-1-
جاء في الصحافة quot;الطالبانيةquot;، أن نيافة الأسقف ديزموند توتو، كبير أساقفة جنوب أفريقيا، حثَّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما، على تقديم اعتذار عن غزو بلاده للعراق، نيابة عن الشعب الأمريكي.
نكتة ظريفة، استغلتها الصحافة quot;الطالبانيةquot;، وراحت تنسج حولها التعليقات quot;الطالبانيةquot; القروسطية.
فمن يجب أن يعتذر للآخر، إذا كنا الآن في وارد الاعتذار؟
هل على أمريكا أن تعتذر للعراقيين، عما حصل في العراق، خلال السنوات الخمس الماضية؟
أم يجب على العرب والعجم، من جيران العراق الاعتذار لأمريكا، عما لحقها في العراق من خسائر، وتضحيات، بسبب عصبيتهم وخوفهم، من أن يطالهم ما طال العهد الدكتاتوري؟
-2-
أمريكا غزت العراق، بناءً على طلب المعارضة العراقية، التي كانت في الخارج. وكانت هناك شكوك بوجود أسلحة دمار شامل، فغزت أمريكا العراق، ووجدتْ هذه الأسلحة المدمرة الهائلة في العراق، ولكنها لم تكن الأسلحة التي كانت تبحث عنها.
وجدتْ أمريكا أسلحة دمار شامل من نوع آخر، بل هي أخطر من أسلحة الدمار الشامل الكيماوية، التي كانت تشكُّ بوجودها في العراق.
وجدتْ العراق من شرقه لغربه، ومن شماله لجنوبه، محكوماً ببسطار ديكتاتور واحد.
ووجدتْ العراقيين، صُماً بُكماً عُمياً. فهم لا يسمعون، ولا يتكلمون، ولا يقشعون. فقد وضع الدكتاتور في آذناهم وقراً، وفي ألسنتهم قفولاً حديدية، وعلى أبصارهم غشاوة، وفقأ أعينهم.
ووجدتْ أمريكا في العراق، شعباً عريقاً، له تاريخ مجيد ممتد، اختُصر في كبرياء، وشراسة، وغرور ديكتاتور.
ووجدتْ أمريكا في العراق، بلداً لا تحكمه الشرعية والقانون والعدالة، ولكن يحكمه الخوف والموت والسجن والهروب خارج العراق.
ووجدتْ أمريكا أن هذا العراق، الغني بفضّته البيضاء (مياه دجله والفرات)، وذهبه الأسود، مُلكٌ لأسرة الدكتاتور، تتصرف به كما يشاء، وتصرفه كما يشاء. وكلنا يذكر كيف أن أحد أبناء صدام (قُصي)، سحب يوم غزو العراق مليار دولار (كاش)، من البنك المركزي. فقد كان البنك المركزي خزينة والده، وبيده مفتاحها.
-3-
هكذا وجدت أمريكا العراق، وفيه هذه الأكوام الهائلة من الأسلحة التدميرية الدكتاتورية الشاملة، التي هي أفتك بالعراقيين من كثير من الأسلحة التدميرية الكيماوية الشاملة.
فالبُراء من سلاح التدمير الشامل الكيماوي، أسرع بكثير من البُراء من سلاح التدمير الشامل الدكتاتوري.
فقد برُأ الأكراد العراقيون في الشمال من سلاح التدمير الكيماوي. ولكن لم يبرأ الشعب العراقي من سلاح التدمير الشامل الدكتاتوري، إلا بعد حملة quot;حرية العراقquot; 2003، وبعد تضحيات كبيرة، غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث.
-4-
ورغم هذا كله، على أمريكا أن تعتذر للشعب العراقي!
عليها أن تعتذر للشعب العراقي، لأنها لم تقضِ نهائياً على فلول زعماء البعث، المختبئين في بعض دول الجوار.
عليها أن تعتذر للشعب العراقي، لأنها لم تنهِ مهمتها العسكرية، في خلال سنتين أو ثلاثة على الأكثر، بدلاً من خمس سنوات طوال.
وعليها أن تعتذر للشعب العراقي، لأنها وجدت أن طبقة المعارضة السياسية العراقية التي وثقت بها، وقررت quot;الحملةquot; بناء على إلحاحها، لم تكن على المستوى المطلوب من الثقة، ونظافة اليد، وحب الوطن.
وعليها أخيراً، أن تعتذر للشعب العراقي، لأنها لم تبدأ بإسقاط بعض الأنظمة العربية والأعجمية الدكتاتورية المجاورة للعراق، قبل إسقاط النظام العراقي الدكتاتوري. ولو فعلت ذلك، لما اجتاحت العراق الموجات الإرهابية القادمة من دول تلك الأنظمة.
-5-
ولكن على العرب والعجم أجمعين، إن كانوا أصحاب ضمير وخُلق سياسي قويم، أن يعتذروا للعراق اعتذاراً شديداً.
وعلى هؤلاء، أن يعتذروا للشعب العراقي، لأنهم كانوا سبباً رئيسياً في مقتل مئات الآلاف من العراقيين الأبرياء، بسبب تدفق الإرهابيين على العراق من كل فجٍ عربي وأعجمي عميق.
على العرب والعجم من جيران العراق، الاعتذار للعراقيين لما سببوه بواسطة أعوانهم، وأشرارهم، ومخابراتهم، وإرهابييهم، من تدمير البنية التحتية للعراق، وقتل النساء، والأطفال، والطلبة، والمعلمين، ورجال الأمن، وخطف المواطنين، وتفجير قاعات الأفراح، وطوابير الشباب المتقدم للخدمة في الشرطة العراقية.
-6-
وعلى العرب والعجم كذلك، أن يعتذروا لأمريكا.
عليهم أن يعتذروا لأمريكا، لأنهم كانوا سبباً في قتل أكثر من ثلاثة آلاف جندي أمريكي، جاءوا لتحرير العراق من أعتى أنظمة الحكم في التاريخ العربي القديم والحديث.
كما عليهم أن يعتذروا لأمريكا، لأنهم كانوا سبباً في خسارتها لأكثر من 400 مليار دولار، في حملتها على العراق. وكان يمكن للحملة على العراق أن تنتهي في أقل من عام، وفي أقل الخسائر في البشر والحجر والمال، لو ترك العرب والعجم من جيران العراق العراقيين لشأنهم، ولم يتدخلوا في شؤونهم الداخلية، ولم يرسلوا لهم أرتالاً من الإرهابيين، الذين قتلوا من كافة الطوائف والمذاهب، ما لم يُقتل من العراقيين، لو أن العراق اشترك في الحرب العالمية الثانية اشتراكاً فعلياً.
-7-
نيافة الأسقف ديزموند توتو، كبير أساقفة جنوب أفريقيا:
كيف تدعو أمريكا للاعتذار للعراقيين، وأنتَ في رسالتك تطالب أمريكا في الوقت ذاته، بأن تتخذ أمريكا موقفاً صارماً تجاه الدكتاتوريات الأفريقية، وخاصة ديكتاتورية القذافي، القابضة على رقبة الشعب الليبي، طيلة أربعين عاماً؟
لتعلم، يا نيافة الأسقف، أن دكتاتورية صدام، ودكتاتورية القذافي، وكل الدكتاتوريات العاتية في العالم الثالث، لا بُدَّ من لها من عملية جراحية عسكرية، كالتي تمَّت في العراق.
فهل من واجب الطبيب الجراح، أن يعتذر لمريضه عن كمية الدم المُسالة من جسمه، أثناء العملية الجراحية؟
أم أن على المريض أن يشكر الطبيب، ويعتذر له، عمَّا سببه له من تعب، وجهد، وخسارة مادية، طيلة وقوفه خمس سنوات في غرفة العمليات، لاستئصال الدُمَّل الدكتاتوري المتضخِّم، والمتقيِّح الذي كان بجسمه؟
السلام عليكم.