هل سيقهر السرطان؟ ويوقف الشيخوخة؟ ويمحو المرض؟ وفي النهاية سيدحر الموت؟
أنا طبيب، وأعرف حدود العلم، وأتابع تطوره بشغف، وخضت فيه اختصاصا بعد اختصاص، وفي قناعتي أن العلم ماض إلى تطويل العمر، ودحر الأمراض، وفك لغز السرطان، وإيقاف تداعي الشيخوخة، ولكن لن ينجو من قبضة الموت بحال، كما جاء في فيلم المدينة الصناعية؟ فيعاد إحياؤه مرة بعد أخرى ويصلح، وتستبدل له قطع الغيار المتهالكة، مقابل جدل لا يكف عن التفاعل بين كل انتصار وهزيمة، وتطور وتراجع، وحذف وإضافة، هذا ما لم يفاجئ الكوكب بضربة مالها من فواق، فيتراجع كل الجنس البشري قرونا، وتتداعى بنى الحضارة، وتتآكل الصناعة الأرضية لحساب حياة جديدة غير متوقعة.
كل ما نستطيع قوله أنه لا يستطيع أحد المراهنة على التطور العلمي والتحديات، وأن العقل العلمي يبقى مفتوحا لكل الاحتمالات بما فيها نهاية الجنس البشري كله، أو بالعكس بدء بناء الحضارة مابين نجمية. ما يسمونها الحضارة رقم 1 ـ 4، حسب التمدد في النظام الشمسي إلى مجرتنا ومجرة الاندروميدا وسواها...
ولكن لنبدأ في قراءة بضع صفحات من التاريخ وتطور الطب والانفجار العلمي.

أتقن المغول فن الحرب الصاعقة في ثلاث صور (القوات المحمولة) واستخدام (الدروع البشرية) والحرب (البكتريولوجية)، وكانت الثالثة أشدها تدميراً، أفضت في النهاية إلى إفناء ربع البشرية يومها؛ ففي حصار أحد القلاع في القرم عام 1347 م، التي تحصن فيها غزاة من أهل البندقية، عمد التتار إلى رمي جثث القتلى المصابين بالطاعون بالمنجنيق على خصومهم المحاصرين؟
كان الرعب أشد من التحمل، وهرب المذعورون ينقلون معهم على ظهور الجرذان (الموت الأسود) حيث تحركت السفن واستقبلت الموانئ في كل أوربا، ومات يومها 25 مليون ضحية في أوربا لوحدها.
وفي عام 1918 انفجرت (الانفلونزا الاسبانية) فأصابت 700 مليون نسمة على امتداد قطر الأرض، حصد فيها منجل الموت 20 مليون إنسانا، منهم 550 ألفاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وخمسة ملايين في الهند.
وفاجأت الجائحة الجنود الأوربيين المتحصنين في خنادقهم، مع مطلع عام 1918 م في ظروف الحرب العالمية الأولى، ولكنها حصدت خلال أشهر قليلة، أكثر مما فعلت الحرب في أرواح البشر في خمس سنوات، ثم انسل الوباء كما جاء كالشبح.
ولمعرفة تطور الطب في القرن العشرين علينا رؤيتها في أربع نماذج: وفيات الأطفال، ومتوسط العمر، ولجم الجوائح، والانفجار المعرفي.
في عام 1905 م مع انتشار الكوليرا في هامبورغ كانت المقابر تبلع كل يوم ألف جثة، ومن كل طفل أتى إلى العالم عام 1901 م خطف الموت في السنة الأولى منهم (20234)، وكان متوسط عمر المرأة عام 1900 م 37 سنة والرجل 35 في الدول الصناعية، ليصبح عام 2000 م 88 سنة للأنثى و80 للرجل بمط العمر نصف قرن من الزمان لكليهما، ما يعادل سدس عمر أهل الكهف بدون سبات عميق وكهف بارد يقلبون ذات اليمين وذات الشمال.
وهو في ازدياد، ويتوقعون وصول عدد من يزيد عن قرن بعشرات الآلاف من البشر حتى عام 2050م؟
وفي عام 1900 م كان عدد المعمرين في ألمانيا الذين وصلوا حافة المائة عام لا يتجاوز 40 شخصاً، ليقفز اليوم إلى 7000 شخصا بين ذكر وأنثى، والإناث أكثر، والتوقعات أن يصل الرقم عام 2050 م إلى مائة وخمسين ألفاً؟
وهذا يدعونا إلى مقارنة عدد الأطباء في ألمانيا على سبيل المثال لوجود الإحصائيات الدقيقة؟ ففي عام 1876 م بلغ عددهم في ألمانيا 334 معظمهم (ممارسون عامون)، وارتفع الرقم عام 1900 م إلى 2000 طبيباً، ليصبح عام 2000 م 130 ألفا نصفهم من الاختصاصيين، مابين 38 فرع أساسي، و22 تخصصاً فرعيا (SUBSPECIALITY)، في أكثر من 4000 مشفى ومؤسسة طبية، في نظام شركات تأمين صحية تغطي 98% من السكان، في نظام محكم تدفع لليلة الواحدة في العناية المشددة أكثر من ألف يورو، ويكلفها المريض المزمن سنوياً مائة ألف يورو، ويبلغ ما يصرف على الصحة سنوياً 250 مليار يورو، ما يعادل 10% من الإنتاج القومي، بأكثر من 50 مرة مما كان يصرف عام 1901 م، مقارنة بدول العالم الثالث التي تنفق معظم ميزانيتها على خردة السلاح، وتُقَصِّر عن تأمين اللقاحات الستة الأساسية، لأشد الأمراض فتكاً من نموذج شلل الأطفال التي لا تكلف بمجموعها للفرد أكثر من دولار واحد.
وفي مطلع القرن العشرين عاش مجموعة من الرواد الرائعين في الطب من نموذج (فيرشوف) و(كوخ) و (باستور) و (شاودين) و (الزهايمر).
أما رودولف فيرشوف (RUDOLF VIRCHOW) فقلب التصور الطبي رأساً على عقب، وأسس علم (التشريح المرضي)، واكتشف عشرات الأمراض، ونشر أكثر من ألفي بحث علمي، وبقي حتى سن الثمانين يشتغل 16 ساعة يومياً، في عشق لا يذوي للمعرفة، وأما (كوخ) فشق الطريق لمعرفة السل والكوليرا والطاعون، وكانت أمراضا من السواهي الدواهي؟
وطوَّر باستور اللقاحات وأرسى مفهوم التعقيم، ولم يكن للجراحة أن تتقدم إلا بساقين: التعقيم والتخدير.
وكُشف الغطاء أمام عين (فريتس شاودين FRITZ SCHAUDIN) ليبصر (اللولبية الشاحبة) أفعى الزنا مسببة مرض الزهري، الذي عس في أدمغة ومفاصل المصابين، ما يزيد عن أربعة قرون.
وأما لويس الزهايمر (LOUIS ALZHEIMER) فتوصل إلى تحديد مرض العته، الذي يحول الذاكرة إلى حطام الهشيم، وأصبح المرض مرتبطاً باسمه.
مع هذا فيخبرنا التاريخ الطبي عن علل الأطباء الذين كانوا يكافحونها وماتوا بها؟ فأما فيرشوف فمات بكسر عنق فخذ بعد سقوط (وهو ما أتذكره أنا شخصياً لجدي وجدتي)، وقضى شاودين نحبه بخراج شرجي عن عمر 35 سنة، ومات مكتشف مرض الزهايمر بقصور كلوي عن عمر 53 سنة؟ ولو كان في أيامنا لامتد عمره بالغسيل الكلوي ربما عشرات السنوات، والموت خلقه الله كما خلق الحياة فتبارك المالك.
واليوم يعالج كسر الفخذ بصفيحة وبراغي، فكان يمكن لفيرشوف أن يطأ برجله ويقول هذا مغتسل بارد وشراب.
واكتشف البنسلين صدفةً البريطاني (فلمنغ ALEXANDER FLEMING ) عام 1928 م، وكان يمكن لشاودين وديكارت أن ينجوا من خراج الشرج والتهاب الصدر بسهولة من نصب وعذاب.
ورُكِّب أول مفصل صناعي للمفصل الحرقفي الفخذي ( TEP ) عام 1961م وتم استخدام أول كلية صناعية في أمريكا عام 1943 م.
كان الناس يموتون من انفجار (زائدة دودية) واليوم يجري الجراحة العصبية المعقدة (روبوتات) بدقة أجزاء من المليمتر، بيد لا تعرف الاهتزاز، وببنية فولاذية لا يمسها نصب أو لغوب، في ساعات متواصلة من العمل الشاق، بدون استراحة وفنجان قهوة.
وفي المستقبل سيبقى الجراح خارج قاعة العمليات، يراقب المخلوقات الحديدية الجديدة، وهي تنجز عملها لا تريد جزاءً ولا شكورا ولا تفهمهما.
ويتم حالياً تطوير جراحة الجينات، وتم تعبيد الطريق لمعرفة كامل (الكود الوراثي) عند كل المخلوقات، بما فيها الإنسان في مشروع (هوجو) في نفس مكان ولادة السلاح الذري للقنبلة البيولوجية، ثم إنسان نياندرتال وقردة أورانح أوتان؟
وفي مطلع القرن العشرين كانت الأمراض الإنتانية تحصد الأرواح، واليوم تم استئصال أمراض بأكملها، من خلال اللقاحات مثل (السل والكزاز)، وتم الاحتفال بتطهير الأرض من مرض (الجدري)؛ فلم يبق إلا في الحاويات السرية، في المؤسسات الطبية، أو للاستخدام العسكري في حروب الهول الأعظم؟
وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين؟
وفي الوقت الذي بقي مسبب الإفرنجي مجهولاً مابين اندلاعه عام 1496 م واكتشافه من (شاودين) عام 1905 م لفترة أربعة قرون والسيطرة عليه بالبنسلين في الخمسينات؛ فإن فيروس الايدز لم تتطلب تحديد هويته أكثر من أربع سنوات في ضغط للزمن مائة مرة؟
وفي الوقت الذي طحن الزهري عظام البابا (الكسندر السادس) وافترس دماغ الفيلسوف (نيتشه) فأودى به إلى الجنون، وعطب نخاع الشاعر (هاينكه) فأصيب بالشلل، بدون معرفة السبب أو تطبيق العلاج. في غياب أي جو علمي إلا الدجل والشعوذة؛ فإن الأدوية المتاحة اليوم لعلاج مالا يقل عن عشرين ألف مرض، يسببها خمسين ألف نوع من الفصائل الجرثومية والحمات الراشحة تزيد عن 80 ألف دواء.
وفي الوقت التي كانت أساطير القديسين تتكلم عن زرع الأعضاء تحوَّل الأمر اليوم إلى روتين؛ فيزرع في ألمانيا سنوياً أكثر من (3918) عضواً بين كلية وكبد وبنكرياس منهم 542 قلباً في عمل أقرب إلى المعجزة.
وتم هذا الانفجار المعرفي في تطوير (زراعة الأعضاء) على يد جراح مغمور في جنوب أفريقيا هو كريستيان برنارد (CHRISTIAN BERNARD) عام 1967 م، في الوقت الذي كان العرب يهزمون أشنع هزيمة في تاريخهم الحديث على يد جولدا ماير الصهيونية، ويقوم عبد الناصر بتمثيليته المقززة في التنحي عن عرش فرعون، وما أمر فرعون برشيد؟
وحين قام برنارد بخرقه المعرفي هذا تعرض لحملة مخيفة ممن حوله، فسلط عليه زملاءه من منافسيه في المهنة، كل أساليب التحقير والتشهير، بما فيهم حملة جائزة نوبل للطب، بعد موت مريضه الأول (لويس واشكانسكي LOUIS WASHKANSKY ) بـ 18 يوماً، حين انتزع له قلباً شاباً، من فتاة مات دماغها، فتمت زراعته في صدره بنجاح.
ولكن كما يعلمنا القرآن أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، فقد انعقد لسان الحساد واختفى المعارضون أمام وهج عمله، خاصةً بعد تطويع الجسم بمادة (السيكلوسبورين) لمشكلة رفض الجديد، كما رفض معارضوه فكرته في زرع الأعضاء؛ فرفض الجديد بيولوجي واجتماعي بنفس الوقت كما نرى.
وعاش (إيمانويل فيتريا EMMANUEL VITRIA) بعد زرع القلب في صدره 19 عاماً (1968 حتى 1987 م) أكثر من عمر جراحه الذي نفحه بهذه الهبة، وتهيأ بعده الجراح الأمريكي (روبرت وايت ROBERT WHITE) للقفزة الكبرى بزرع (رأس إنسان) كامل بعد أن نجح فيها عام 1999 م على رؤوس القرود.
العلم ذو طبيعة تقدمية، له ناظم أخلاقي ذاتي، ينمو بآلية الحذف والإضافة والتراكم المعرفي، ويزدهر في جو العقلانية والتفكير بدون قيود، ويدعم بالإنفاق المالي، ويحصد الكثير في صدف بحتة في جو عمل ملتهب.