عصر التنوير أو quot;العقلquot;، الذي غالبا ما نتوسل به في كتاباتنا، لم نصل إليه بعد ولن يمر بنا قط. من هنا تبدو صعوبة فهم التنوير خارج سياقه التاريخى، فالأفكار لا تنشأ فى الفراغ ولا تنتشر إلا إذا كانت تلبى حاجة تاريخية معينة. وهو كمفهوم أخذ حيويته ومجاله فى الغرب سواء فى التنظير أو الممارسة، ومن ثم فإن أية مقاربة مفاهيمية أو فكرية بيننا وبين الغرب بالنسبة لمفهوم التنوير تحديداً مسألة حرجة وعويصة.
بيد أن quot;التنويرquot; ndash; من حسن الحظ - ليس مرحلة تاريخية أو زمنية فحسب، كما أنه لا يرتبط جغرافيا بغرب أو شرق، وإنما هو بنية عقلية وحالة ذهنية في المقام الأول، قد تتكرر في أي زمان ومكان، طالما توافرت الشروط لظهوره، والعكس بالعكس.
وعليه، من الأنسب والأجدي، أن نركز جهودنا العقلية في فهم quot;مغزىquot; الثورة التي قادها مونتسيكيو وفولتير وروسو وديدرو في القرن الثامن عشر، وquot;كانط quot; تحديدا، بإعتباره قمة عصر التنوير وذروته. فقد عبر عن روح هذا العصر وبنيته العقلية أصدق تعبير، في مقال شهير له بعنوان quot; جواب عن سؤال: ما التنوير؟ quot;.. نشره عام 1784 في مجلة شهرية ببرلين.
يعرف كانط التنوير بأنه: quot;هجرة الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول وحده عن وجوده فيها. والقصور (عدم الرشد) هو حالة العجز عن استخدام العقل، والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره لأن العلة في ذلك ليست في غياب quot;العقلquot;، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين.... لتكن تلك الشجاعة على استخدام عقلك بنفسك، ذلك هو شعار التنويرquot;.
المغزي الأساس للتنوير إذا، هو القدرة على التفكير بشكل ذاتي مستقل. وكأن جوهر التنوير في كل زمان ومكان، هو تأهيل العقل لبلوغ (حالة الرشد) دون وصاية اللاهوت ورجال الدين، والثورة علي البني الأبوية البطركية، بتعبير هشام شرابي.
وهذا يفسر جزئيا لماذا فشلت حركة التنوير في العالم العربي (خلال القرن الماضي) وحتي اليوم، لأنها ببساطة لم تحقق الهدف الأساس لبلوغ العقل العربي الرشد وهو: رفع الوصاية عن هذا العقل، وعن التفكير المستقل والإبداع الحر.
وعلينا أن نعترف بشجاعة أن حركة النهضة العربية لم تؤثر سوي في القشرة الخارجية للعقل العربي، بفضل احتكاك روادها الأوائل بالغرب، ووجود الاستعمارالغربي في المنطقة في الوقت نفسه، كما يقول نادر قريط، فما ان غادر الاستعمار عقب الحرب العالمية الثانية، وأرتفع شعار ndash; وشعور زائف - quot; بالتحرر والاستقلال quot; علي المستوي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حتى عادت ( ريما لعادتها القديمة ) وإستعادت قوة الموروث سيطرتها علي العقل من جديد، فيما نشهده اليوم من مختلف أشكال الوصاية علي العقل بإسم الدين تارة والإيديولوجيا تارة أخري، والقانون الممتزج بالدين ( الشريعة ) تارة ثالثة.
في العدد الجديد ( 90 ) من مجلة quot; فكر وفن quot; الألمانية، مقاربة مهمة حول مفهوم القانون في العالم الإسلامي والغرب، وهو مفهوم مختلف عليه حتي الآن: فالقانون في العالم الإسلامي هو quot; الشريعة quot;، ولا يوجد استعداد للقبول بالمفهوم العصري له، كما هو متبع في الدولة المدنية العلمانية الدستورية الحديثة، وهذا الانقسام في الرأي حول مفهوم واحد ( للقانون وتطبيقاته )، يتجلي أساسا في القضاء، كما جاء في افتتاحية المجلة.
بيد أن العقل الذي بلغ (الرشد والنضج)، وأصبح عقلا مستقلا ومسؤولا، يراجع نفسه بنفسه ويقيم أخطاءه بإستمرار، من خلال القوانين العقلية والدساتير المدنية، وهذا المعني يغيب، أو يغيب عادة، عند معظم المثقفين العرب في تناولهم لفكرة التنوير، وهو: شجاعة quot; كانط quot; وجرأته في اخضاع العقل أيضا للنقد - وليس quot; تقديس quot; العقل وعبادته كما يفعل البعض عندنا - لدرجة أنه عنون كتابه بquot; نقد العقل الخالص quot; عام 1787، وهذه الشجاعة تحديدا هي إحدي سمات التنوير وعلاماته علي مر العصور.
من هنا تحمل كلمة quot; نقد quot; شحنة فلسفية دائما، والنقد بالمعنى الفلسفى لا يعنى فضح العيوب ولا إبراز التهافت وإنما إثبات حدود الصلاحية. والعقل الناقد (الناضج) المستقل، يمارس النقد علي ذاته أولا، قبل أن يمارسه علي الآخرين، أو بالأحري، يمارس عملية مزدوجة ومتوازنة، فيما أسماه صديقنا الراحل عبدالكبير الخطيبي بـquot;النقد المزدوجquot;.