلية للكومبيوتر والاتصالات، وحتى عصر الانترنت وتطور التكنولوجية البيولوجية، كما أبدت مؤخرا اهتمامها بالتكنولوجية النظيفة وطاقتها المتجددة. فقد مثل جون روس الكثير من الشركات التكنولوجية خلال اندماجها مع شركات أخرى أو في تحالفاتها الإستراتيجية، أو في تأسيس شركات تكنولوجية جديدة وتوفير الأموال لتطويرها. وقد درس السفير روس القانون بجامعة ستانفورد، ويعتبر من خيرة محامي الولايات المتحدة، وهو صديق قريب للرئيس أوباما، وساعد في جمع تبرعات لحملته الانتخابية.
لقد لفت السفير جون روس نظر الصحافة اليابانية في مؤتمر التجارة الحرة الذي عقد في طوكيو في شهر نوفمبر الماضي، فعلق الصحفي ماريكو كاتو، بصحيفة اليابان تايمز في مقال بعنوان، التجارة الحرة تفتقد الدعم الجاد، يقول: quot;أكد خبراء التجارة الحرة في مؤتمرهم بطوكيو بأن على اليابان أن تزيد من تشجيعها للتجارة الحرة لتلعب دورها الهام في عالم العولمة الجديد، والتي سيقودها مبدعين العمل الحر من كل مكان. وقد برز السفير جون روس بخطابه كمتحدث رئيسي في هذا المؤتمر حينما طالب بتشجيع الشباب الياباني للمخاطرة في الأعمال الحرة للاستفادة من أفكارهم المبدعة لإنشاء شركات تكنولوجية جديدة.quot;
وقد علق السفير روس في خطابه في المؤتمر بقوله: quot;والتحول المهم أن تحتضن اليابان المخاطرة، فاليابان والولايات المتحدة هم أكثر الدول إبداعا، وعليهم قيادة العالم لمعالجة التحديات العالمية والتي من أهمها التغيرات المناخية. فمن واجب المؤسسات الأكاديمية والشركات اليابانية للترويج للعمل الحر، وتشجيع الموظفين الشباب لبدء إنشاء شركاتهم وتجارتهم الخاصة. ومن أولويات واجبات عملي كسفير، هو الترويج للعمل الحر لتطوير تكنولوجيات جديدة للتعامل مع التغيرات المناخية، والتي ستربح الاقتصاد الياباني بشكل كبير. ويجب من الآن ألا تضيع أية فكرة مبدعة. وفي الواقع هناك عادة أفكار مبدعة كثيرة يطرحها العاملين، ولا تتماشى مع الخطة الإستراتيجية لشراكتهم الكبيرة، ولكن يجب أن لا تموت هذه الفكرة في الشركة، بل يجب أن تكون هذه الفكرة المبدعة بداية لإنشاء شركة تكنولوجية جديدة.quot;
وقد ألقى المشاركون في المؤتمر الضوء على البيئة اليابانية للأعمال الحرة المبدعة، والتي ناقشها السفير روس، فعلق رئيس شركة سن ساند الهندية، سانجيف سنا، بقوله: quot;أن البنية الاقتصادية والأنظمة التي طورتها اليابان خلال العقود الخمسة الماضية، والتي كانت سببا لقوتها، قد أصبحت اليوم معيقة لتقدم تجارتها الحرة. فقد حولت هذه البيئة الفشل في العمل الحر لوصمة عار، وبذلك عرقلت الإبداع والمخاطرة التجارية، والتي أدت لانخفاض إنشاء شركات تكنولوجية جديدة تستثمر في الإبداعات التكنولوجية للشباب بسبب الخوف من المخاطرة التجارية.quot; كما علق وزير سياسات العلوم والتكنولوجية الياباني في المؤتمر بقوله: quot;ليس في اليابان بيئة مناسبة للشركات المبتدئة والمغامرة بإبداعاتها التكنولوجية. ولكي تخفض اليابان التلوث البيئي في نسب ثاني أوكسيد الكربون إلى 25% خلال الفترة من عام 1990 وحتى 2020، ستحتاج لإبداعات تجارية كبيرة في الطاقة النظيفة وتكنولوجيتها.quot;
ويعتقد الرئيس التنفيذي لشركة فيوشن سيستمس، مايك ألفنت، والمقيم في اليابان منذ 20 عاما، ونائب رئيس غرفة التجارة الأمريكية في اليابان، بأن اليابانيون يركزون كثيرا على المخاطر ويتجنبونها. كما عبر عن استيائه من الرعب الذي يعاني منه، حينما يلاحظ نقص الطموح بين طلابه في الجامعات اليابانية بقوله: quot;وأكبر صدمة لي حينما أسأل الطلبة عن رغباتهم بعد حصولهم على شهادة الماجستير في التجارة والإدارة. فيكون جوابهم عادة بأنهم يرغبون العمل بشركة تيوتا للسيارات، وقد يكون ذلك طموح جيد، ولكن يفقد معناه، حينما يكون 95% من طلبة الصف يحلمون بذلك. فيجب على اليابان أن تعلم الشباب التعرف على حقيقة الخطر، وإمكانية الاستفادة من المخاطرة في تسويق إبداعاتهم التكنولوجية.quot; فبدون تفهم الطلبة الأمريكيين المخاطر، ومجازفتهم في مخاطر التجارة الحرة، لما استطاعوا إنشاء شركات عملاقة كشركة ميكروسوفت وغوغل، والتي تخدم مئات الملايين من شعوب العالم بتكنولوجيتها، وتوفر الملايين من الوظائف.
تلاحظ عزيزي القارئ كيف تحاول الإدارة الأمريكية الاستفادة من الدبلوماسية للتعرف على الأفكار المبدعة في الدول التكنولوجية المضيفة، وتحويلها لاختراعات يمكن تسويقها من خلال تشجيع الشباب على المخاطرة في العمل الحر، لينشئوا شركاتهم الخاصة، وينتجوا تكنولوجيات تعالج التحديات التي تعاني منها دول العالم، كالتحديات التغيرات المناخية، وتفتح أفاق لصناعات جديدة توفر فرص عمل إضافية، وتؤدي للتنمية الاقتصادية المشتركة للبلدين. والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد دول الشرق الأوسط من هذه التجربة لتوجيه دبلوماسيتها لتطوير قاعدتها التكنولوجية الصناعية، لتحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان