-1-
كارثة إنسانية فظيعة، يعيشها أهل قطاع غزة، وهم بلا مأوى. وتظهر صورهم على شاشات التلفزيون، وهم يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، بانتظار المليارات الموعودة من العرب والعجم. ولكن تصريحات المسئولين عن منح هذه المليارات لإعادة إعمار غزة، تقول بأن هذه المنح، سوف تتأخر كثيراً، وربما لن تصل في النهاية، وتصبح غزة عبارة عن مخيم كبير، وضخم كالمخيمات المقامة في الأردن، وسوريا، ولبنان، والتي مضى على أهلها أكثر من ستين عاماً إلى الآن، بانتظار العودة التي لن تعود على ما يبدو. وستصبح وعود الإعمار، كوعود العودة، التي ما زال الفلسطينيون ينتظرون الوفاء بها، جيلاً بعد جيل.
-2-
دعوتنا اليوم لأهالي غزة، بأن ينصبوا خيامهم، وربما بيوت الطوب والزنك، التي نشاهدها في المخيمات والتي وصفتها في كتابي (أكله الذئب) عن مخيم quot;عين الحلوةquot; في لبنان، لا لأن أهل الخير في هذا العالم من عرب وعجم قد اختفوا، ولكن لأن الدول المانحة، لا تعترف بسلطة quot;حماسquot; في غزة، وبالتالي فإن إرسال المنح لأهالي غزة عن طريق حكومة quot;حماسquot;، هو اعتراف غير مباشر بهذه الحكومة. وهو ما يرفضه الاتحاد الأوروبي والدول المانحة منه، كذلك تفعل أمريكا فيما لو كان لديها بعض المنح. أما الدول العربية المانحة، ففي فمها ماء وبحص، كما يقال. فهي تعترف، ولا تعترف بسلطة حماس. وهي بين quot;لاquot; و quot;نعمquot;، في موقفها من إرسال المنح عن طريق حماس. ولكن quot;اللاquot; هي التي تغلب في معظم الأحيان، من جرَّاء ما فعلته quot;حماسquot; في نفسها، وفي أهالي قطاع غزة، وفي القضية الفلسطينية، وهي التي حتى الآن ترفض قيام حكومة وحدة وطنية. والمخرج الوحيد لها ترك السياسة والمفاوضات لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإبقائها هي قابضة على زناد البندقية، تتلقى أوامرها من رام الله. وهو ما ترفضه quot;حماسquot; رفضاً باتاً.
-3-
الجهود المصرية والعربية والأوروبية مشكورة في محاولتهم جميعاً، جمع رأس عباس ومشعل على وسادة العقل الواحدة. ولكن هذا الجمع مستحيل، ما لم تقم أحد أجنحة quot;حماسquot; بثورة داخلية، وتصدر ميثاقاً جديداً، تعلن فيه أنها حركة مقاومة فقط، ولا شأن لها بالسياسة والمفاوضات، وأن بندقيتها رهن أمر القيادة السياسية الفلسطينية. وعلى ذلك يراهن الأمريكيون اليوم، ويرسلون جورج ميتشل، لكي يجترح المعجزات في فلسطين. ولن يفلح ميتشل ما لم تقم quot;حماسquot; بالثورة على نفسها؛ أي بالقيام بثورة على الثورة إن صح هذا التعبير، بواسطة حمائمها، وتعدّل في ميثاقها، الذي قالت عنه بعض حمائم quot;حماسquot; كمحمد نزال، ومحمد غزال، وغازي حمد، وغيرهم، بأنه quot;ليس قرآناًquot; وهو كأي دستور عرضة للتغيير والتعديل والتبديل، حسب المستجدات على أرض الواقع. وأن ما كان قائماً عام 1988، وهو عام وضع الميثاق، تغيّر بعد عشرين سنة، كما نرى الآن.
-4-
الخلاف بين quot;حماسquot; وquot;فتحquot;، ليس خلافاً على ألوان الملابس التي يلبسها كلٌ من قادتهم. ولا على ارتداء ربطة العنق من عدمه. ولا على أطباق الطعام المفضلة عند كلٍ منهم. ولا على الموسيقى والأغاني المفضلة عند كلٍ منهم. ولا على أشكال الأحذية المفضلة عند كلٍ منهم. ولا على نَسَب كل منهم. ولكن الاختلاف على الجوهر. على مباديء في العمق، وفي الصميم، وفي العظم.
فـ quot;حماسquot; لا تعترف بإسرائيل، بموجب المادة 11، 15 من ميثاقها (دستورها)، وتنادي بالجهاد ضدها.
ولا نريد أن نسرد باقي مواد الرفض الأخرى، التي جاءت في ميثاق quot;حماسquot; في 1988. والذي أبرزها تعهد quot;حماسquot; بتدمير إسرائيل. فهذا يكفي الآن. ولنا موعد معه في المقال القادم.
فكيف يمكن لـ quot;حماسquot; أن تتعامل مع الطرف الآخر إسرائيل، وهي لا تعترف به، وتسعى لتدميره؟ وما لها من طريق إلى الدولة الفلسطينية غير الطريق الذي يمر من رام الله. ومن هنا، يحذِّر الاتحاد الأوروبي من التحدث إلى quot;حماسquot; المقاطَعة من قبله، وبالتالي عدم تسليمها قرشاً واحداً من المنح المقررة، وإبقاء أهالي غزة في العراء. وبهذا كانت نتيجة انتخاب أهل غزة في 2006 لـ quot;حماسquot; تحقيق النِعَمِ التالية:
1- نعمة إغلاق المعابر، وفرض الحصار على قطاع غزة، وانتشار البطالة.
2- نعمة عدم توفر المواد الأولية من أكل، وشرب، ولباس.
3- نعمة عدم توفر الأدوية اللازمة في المستشفيات.
4- نعمة انقطاع الماء والكهرباء، وفقدان وقود السيارات، والمعامل، والمخابز، والمدارس، والمستشفيات.
5- نعمة توقف المحادثات مع إسرائيل.
6- نعمة عدم الوفاء بالوعد الأمريكي، لإقامة الدولة الفلسطينية، في نهاية عام 2008.
7- نعمة سجن بعض أعضاء المجلس الاستشاري الفلسطيني، وآلاف السجناء الفلسطينيين الآخرين، في السجون الإسرائيلية.
8- نعمة الإشادة بصمود quot;حماسquot;، وبقاء نار الحكومة المقالة مشتعلة، ومستعرة. وهي حكومة أشبة بحكومة تشرشل وديجول في الحرب العالمية الثانية كما وصفها خالد مشعل. ولكن بدون أمريكا التي حررت أوروبا من النازية.
9- نعمة ارتفاع شعبية quot;حماسquot; في الشارع العربي، الذي يسيطر عليه الإخوان المسلمون، وأجنحتهم المختلفة في العالم العربي، وحزب التحرير الإسلامي، والجماعات الإسلاموية الأخرى.
10- وأخيراً، نعمة تدمير غزة على النحو الذي نشاهده الآن. والذي تحوّل بسحر السحرة والمشعوذين إلى نصر، أبرز معالمه خروج قادة quot;حماسquot; سالمين غانمين، وفي ذلك النصر الأكبر والأهم.
-5-
وأعيد وأكرر بكل ألم، وبكل مرارة، وبكل حزن قاتل، أن مخيماً فلسطينياً ضخماً جديداً، سوف يوجد في الأيام القادمة في قطاع غزة، يضم كل العائلات التي فقدت بيوتها المهدمة، وهي بالآلاف، ما لم تستقل حركة quot;حماسquot; من الحكومة المقالة، وما لم تُصدر ميثاقاً جديداً، يعترف بالواقع الجديد على الأرض، ويعترف بأن الطريق إلى الدولة الفلسطينية، يمر من بين أغصان الزيتون، وليس من بين فوهات البنادق. وفوهات البنادق التي نحترمها، كانت طريقاً لتحرير فلسطين، وإقامة دولتها في الأربعينات فقط، عندما كان اليهود عبارة عن شلل قُطّاع طرق، ومجموعة مليشيات (شتيرن، والهاجانا، وأوروغن، وغيرها). أما اليوم، وبعد أن أصبحت إسرائيل دولة عضواً في الأمم المتحدة، ومعترف بها من قبل العالم كله تقريباً، فلا مجال للمقاومة المسلحة التي يقابلها جيش من أقوى جيوش العالم، وليس عبارة عن مجموعة مليشيات، كما هو الحال في 1948. ولكن quot;حماسquot;، تعتقد بأن المقاومة المسلحة صالحة لكل زمان ومكان، وبغض النظر عن أية تغييرات جذرية على الأرض، تحصل في كل أركان القضية الفلسطينية.
وهكذا نرى، أن quot;حماسquot; لا تريد العنب، ولكنها تريد قتل الناطور، بموجب ميثاقها، قبل عشرين عاماً.
***
وبعد:
بأسف شديد، وألم عميق، أقول لأهالي غزة، وآمل أن أكون مخطئاً:
انصبوا خيامكم أيها المشردون المعذبون من الآن..!
فهذا ما أرادته لكم quot;حماسquot;، التي سيظل قادتها، منعّمين مكرّمين في بيوتهم، في غزة ودمشق وبيروت، وأنتم وحدكم المشردون من بيوت مهدمة، تحت الخيام، وبيوت الطوب والصفيح في الحر والقر.
السلام عليكم.