من مفكرة سفير عربي في اليابان
بعد أن انتهى النظام السوفيتي وتحول العالم لقرية تكنولوجية صغيرة، انبهرت الشعوب بالرأسمالية، ووجدت فيه خلاصها من الفقر والجهل والمرض. وقد أدت عولمة السوق لتحول دول فقيرة لمصانع رخيصة للعالم، ليتخلص الملايين من جوعهم. وبينما كانت شعوب العالم مشغولة في تنميتها الاجتماعية والاقتصادية، كانت القلة منهمكة في التلاعب لتكديس المليارات، بشراء نواب البرلمانات لتغير القوانين وشل الرقابة ضد الاستغلال والاحتكار، وبالمضاربة في أسواق الأسهم والعقار والطاقة والأغذية والعملات. كما أبدع المصرفيون في صنع منتجات قروض سحرية وبيعها في الأسواق العالمية، لتؤدي لأزمة اقتصادية دولية، وفقد الثقة بالنظام المصرفي العالمي.
وقد برزت أعراض مبكرة لخلل النظام المالي العالمي، وعدم قدرة قوانينه ومؤسساته على التعامل مع تحديات العولمة. فرفع رجال الاقتصاد إعلام الخطر، ليحذروا من قرب الهاوية، ولكن انشغل الجميع في جني الأموال، وتناسوا الدمار المنتظر. وانتقد علماء الاجتماع تحول الإنسان quot;لروبوتquot; مادي فقد إنسانيته وقيمه الأخلاقية. وحينما هز هذا الخلل الاقتصاد العالمي، وضيع ما يزيد عن الثلاثين تريليون دولار، راجع العلماء مؤلفاتهم، ليتقدمهم هانز كونج في مناقشه اقتصاد العولمة والأخلاقيات. والسؤال: من هو هانز كونج؟ وما هو اقتصاد العولمة الأخلاقي؟
ولد هانز كونج في عام 1928 من عائلة سويسرية كاثوليكية، تدعو للإصلاح الديني. وقد درس في الجامعات الألمانية والايطالية، وأكمل دراسته في علوم اللاهوت بجامعة السربون. وعين في عام 1960 أستاذا بجامعة توبيجن الألمانية، كما عينه البابا عضوا بمجلس الفاتيكان. وفي عام 1979 أدت آراءه الإصلاحية لغضب الفاتيكان ومنعه من تدريس الكاثوليكية، ليتفرغ لعمله كبروفيسور بجامعة توبيجن الألمانية لعلم اللاهوت. وقد كتب مؤلفات عديدة عن الأخلاقيات والدين، ويدعو في كتابه، مسئولية العولمة، قيادات أديان العالم للعمل على خلق سلام عالمي، يعكس الأخلاقيات التي تجمعها الديانات برباط القيم والمعاير والسلوك. ويعتقد كونج بأن السلام العالمي يلزمه سلام بين الأديان، ولتحقيق ذلك هناك حاجة للحوار لمعرفة الأسس الأخلاقية لهذه الأديان. وقد شرح أفكاره في مسودة إعلان أخلاقيات العولمة، لبرلمان أديان العالم، الذي عقد بمدينة شيكاغو في عام 1993.
وقد اتفق ممثلي جميع الأديان في هذا المؤتمر على المبادئ العامة لأخلاقيات العولمة والتي تشمل الالتزام بثقافة رفض العنف، واحترام الحياة البشرية، والمطالبة بنظام اقتصادي عادل، ونشر ثقافة الصدق والتضامن والمساواة، وتحمل الاختلاف والشراكة بين المرأة والرجل. ويعتقد الكاتب بأن رضي القيم أكثر راحة للنفس من متعة الماديات، كما تملئ الالتزام بالأخلاقيات الروح بالبهجة والسعادة. ويوصي بالتخلص من الأنانية الشخصية والجشع، والحاجة لمعاير أخلاقية للعيش في سلام وعدالة وحرية. ويعتقد بأن أسباب العنف والإحباط الذي يعيشه البعض في العالم الإسلامي، هو نتيجة السياسات الغربية اللاأخلاقية خلال القرون الماضية، ويوصي الغرب بالاعتراف بمسؤولياته والعمل على إصلاحها. ويختلف الكاتب مع صمويل هاتنجتون في نظريته عن صراع الحضارات، بل يعتقد بأن الثقافات والحضارات لا تحارب بعضها البعض، بل العكس تتداخل ببعضها في كثير من العموميات، ليستطيع البشر العيش معا في سلام. ويحذر كونج من السياسات الخاطئة الناتجة عن التصورات الغير حقيقة عن الإسلام، والتي قد تؤدي لتفكير سياسي منغلق، قد يؤدي لصراع بين الأديان والثقافات.
وربط هانز كونج العنف في الشارع الإسلامي بالإحباط الذي يعانيه المسلمين بسبب الغضب من معاناة حرب أفغانستان والعراق والشيشان، وفشل تأسيس الدولة الفلسطينية، وتأيد الغرب للسياسات الإسرائيلية ضد حماس وإيران، كما يوصي بدبلوماسية غربية متزنة. ويرفض كونج فرض الديمقراطية والحداثة على المجتمعات الإسلامية، ويعتقد بأن التطور الأوروبي كان نتيجة عملية لمخاض طويل وشاق، ويجب أن يبدأ التغير من داخل المجتمع لا أن يفرض من الخارج. وأوصى بحرية صحافة مسئولة وبعيدة عن الإثارة، والذي أكده مجلس الرؤساء والحكومات في الإعلان العالمي لمسئولية الإنسان مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد انتقد رجال الإعلام المادة الرابعة عشر من هذا الإعلان والمتعلقة quot;بحرية التعبير للإعلام لإيصال الحقائق للمواطنين وانتقاد تصرفات وقرار المؤسسات المجتمعية والحكومات، والتي هي مهمة للمجتمعات الديمقراطية، ولكن يجب ان تستخدم آلياتها بمسئولية واحترام.quot;
وقد تنبئ الكاتب في عام 1997 بأزمة الوول ستريت، بسبب الممارسات الغير الأخلاقية في سوق المال. وقد وصى في مقاله بصحيفة يابان تايمز في الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي، بضرورة ترافق جهود التعامل مع الأزمة الاقتصادية بخطة تجمع تدخل الدولة المسئول، مع خفض العبء المالي على المواطن، بالإضافة للادخار في الميزانية العامة، لمنع زيادة الديون الغير متوقعة على الدولة. ويعتقد الكاتب بأن الحالة الذهنية التي أدت لتفاقم الأزمة المالية قد بدأت تتغير، فقال:quot;يبدو بأنه في الدول الغنية الصناعية، وبعد فترة من قصر النظر لسلوك الربحية المتصاعدة، بأننا إمام فجر جديد من البساطة والاستدامة. وتعاني الشركات من ضغوط متصاعدة لتكون أخلاقية، وأخيرا عوقب السلوك التجاري اللااخلاقي.quot; وقد لاحظ الكاتب في رحلة للولايات المتحدة في نوفمبر الماضي ظاهرتين ملفتتين للنظر، وهما: quot;الرغبة الجامحة للربحية التجارية اللامسئوله وجنون العظمة السياسي.quot; وقد ارتفعت الأصوات المنادية لأنظمة أخلاقية للسيطرة على جشع السوق الحرة مع زيادة الأزمة، كما طالبت بدعم البنية المالية الجديدة بهيكل أخلاقي، وترويض الغريزة الإنسانية القاتلة من الجشع والكبرياء بمعاير أخلاقية.
ويناقش الكاتب هذا الهيكل الأخلاقي الذي طرح في فقرة إعلان أخلاقيات العولمة لبرلمان أديان العالم في شيكاغو لعام 1993، بقوله:quot;لقد وجدنا الإجابة في التعاليم التقليدية الدينية: يجب إلا نسرق! وبمعنى ايجابي: يجب أن تكون معاملاتنا صادقة وعادلة، ولا يحق لأحد منا أن يستغل أمواله وأملاكه بدون النظر لحاجة المجتمع والبيئة. وعلينا أن نزرع الرحمة في أرواحنا للمعاناة الآخرين. بل علينا زرع الاحترام المتبادل لكي نخلق توازن في المصالح، بدل الركض وراء قوة لا محدودة ترافقها صراعات منافسة يستحيل تجنبها. فنفقد إنسانيتنا بالجشع، وذلك بفقد روحنا وحريتنا وهدوئنا وسلامنا الداخلي.quot; ويعلق الكاتب آماله على باراك اوباما الذي وصل للرئاسة مطالب بأخلاقيات غير عادية للسياسيين، ويعتقد بأنه لن يستطيع خلق المعجزات، ولكنه في الموقع الذي يمكنه أن يحدد الهيكل الأخلاقي لبناء الاقتصاد العالمي، بعد فهمه لأزمته الأخلاقية التي تحدد بالسؤال: quot;هل نحدد القيمة في الثروة فقط، أم أيضا في العمل الذي خلقه. وكل ذلك يؤكد بأننا في حاجة لأخلاقيات عالمية اليوم أكثر من أي وقت مضى.quot;
فتلاحظ عزيزي القارئ بأن الكاتب قد ناقش أهمية الموارد البشرية في خلق ثراء الأمم وأهمية خلق بيئة اقتصادية عالمية تحترم الإنسان وتحميه من براثن الفقر والمرض بتوفير شبكة الحماية الاجتماعية له ليحافظ على كرامته وصحته وإنتاجيته بتوفير تأمين اجتماعي لرعاية صحية شاملة وتعليم وتدريب مستمر وحماية للبطالة وفترة التقاعد. وهذه الشبكة الاجتماعية ستحمي كرامة الإنسان وتمنعه من العنف والجريمة والثورة، والتي تكلف معالجتها معاناة مجتمعية كبيرة وأموال طائلة. والسؤال: هل ستراجع مجتمعاتنا العربية سلوكياتها الاقتصادية لتخلق مجتمع يحترم إنتاجية الإنسان وإبداعه ويحميه من جشع الغناء وبؤس الفقر وعنفه؟

سفير مملكة البحرين في اليابان