ها هم العرب ذاتهم مرة أخرى، وها هي مؤتمرات قممهم الهزلية التي تدفع للتقيؤ، وها هو ذاته أمين عام جامعة دولهم الهمام، يتحرك بذات البرمجة العروبية، وها هو وسطهم متهم آخر بالإجرام في حق شعبه، وإبادته وتجويعه وتشريده.
ها هم العرب كعادتهم مصرون على إعادة إنتاج مآسيهم وكوارثهم، بذات الآليات، وذات النهج والأفكار التي لم تنته صلاحيتها فقط، وإنما اتضح لكل ذي عينين نتائجها الكارثية، على أهلها أولاً، وعلى العالم كله ثانياً.. ولم ينس أصحاب الفخامة والسيادة والجلالة كعادتهم، أن يقدموا للعالم ولشعوبهم في مؤتمرهم الأخير بالدوحة، فصلاً ترفيهياً كوميدياً، من تلك الفصول التي اعتاد أن يقدمها لنا الأخ العقيد quot;ملك ملوك أفريقياquot;، وفقاً للقبه الجديد، الذي شاءت إرادته الثورية أن يمنحه لنفسه، رغم أن أفريقيا تكاد تخلو من الملوك، اللهم إلا ملك المغرب تقريباً!!
ها هو السيد عمرو موسي، أفضل من يتقن ربط الكرافتة فوق عباءة العروبة، ويطلق حديثاً يبدو حداثياً ودبلوماسياً ومتزناً من حيث الشكل، بغض النظر عن محتواه، الذي ينضح بأسوأ ما أنتجت لنا حماقات حقبة الستينات الناصرية، ها هو يعيد ما سبق وأن جر به الكوارث على المنطقة، حين تستر على القائد العربي الضرورة صدام العراق، وظن أنه بمناوراته وشعاراته يستطيع حمايته، فكان أن جلب قوات التحالف إلى العراق وكان ما كان، وما لانزال حتى الآن ننتظر نهاية ما ترتب عليه من مآس.. لكنه ومعه أغلب القادة الميامين، وغير الميامين المضطرين للمسايرة، مصرون على الجري نحو ذات الحفرة، التي سبق وأن سقطوا فيها، وسقطت معهم الشعوب المغلوبة على أمرها، والمغيبة عقولها، والسابحة عواطفها في مستنقعات الشعارات والعداوات، وأوهام تآمر العالم كله عليها.
السيد عمرو موسى العروبي المغوار، يطالب بكل جسارة برفض قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف البشير، لمحاكمته على جرائمه بحق شعبه، ويؤيده بذات القوة الشبل بن الأسد، الذي سبق أن دك والده شعبه بالمدفعية الثقيلة، وليعلن لا فض فوه، بأن الحرب على الإرهاب هي حرب علينا.. بالتأكيد هو على حق، لو كان يتحدث عن نفسه، فالحرب ضد الإرهاب ولا شك حرب عليه وعلى كل الزمرة المحيطة به، لكنه بالطبع لابد وأن يأخذنا معه، نحن الشعوب التي تنتهك مثل تلك الأنظمة وهذه النوعية من القادة الأشاوس كرامتها.. يضمنا معه في معسكر الإرهاب، لكي يتستر خلفنا، ومسدسات وخناجر زبانيته في ظهورنا، وآلاته الإعلامية الجهنمية مسلطة علينا ليل نهار.. تبرر لنا الجرائم، وتجعل منها نضالاً وجهاداً واستبسالاً في سبيل كرامة شعوب، مُبددة مقدرات حياتها، ومُداسة كرامتها من المغامرين والمتاجرين من كل لون.
لسنا ندري إن كان عن جهل أو تجاهل، أن يؤكد إعلان الدوحة -الذي تلاه عمرو موسى- quot;رفضquot; الدول الأعضاء لقرار المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة توقيف بحق البشير، على خلفية النزاع في إقليم دارفور بغرب السودان.. فقرار المحكمة الجنائية الدولية قرار قانوني، يستند إلى أدلة قانونية، ولا يجوز التشكيك أو الطعن فيه، ناهيك عن الرفض القاطع له، إلا بناء على حيثيات وآليات مماثلة لتلك التي استند إليها واتبعها مصدرو القرار، أي حيثيات وآليات قانونية، أما هذا الرفض الذي صدر من اجتماع سياسي، يحضره المطلوب من قبل العدالة، ويجلس وسط الجميع، ليستمع إلى كلمات التأييد العاطفية الملتهبة، فهو مهزلة تدين من شاركوا فيها، بتهمة تعويق العدالة، والتستر وحماية مطلوب في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولا تبرئ متهماً مما نسب إليه، فهل مع هذا البيان نستطيع اعتبار المجلس الذي صدر عنه، أنه مجلس quot;قمةquot;، وأي quot;قمةquot; تلك التي ترفض مساعدة العدالة، إن لم تكن quot;قمة الفاشيةquot;، أو quot;قمة الحماقةquot;، في الانطراح أمام عجلات قطار المجتمع الدولي والإنسانية!!
الشبل بن الأسد أيضاً مُصِرُّ على خيار المقاومة، وإن لم يعلن صراحة شرطه الوحيد لهذا الخيار الاستراتيجي، وهو أن يقاوم الجميع فيما عداه هو.. كما أعلن عدم جدوى التفاوض، ليتوقف الجميع عن محاولة الوصول إلى حل سلمي، أيضاً دون أن يعلن شرطه الوحيد لذلك التوجه، وهو أن يفاوض هو وحده، متنطعاً ومتستراً بوسيط مثل تركيا، يحفظ له ماء وجهه، ويبقيه ولو لبعض الوقت مردداً عنترياته، وشاهراً سيفه الخشبي، ليس في وجه العدو، وإنما يزايد به على من يقول أنهم أشقاؤه.
يسمونها مؤتمرات قمة، فهل تنطبق التسمية على المسمى؟
مؤتمر يحضره الرئيس السوداني طريد العدالة الدولية، ورئيس غير شرعي، اغتصب السلطة في موريتانيا بانقلاب على رئيس منتخب، في واحدة من الانتخابات النزيهة النادرة في صحارى الاستبداد الشرق أوسطي، والرئيس الصومالي الذي هو بالأساس زعيم واحدة من العصابات الإرهابية، وتنازعه الآن باقي العصابات الشريكة له، منكرة عليه انفراده وحده بالعرش، فوق كومة من الأنقاض والجوعى والدماء!!
على رأس المجتمعين أيضاً quot;عميد الحكام العرب وملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمينquot; كما قال، مثار سخرية العالم وتندره، ذلك المشكوك في قواه العقلية وتوازنه السيكولوجي، والذي يحكم شعبه بالحديد والنار منذ أربعة عقود، ومقابله مغتصب الإمارة من أبيه، والآخر وارثها في جمهورية بعثية عروبية مناضلة وممانعة!!
هل مثل هذا المؤتمر تناسبه تسمية مؤتمر قمة؟
إن كان اجتماع هؤلاء يعد اجتماع قمة، فماذا يا ترى يمكن أن يكون القاع؟!!
على العموم لا بأس بتسمية القمة، حتى لو كانت تعني للعالم معنى مضاداً، فكل تسمياتنا ومفاهيمنا مقلوبة، فالإرهاب في قاموسنا مقاومة، والتخلف والجمود أصالة، والعداء للعالم وللحضارة جهاد في سبيل الله، والتستر على الجلادين والقتلة دفاع عن الكرامة والسيادة العربية.. نطلق أيضاً تسمية مصالحة، على النفاق، فيما القلوب زاخرة بالأحقاد الشخصية، والواقع حافل بالمتناقضات والإشكاليات، التي لا ينتوي أحد معالجتها بموضوعية، بعيداً عن لعبة الخصام والصلح الصبيانية.. نسمي المشكلة الفلسطينية quot;قضية العرب المركزيةquot;، في حين أننا نستخدمها quot;كصخرة العرب المركزيةquot;.. نستخدمها كصخرة مبكى نولول عليها، مما نعده تآمر العالم علينا، وكراهيته لنا ولهويتنا ولديننا.. quot;صخرة مركزيةquot; نضعها في كل طريق نسلكه، لكي نقعد حيث نحن، ولا نذهب إلى أي مكان، ولا نسعى لتحقيق أي هدف، وكيف نذهب والطريق أمامنا مسدود مسدود مسدود يا ولدي، quot;بصخرة العرب المركزيةquot;؟!!.. أليس هذا ما أجمع عليه المفوهون في قمة (قاع) الدوحة، من أنه لا ينبغي تقديم مجرمي الحرب والإبادة الجماعية في دارفور (التي يباد فيها أهلنا وليس العدو الصهيوني) للمحاكمة، إلا بعد تقديم قادة إسرائيل للمحاكمة على جرائمهم؟.. كل طرق الإصلاح والتحديث وحتى إنقاذ شعوبنا البائسة، كلها مغلقة quot;بصخرة العرب المركزيةquot;، التي يختبئ خلفها الحكام المستبدون والقتلة، وتختبئ خلفها الشعوب الفاشلة في إحراز أي تقدم، والعاجزة عن استيعاب العلم وقبول الحداثة، بل والعاجزة حتى عن إنتاج الخبز الذي تأكله!!
لهذا بالتحديد تكون للمشكلة الفلسطينية أولوية لدى الجميع، سواء كانوا حكاماً أم نخبة، أو حتى جماهير دهماء، الكل يحتاج إلى quot;صخرة العرب المركزيةquot;، لنجد فيها المبرر للاستبداد والفشل والتخلف، وأيضاً المبرر للعداء والكراهية للعالم، حتى لو لعبت دور ورقة توت، نستر بها عورة وحقيقة عدائنا الأيديولوجي والديني للحضارة وللمتحضرين.
المهم أن قادة الأمة العربية المجتمعين قد أثبتوا صلابتهم ومنعتهم على التراجع أو التغير، مهما كانت الأحوال، وقرروا بشجاعة التستر على طريد العدالة عمر البشير، كما سبق وأن فعلوا مع المقبور صدام العراق، والأغلب أنهم ولو في السر، سيكلفون العروبي الهمام عمرو موسى، بأن يبحث عن موقع مناسب وسري، يتم فيه حفر حفرة، وتزويدها بأجهزة تكييف الهواء، وكافة ما يلزم من وسائل الراحة والرفاهية، في جوار العاصمة السودانية الخرطوم، لكي يلجأ إليها البطل العربي إذا ما جد الجد، ويجد فيها كل أسباب الراحة، ريثما تمتد إليه يد العدالة، لتقبض على عنقه، لتشهد الخرطوم بعدها نهاية طاغية آخر، والبقية تأتي، ولا عزاء للمناضلين والمجاهدين والأشاوس، وتحية للرئيس المصري، الذي نأى بنفسه وبمصر الكبيرة المتحضرة للمرة الأولى، ونرجو ألا تكون الأخيرة، عن تلك المسرحية الهزلية المأساوية!!