أعظم حضارة في التاريخ القديم؟
لعل الحضارة الفرعونية من أطول الحضارات عمرا، فقد امتد بها الزمن ثلاثة آلاف سنة، حكم فيها ثلاثون فرعونا، مع فترة انقطاع في منتصف المسافة باحتلال الهكسوس مصر لفترة 150 عاما، وهي الفترة التي جاء فيها يوسف إلى مصر، وتكاثر بني إسرائيل في هذه الفترة وما بعدها.
ومنه نفهم أيضا الدقة القرآنية البالغة في استخدام لفظ الملك وليس فرعون؟
وأعرف وأنا أتصفح تعليقات القراء، كراهية البعض ذكر القرآن ولو عرضا، ولكن فليعتبروه الكتاب الأحمر لماوتسي دونج أو الأخضر للقذافي، فالمهم ليس لونه واسمه ومصدره بل بما فيه من حقائق موضوعية.
وهي مع لفظة الملك وليس فرعون ملفتة للنظر مدهشة..
والعذاب الذي سلط على بني إسرائيل يمكن استيعابه، لأنهم كانوا الطابور الخامس كما نسميه نحن في المتعاون مع المحتل؟
وبذلك تصبح آيات القرآن مع المنهج التاريخي مفهومة جدا..
والسؤال التاريخي ما هو المغزى خلف ذهاب موسى إلى مصر فرعون بعد أن نجا منها بأعجوبة في حادثة القتل، بعد أن أصبح رأٍسه مطلوبا للعدالة؟
والجواب يحتاج إلى تفكيك تاريخي ولكنها كانت رحلة ذات ثلاث مفاصل، في مواجهة المجتمع الفرعوني المتجمد في مربع التاريخ.
موت الأفراد وموت المجتمعات حسب القرآن
من الملفت للنظر أن القرآن أشار إلى المَيْتَتَين، فذكر موت (الفرد) بلفظة: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد؟!
كما أشار إلى موت الأمم والمجتمعات بقوله (لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)؟... والأجل هنا جماعي وليس فردي.
وهكذا فالآجال إذاً نوعان: منها ما هو خاص بالفرد، والآخر بالمجتمعات، كلٍ من نوعية متباينة، وهذا يعني بكلمة ثانية أن الأمم تموت، والدول تزول، والشعوب تفنى، والحضارات تنهار.
وهو فصل مثير تناوله المؤرخ توينبي حين حدد نقطة البداية والنهاية فقرر حقيقتين: أن بدايات الحضارات جدا مختلفة، ولكن نهايتها جدا متشابهة.
والأمر الثاني أن نهاية الحضارات لا يتم بعدوان خارجي بل بانتحار داخلي، وهو المرض الذي كانت تعاني منه الحضارة المصرية القديمة.
وذهب توينبي إلى أن الحضارة الفرعونية كانت قد انبثقت من تحدي مستنقعات النيل، فكان التحدي في الطبيعة، فلما انتقل التحدي إلى النفس فشلت، وهذا هو المغزى الروحي العميق أن موسى كان واضحا في أنه لم يأت للتبشير في المجتمع الفرعوني، فهو مجتمع قد نفض يديه منه، بل جاء لمهمة واضحة مختصرة: أن أرسل معي بني إسرائيل.
ولكن العجيب وكان خافيا حتى على موسى، أن أخلاق العبيد في بني إسرائيل لم تكن تنفع إلا في مهمة واحدة فقط، هي أن يدفنوا في الصحراء، ويستولد منهم جيل جديد لا يعرف إلا الشمس والحرية، وعلى يد هذا الجيل الذي لن يراه موسى قط سيكتب قدر بني إسرائيل..
وهكذا فقد كانت مهمة موسى ذات ثلاث زوايا: إخراج بني إسرائيل من العبودية. لا فائدة من المجتمع الفرعوني الميت المحنط. ولا فائدة من الجيل الحالي بل ذراريهم من بعدهم..
يقول توينبي إن جيل بناة الأهرامات كان قد زال، وخرج جيل جديد ميت من الفراعنة، وهكذا فقد بقي المجتمع الفرعوني يعبد البشر، حتى اجتياح الاسكندر وسقوط مصر في قبضة البطالمة.
حديث القصعة في التهام الأمم؟
وهناك حديث عجيب في كيفية تحول أمة إلى لقيمات طعام سائغة لأمم أخرى، فقد جاء في حديث القصعة إلى هذا المعنى العجيب الخفي؟
(يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فيتحول المجتمع الإسلامي إلى مواد غذاء وتموين لبناء أجساد أخرى، عندما يختل تركيب التكوين الداخلي الاجتماعي، فتتحول طاقات الأفراد المنسابة عبر الأقنية الاجتماعية إلى مصادر تفجير لها، فتتمزق أقنية الوصل الاجتماعية، ويتهتك النسيج الاجتماعي.
جاء في كتاب ميلاد مجتمع لمالك بن نبي هذه الفقرة:
(ولكن الطاقة الحيوية قد تهدم المجتمع ما لم يسبق تكييفها، أعني ما لم تكن خاضعة لنظام دقيق، تمليه فكرة عليا، تعيد تنظيم هذه الطاقة، وتعيد توجيهها؛ فتحولها من طاقة ذات وظائف بيولوجية خالصة في المقام الأول - حيث تشترك في حفظ النوع - إلى طاقة ذات وظائف اجتماعية يؤديها الإنسان حين يسهم في النشاط المشترك لمجتمع ما).
كذلك فقد أسعفنا القرآن بأمثلة عن مجتمعات باتت مريضة تمشي باتجاه الموت، وكيف تم التصرف تجاهها، بين فتية أهل الكهف، الذين انطلقوا لتأسيس مجتمعهم الخاص بهم وضنوا حتى بالكلب أن يبقى في المجتمع السابق!!
وبين موسى (ص) وهو يواجه أعظم حضارة في عصره، حيث حدد مهمته على وجه الدقة، من أنه لا يريد إصلاح المجتمع الفرعوني الذي وضع الموت يده الباردة عليه؟
إنه يريد شعبه، الذي ينتظره أن يُدفن في الصحراء أولاً من خلال (التيه) كي يخرج من أصلابهم جيل لا يعرف غير الشمس والحرية، وهو الذي لن يرتعد من (القوم الجبارين) الذين توهمهم آباؤهم كذلك.
والمثل الثالث في انفلاق مجتمع المدينة الساحلية إلى ثلاث مجموعات أمام تحدي الانحراف، نجا فيها الفريق الصغير نواة الأمة الجديدة، بترابط جديد للقيم، أما بقية المجتمع فتشوه الترابط الداخلي عنده، ليتحول إلى مجتمع (القردة الخاسئين)؟!
هذه القصة هي من أجمل قصص القرآن عن قوم ابتلوا بمجيء السمك ظاهرا على وجه الماء لقوم لا يعملون يوم السبت، وهو جدل المجتمعات حين تضع لنفسها القوانين ثم تضطر لخرقها وعدم الالتزام بها؟
(وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت. إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا، ويوم لايسبتون لاتأيتهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون؟ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون؟ فلما نسوا ماذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين).
ولا غرابة لأن كروموسومات القردة تشبه 99% من كروموسومات الإنسان، ولكن الاختلاف في البناء الداخلي ولو باختلاف 1% يقلب البناء رأساً على عقب، ويحول البشر السوي إلى قردٍ خاسئ!
شهادة التاريخ في موت المجتمعات:
إن المجتمع الفرعوني حينما اندثر وطواه التاريخ، بقيت الأهرامات تشهد على حيوية شعب أصبحت في ذمة التاريخ، فهو مجتمع لم يمت فيه أفراد ذلك المجتمع (بيولوجياً) ولم تُغيَّب عناصره الأولية في التراب، ومازال الإنسان الفرعوني (المصري) يعيش، ولكن كعنصر أولي يشارك في حضارة مختلفة.
وعندما مات المجتمع الفرعوني تحول أفراده إلى عناصر أولية و (طوب) أو (لبنات) امتصها مجتمع زاحف نامي متفوق، كوَّن بها نفسه من (لبنات) المجتمع الميت، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهكذا تحول المجتمع (الفرعوني) إلى مجتمع (روماني)، ثم مات بدوره ليتحول إلى مجتمع (إسلامي)، وهكذا طوى التاريخ بين جنبيه مجتمعات تترى، ضمها قبر التاريخ وضريح الحضارات (ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين)..
وهكذا فقد تكون الاستعارة في صور أخرى، عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت، ومن أمثلة ذلك أن المجتمع الروماني امتص في سبيل بنائه كثيراً من المجتمعات التي اختفت مثل المجتمع الغالي بعد معركة اليزيا والمجتمع القرطاجني بعد معركة زاما، والمجتمع المصري بعد انتصار القيصر على بومبي، وحضارة الازتيك عاشت في أمريكا الوسطى، والإنكا في أمريكا الجنوبية وكلاهما دمرهما الأسبان، أما شعب الوبيخ فقد دُمر بيد روسية عثمانية مشتركة، كما جاء في قصة آخر الراحلين.
يقول القرآن: وكم أهلكنا من قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟
والركز هو الصوت الخفي؟
وبذلك نخلص بهذه الخلاصة التاريخية، أن الأفكار تغادر أرضها فتهاجر، أو لا تبدل موقعها حيث تنبت من خلال صراع ضاري، أو يكتب عليها الفناء إلى أجل مسمى..
والعالم العربي اليوم في حالة تأزم وجودية؛ فلا الأنبياء يبعثون، ولا الاجتياح الخارجي يحل الاستعصاء، والمخرج هو إما فوضى وحرب أهلية طاحنة كما في الصومال والعراق، أو ديكتاتورية مقيمة بدون أمل في المستقبل كما في العديد من جمهوريات الخوف والبطالة؟؟
علينا إذن أن نستوعب أن دروس الخروج من النفق، أو سفر الخروج عند موسى هي رحلة قد تطول ولكنها ليست طويلة في عمر الشعوب. فالتغير قدر تاريخي ولكنه يطول ويقصر ولا أحد يتوقع كيف يأتي الخلاص..
إن سقوط جدار برلين كان آية عظمى أفظع من سد يأجوج ومأجوج، ولكنه انفجر وتدفقت يأجوج ومأجوج فهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين.
وتداعت الديكتاتوريات، وانهارت الأنظمة الشمولية والناس لا تصدق، وذهب كل ألماني يحتفظ بحجرة من بقايا سد يأجوج ومأجوج؟
وربما هذا الذي سيحدث في العالم العربي تحت ظاهرة تهاوي حجارة الدومينو..
ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا؟