-1-
سوف أحاول اليوم، أن أكتب بعض خواطري العابرة، على ما يجري في العالم العربي، وهي الأحداث التي لا تحتمل مقالاً كاملاً. وإن كانت تحتمل مقالاً، فيجب أن يكون المقال قصيراً. ولكن نشوء الصحافة الاليكترونية، حيث لا حدود لمساحة المقال، كما هو الحال في الصحافة الورقية، وحب (الرغي)، والخروج عن الموضوع، أغرى وشجَّع بعض الكتّاب على الإسهاب في مقالاتهم، إلى حد الإسهال.
فالقاريء العربي اليوم، لا يحتمل أن يقرأ مقالاً طويلاً من عدة صفحات، خاصة حين ينسى بعض كتّاب quot;إيلافquot; والمواقع الأخرى، أنهم يكتبون في صحافة يومية لعامة الناس، وليس لخاصتهم في مجلات دورية متخصصة، للنخبة المنتخبة فقط. ولكن لا لوم على بعض كتّاب quot;إيلافquot;، في بعض الأحيان، عندما لا يلقون مثل هذه المجلات المتخصصة. وإن وُجدت، فهي مجلات (شللية) ذات أيديولوجية محددة، وثابتة، ومغلقة. وعلى المجلات أن لا تنشر ما يتعارض مع هذه الأيديولوجية. وقد أصبحت بعض المواقع على الانترنت على هذه السكة الحديدية الأيديولوجية، بحيث لو أراد الكاتب الخروج عن هذه السكة، وقع، وانقلب.
-2-
نشرتُ يوم الخميس الماضي مقالاً، هنا في quot;إيلافquot;، عن (الخاسرين والرابحين من معاهدة كامب ديفيد). وقلتُ بصراحة تامة: quot; إن سياسية رفض التطبيع مع إسرائيل في الدولتين العربيتين (مصر والأردن) اللتين وقعتا معاهدة سلام مع إسرائيل، هو أكبر جريمة سياسية، يرتكبها عرب هذين البلدين، من حيث لا يعلمون.
فعدم التطبيع مع إسرائيل، الذي تقوده التيارات الإسلاموية، والقومجية، وأتباع الممانعة والمخادعة، قرار في منتهى الغباء والجهل في السياسية. وقد أفاد عدم التطبيع الكاذب هذا، إسرائيل فائدة عظمىquot;. وذكرتُ خمس فوائد، عادت على إسرائيل، نتيجة هذا الجهل والغباء السياسي العربي، أنظمةً، وحكاماً، وشعوباً.
ولاحظت من ردود القراء، أن هذه الردود راحت بعيداً عن هذه العبارات، ولم يعلَّق من بين أكثر من ثلاثين معلقاً على هذا الرأي.
فماذا يعني ذلك؟
هل يعني أن العرب استيقظوا اليوم من سباتهم العميق في العسل، وأدركوا أن عدم التطبيع مع إسرائيل ما دام (الفاس وقع بالراس) أي ما دامت اتفاقية quot;كامب ديفيدquot; مع مصر 1979، واتفاقية quot;وادي عربةquot; مع الأردن 1994، قد وقعتا فلا مجال للتراجع، رغم ما تقوم به التيارات الدينية والقومية، لحساب بعض الأنظمة من مظاهرات، وندوات، وولائم، وأعراس، ضد التطبيع؟
-3-
نجيب محفوظ آخر، وهو يوسف زيدان، يخرج من مصر الولاّدة. ويلقى نفس مشاكل محفوظ مع رجال الدين. ولكن الاحتجاج والمطالبة بالمنع والمصادرة، تأتي هذه المرة من الكنيسة القبطية، والأنبا بشاوي الناطق الرسمي باسم الكنيسة، وليس من الأزهر، الذي فعل الشيء ذاته مع رواية نجيب محفوظ quot;أولاد حارتناquot;، ومنعها من دخول مصر منذ 1962 حتى عام 2006.
ففجأة، يحتل يوسف زيدان الاسكندراني مركزاً روائياً عالمياً، وينال الجائزة العالمية للرواية العربية، وهي النسخة العربية من جوائز quot;بوكرquot; البريطانية للأدب، عن روايته quot;عزازيلquot; (الشيطان)، التي أثارت ضجة كبيرة في الأوساط القبطية الأرثوذكسية المصرية، حيث تتحدث الرواية عن فترة حرجة من تاريخ الكنيسة بين القرنين الرابع والخامس للميلاد. وقد هاجمت الكنيسة القبطية المتشددة هذه الرواية، وطالبت بمنعها ومصادرتها من الأسواق، وتصرّفت نحوها كما تصرّف الأزهر تجاه رواية quot;أولاد حارتناquot;. في حين أكد زيدان كاتب الرواية، ورئيس قسم المخطوطات بجامعة الإسكندرية، أن روايته quot;عزازيلquot; لا ينبغي النظر إليها من زاوية، غير زواية الإبداع الأدبي. وأبدي زيدان أسفه من هجوم الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدس القبطي، علي الرواية وتشبيهها بـ quot;شفرة دافنشيquot;، واتهامه بعدم الحياد، وخلط الحقائق بخياله الروائي.
وطالب زيدان بأن يكون تدخل رجال الدين مسلمين وأقباط في أمور الدين فقط، وإلا صار من حق الناقد الأدبي أن يتدخل في المسائل الدينية. وطالب زيدان بأن تعيد الكنيسة القبطية والأنبا بيشوي قراءة الرواية مرة أخرى.
وهكذا يصبح الأزهر والكنيسة القبطية في مصر، حيال حرية الأدب والفكر والثقافة عامة، في كفة واحدة.
-4-
أشاهد في بعض الأحيان برامج على القنوات المصرية لندوات تناقش بطء التنمية، في التعليم والصحة والمواصلات وغيرها من الخدمات العامة. ومعظم هذه الندوات تلوم الحكومات المصرية المتعاقبة، على عدم تحقيق مستويات في التنمية والتعليم والصحة وخلاف ذلك، تتناسب وعدد السكان الطوفاني الطافح. وقليل جداً ndash; إن لم يكن من النادر ndash; أن أسمع من يلوم الشعب المصري، على تفجيره للقنبلة السكانية الهائلة، بحيث أصبح يُولد في مصر طفل جديد كل دقيقة. فقفز عدد السكان من 20 مليون نسمة في 1952 إلى 80 مليون نسمة في 2008، كالجراد يأكلون الأخضر واليابس، رغم كل ما قامت وتقوم به الحكومات المصرية المتعاقبة من جهود لتحديد النسل، وتقليص عدد السكان، رغم معارضة أكثرية رجال الدين، الذين يأتون بأحاديث نبوية، تشجع على الإنجاب، عندما كان عدد العرب في مكة، لا يزيد على عشرين ألف نسمة. ولو علم النبي عليه الصلاة والسلام، أن مصر والعالم العربي عامة سوف يُفجِّر القنبلة السكانية الهائلة على هذا النحو الطوفاني الهائل، لحرَّم الإنجاب تحريماً مؤكداً.
فمهما فعلت الحكومات المصرية المتعاقبة، من برامج تنمية طموحة، فستبقى مدرجات الجامعة، تكتظ بأكثر من ألفي طالب بالمدرج الواحد، وبأكثر من مائة تلميذ في الفصل الواحد في المدارس. وسيبقى الازدحام في وسائل المواصلات، والشوارع، ومراكز الخدمات، على هذا النحو الذي نشهده الآن من الفوضى والارتباك.
فليحاسب الشعب المصري نفسه، وينتقد نفسه، قبل أن يحاسب الدولة وحكوماتها المتعاقبة، التي تلهث وراء تحقيق أرقام عالية للتنمية، ولكن يلتهمها في كل مرة، غول الانفجار السكاني الطوفاني الأعمى.
-5-
كان موقف الحكومة الأردنية من quot;السيرة الهاشمية على الربابة المصريةquot; للحكواتي الشعبي حسنين هيكل موقفاً حضارياً، على عكس موقف الصحافة الأردنية، التي قام المعلقون فيها، تطوعاً، أو تكليفاً، أو تزلفاً، أو نفاقاً، بمهاجمة هيكل، وشتمه، شتائم بذيئة، تعلَّموها من إعلام عبد الناصر في الستينات.
فكان يُتوقع - مثلاً - أن تُغلق الحكومة الأردنية مكاتب quot;الجزيرةquot;، ولكنها لم تفعل. وكان يُتوقع أن يقاطع المسئولون الأردنيون مراسلي quot;الجزيرةquot; في عمان، ولكنها لم تفعل ذلك.
وكان من المتوقع أن تقطع الأردن علاقتها الدبلوماسية مع قطر كما فعلت دول عربية من قبل، ولكنها لم تفعل.
وكان من المتوقع أن يُعلن ملك الأردن عن تخفيض مستوى التمثيل في quot;قمة الدوحةquot;، فلا يحضر هو هذه القمة، وينيب عنه وزيراً أو سفيراً، ولكن ذلك لم يحصل.
ويبدو أن الحكومة الأردنية اكتفت، بأن يقوم زيد الرفاعي رئيس الوزراء الأسبق ورئيس مجلس الشورى الآن بالرد quot;الباردquot;، غير المقنع على هيكل، ومن خلال مقابلة بثتها quot;الجزيرةquot; أيضاً.
موقف الدولة والحكومة الأردنية كان حضارياً. وموقف الإعلام الأردني كان غوغائياً.
وما زرعه الإعلام الناصري في الستينات في الأردن، يحصده الآن، وفي مناسبات قادمة مماثلة.
السلام عليكم.