حين ضرب القرآن المثل في المرأة استحضر مريم وامرأة فرعون؟ وهنا يذهب الخيال ألوانا كيف عاشت تلك المرأة الناعمة السلامية مع فرعون الجبار؟ وهو يحكي لنا إمكانيات عجيبة من الحياة الزوجية.
وكما ذكر القرآن تلك النماذج الرائعة أضع بين يدي القارئ نماذج من خمس نساء هن روزا باركس وبيرتا فون سوتنر والهندية أراندهاتي والألمانية روزا لوكسمبورغ والبورمية سو كايا..
ففي 5 ديسمبر من عام 1955 م كانت الخياطة (روزا باركس Rosa Parks) في طريقها إلى منزلها بعد أن أنهت يوماً حافلاً بالعمل. كانت قوانين المرور في مدينة (مونتغمري) من مقاطعة (ألاباما) الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية تنص أن يدفع السود ثمن التذكرة من الباب الأمامي، ولكنهم يصعدون الحافلة من الخلف، كما كان محظراً عليهم أن يركبوا في المقعد المجاور لمرور الركاب (Isle). كذلك كان القانون يقول أن الأسود يجب أن يخلي موقعه للأبيض في الازدحام.
ولكن ذلك اليوم البارد من ديسمبر كان على موعد مع حدث جلل، فقد صعد رجل أبيض إلى الحافلة ووقف أمام (روزا بارك) وهي السوداء ينتظر أن تقوم وتترك مقعدها له، وهو شيء عجيب كان يحدث قبل نصف قرن في أمريكا (أوباما) خلاف كل أعراف الدنيا بتخلي الرجال عن مقاعدهم للنساء.
كانت (روزا باركس) قد قررت أن تفعل شيئاً جديداً في كسر القانون العنصري؛ فرفضت بكل بساطة التخلي عن مقعدها للأبيض، وأمام إصرارها تدخلت الشرطة فنزعتها من مقعدها بالقوة وأجبرتها على دفع غرامة، وأوقفت في الحجز لمخالفتها قانون الولاية.
ولكن الحادث في ذلك اليوم كان الشرارة التي أوقدت ناراً هائلة في غابة جافة عظيمة من مشاعر محتقنة ضد الظلم والتمييز العنصري.
لم تلجأ المقاومة إلى السلاح وأعمال العنف بل كانت سلمية مدنية فقاطع السود الباصات لمدة عام كامل، ورفعت القضية إلى أعلى هيئة دستورية في البلد، واستمرت المحاكمة مدة 381 يوماً. وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر (روزا باركس) في محنتها، وانكسر القانون العنصري إلى غير رجعة.
وهذا يقول أن الظلم والاستعمار هو صناعة أو تحطيم بيد العبيد المستضعفين، فطالما سمحوا للظالمين باعتلاء ظهورهم فليس أمامهم سوى وظيفة الدواب للمستكبرين.
وهذا الجدل بين الاستضعاف والاستحمار، والاستكبار والاستعلاء، هو جدل قرآني منذ الآيات الأولى التي نزلت في الطغيان أن كسره يتم بعدم الطاعة كما فعلت روزا باركس.
وفي 27 أكتوبر من عام 2001 م بعد مرور 46 سنة عليه تم إحياء ذكرى الحادثة في التاريخ الأمريكي، حيث أعلن مدير متحف (هنري فورد) السيد (ستيف هامب) في مدينة (ديربورن) في (مشيجان) عن شراء الباص القديم المهتريء من موديل الأربعينات، الذي وقعت فيه حادثة السيدة (روزا باركس) والذي كان الزناد الذي دفع حركة الحقوق المدنية في أمريكا للاستيقاظ، بحيث تعدل وضع السود، وتم شراء الباص بمبلغ 492 ألف دولار أمريكي.
واليوم بعد أن تجاوزت (روزا باركس) الثمانين من العمر تذكر في كتاب صدر لها لاحقاً بعنوان (القوة الهادئة) عام 1994 م:
quot;في ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي والتجأت إلى الله فأعطاني القوة التي يمنحها للمستضعفينquot;.
وهي تذكرنا بدعاء نوح quot;فدعا ربه أني مغلوب فانتصرquot;.
هذا الأسلوب الهادئ البسيط هو الذي يكسر أشد القوانين جبروتا وتيبسا وعنصرية بـ (رفض الطاعة).
إنه أسلوب خفي محجوب، وقريب ومبارك ونبوي في المقاومة المدنية، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن الطاغية لا يقاوم بقتله بل برفض طاعته وعدم التعاون معه في الشر.
ولكن على ما يبدو فنحن نؤمن بأن سيد الحلول هو القتل، الذي لا يولد إلا مزيداً من القتل، وبيننا وبين الفهم مسافة سنة ضوئية.
وفي أفغانستان أجبرت المرأة على خلع برقعها، وكانت من قبل على يد الطالبان تجبر على وضعه.
وفي عاصمة عربية تم الهجوم على جميع النساء، في يوم نحس مستمر، فخلعت الأغطية عن رؤوسهن أجمعين، تحت ظن أن الإكراه هو الحل المناسب، للتخلص من الرجعية والتحول إلى التقدمية بزعمهم.
والذي حدث أن هذا العمل الأحمق والصاعق كان له المفعول العكسي؛ فازداد عدد النساء في دمشق اللواتي يغطين شعورهن.
وحل مشكلة المرأة لا يتم لا بالخلع ولا يالوضع تحت الإكراه، بل تغيير ما تحت القماش في تلافيف الدماغ، من خلال الإقناع الذي هو الإيمان، والظلم الذي هو الإكراه، إن الشرك لظلم عظيم، وضد الظلم شرع الجهاد، وليس ضد الكفر.
وهكذا أصبح جسد المرأة موضع الصراع السياسي بين الفرقاء الإيديولوجيين المتصارعين، باعتبارها قاصرا يجب أن تعلم ماذا تلبس وتخلع.
وحتى اليوم يتبرع (الذكور) في الحديث عما يناسب المرأة، ولا يتركون (المرأة) هي التي تقرر لنفسها بوعي وإرادة فتختار ما تلبس.
وقد يظن البعض أن التغطية بالقوة عين التقوى، ولكن الخلع والتغطية من منطلق الإكراه يحكمه قانون نفسي واحد.
وهو في أعماقه كما يقول مالك بن نبي يحمل دوافع جنسية خفية؛ فمن يخلع ملابسها للإباحية هو الوجه المقابل للتغطية المفرطة.
ومقابل قصة (روزا باركس) تأتي قصة المكافحة السلامية (بيرتا فون سوتنر Bertha von Suttner)(1843- 1914) التي نشأت من عائلة ارستقراطية في (براغ) وفي عام 1889 م نشرت قصتها بعنوان (تخلصوا من السلاح die waffen nieder) التي أصدرها ناشر على استحياء، وطبع منها ألف نسخة فقط، ليتحول الكتاب إلى أفضل الكتب رواجاً، ويترجم إلى كل اللغات الأوربية.
وهي قصة آسرة تروي قصة زوجة عاصرت أربع حروب متتابعة في القارة الأوربية، خسرت زوجها وولدها في ساحات القتال، وقررت أن تقول لا... للحرب.
حاولت (بيرثا فون سوتنر) أن تنظم حركة عالمية من أجل السلام، وكانت تشم رائحة الحرب وترى سحبها القاتمة القادمة عبر الأفق الأوربي؛ فالحرب التي سميت (بالعظمى) كانت فاجعة الفواجع، وهي التي فرخت الشيوعية والنازية والفاشية، ومهدت للحرب العالمية الثانية.
وأهم إنجاز للمرأة أنها من خلال علاقتها الطويلة مع (الفرد نوبل) عالم الكيمياء السويدي أن أوحت إليه بفكرة (جائزة نوبل للسلام).
وفي جو الحرب المشحون عام 1914 منعت (فون سوتنر) من المحاضرات، وضحك الجميع من سذاجتها، وهلل الجميع للحرب، وخذلها أقرب الناس إليها من أصدقاءها، الذين كانوا معها في الصف السلامي.
وماتت قبل طلقات (جافريلو برنسيب) على الأرشيدوق النمساوي في سراييفو بسبعة أيام في 21 يونيو من عام 1914م.
إن قصة النساء المكافحات للسلام تظهر بأجلى صورة في قصة ملكة سبأ، وهي نصوص ذكرها القرآن عن امرأة في غاية الذكاء والحكمة، استطاعت أن تطوق الصراع المسلح مع سليمان بحكمة، اقتربت فيها من حكمة النبي، ففي الوقت الذي هدد سليمان عليه السلام بإرسال الجيوش (لنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهو صاغرون) كانت تقوم بحكمة في إطفاء نار الحرب، من خلال الرسل والهدايا، إلى درجة أن تذهب بنفسها لمقابلته، بدل الاستعداد للحرب وتعتنق الدين الجديد حبا في العدل، أكثر من الخوف من جيوش سليمان الجرارة من الجن والإنس والطير فهم يوزعون.
ومقابل نموذج (روزا باركس) الأمريكية السوداء و(بريتا فون سوتنر) الأوربية برزت شخصية جديدة من الهند من تعاليم غاندي هي داعية السلام الهندية (أراندهاتي روي Arundhati Roy) وعندما قرأت مقالتها أنا باللغة الألمانية أصبت بالحسرة، لأنها قالت أكثر مما نكتب، وتم نشر ما كتبت بالكامل بدون حذف الرقيب، مما يدل على مأساة الفكر العربي واختناقه ومصادرته.
ومما جاء في مقالتها أن (علم) الدولة يخدم تماماً في لف الرؤوس كي تختنق عن أي تفكير، فإذا مات الناس في ميادين القتال، خدم العلم المشئوم مرة أخرى في لف الجثث المقطعة المشوهة.
ثم قامت باستعراض فريقي الحرب في أفغانستان ونقلت عن (بوش) قوله quot;إننا أمة مسالمةquot; و(توني بلير) أن بريطانيا شعب سلامي، وقامت باستعراض لائحة الحروب الأمريكية:quot;1953- 1950 كوريا- غواتيمالا 1954 و 1967-1969ndash; اندنوسيا 1958- كوبا 1961-1959 ndash; كونجو 1965- لاوس 1973- 1964- فيتنام 1973-1961- كمبوديا 1970-1969 ndash; جرينادا 1983 ndash; ليبيا 1986- سلفادور في الثمانينات وكذلك نيكاراغوا- باناما 1989- العراق 1991.. وبعدها أفغانستان.
وعلقت على أحداث 11 سبتمبر أنها غيرت أمورا جوهرية خمسة:
الحرية والتقدم والرفاهية والتقنية ومفهوم الحرب.
وكان عنوان مقالتها:الحرب تعني السلام أو السلام هو الحربquot; لتصل إلى جملة لاذعة: إنهم يريدون منا أن نعتبر فجأة أن الخنازير أصبحت خيلا وأن العذارى انقلبت ذكورا وأن الحرب هي السلام؟
وعند ظاهرة الطالبان ذكرت فكرة مهمة وهي أن حرب العشرين سنة التي كلفت 40 مليار دولار في أفغانستان، وسبعة ملايين لاجئ، ومليون ونصف قتيل، وعددا من الألغام الأرضية يفوق عدد السكان، وتقدر بحوالي15 مليون لغم أرضي ضد الأفراد، يموت من انفجارهم كل شهر أربعين من الأطفال!
وإذا كان التقدم والحداثة قد دخلت أفغانستان، فقد جلب التقدم على صورة مدفع، فوق ظهر حمار، فلم تعرف أفغانستان التقدم إلا بتوريد الأسلحة الحديثة؛ فأتقنوا القتال وصناعة الموت وانتزعت الرحمة من قلوبهم، مما يذكر بحرب داحس والغبراء في الجاهلية، لنكتشف بمرارة أن حرب الجهاد الإسلامية لم تكن إسلامية، بقدر كونها حربا أمريكية خاضها شباب مسلمون مغفلون.
إن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة.
إن اعتماد السلاح لحل المشاكل يرهن صاحبها في قبضة القوة، ومن اعتاد قتل العدو سوف يقتل الصديق والرفيق والأخ غدا.
ثم سمعنا عن أحكام إعدام على رجال الطالبان بيد رجال القاعدة، وهذا الدرس مهم في إدراك أن القوة لا تحرر بل تأسر.
وفي نهاية مقالتها تصل (روي) أن حرب أفغانستان ليست حرب حضارات سخيفة، بل حرب توسع وهيمنة، وأن أربع مؤسسات في أمريكا هي مصانع السلاح والبترول والإعلام مع الخارجية يشكل ورما متجانساً وخطيرا في توجيه أمريكا والعالم وأن (ديك شيني) و(بوش) لهم علاقات خاصة مع هذا (الكارتل).
إن كفاح (أراندهاتي روي) و (روزا باركس) و(بيرتا فون سوتنر) ومن قبل (ايميلين بونكهرست) البريطانية التي قادت مظاهرة في عام 1910 من أجل حقوق المرأة؛ فتعرضن للضرب من 1000 من الشرطة والغوغاء، لمدة ستة ساعات متواصلة، ماتت فيها سيدتان فيما عرف بيوم الجمعة الأسود في 18 نوفمبر في تاريخ الحركة النسائية.
وكذلك (روزا لوكمسبرغ) من ألمانيا التي خطبت في 791 وفدا نسائيا من 27 دولة من العالم عام 1900 م ضد التسلح، وبناء الجيوش الخرافية والأجهزة الأمنية العملاقة، وخوض حروب الجنون، كل هذا يشكل رفدا متواصلا في نشاط المرأة أن تعيد الإنسان إلى بناء الحضارة والحب والتخلص من مرض العنف والدمار.
إن المرأة موديل متطور عن الذكر الذي كتبت عنه مقالة في مجلة ألمانية بعنوان ( الجنس الهش) ولعل مستقبل الجنس البشري سينتهي في يد المرأة التي تنتج الحياة وتصون الحياة.
وفي النهاية نذكر من التراث الشرقي امرأة إيرانية هي (قرة العين) هزت الأوساط السياسية في منتصف القرن التاسع عشر بنشاطها الجم، في تحرير المرأة وإعادة الاعتبار إليها، وأنها كائن مساوي للرجل؛ فاعتلت المنابر، وخطبت في الناس فأثرت وأبكت.
وكانت في غاية الجمال والفصاحة وقوة الشخصية والحجة، وكان مصيرها عام 1852 أنها حكمت بالإعدام، فقدمت منديلها الحريري لتشنق به، فجرت من شعرها بذنب بغل، ثم أحرقت حية على أحد الروايات.
ويقول عنها (علي الوردي) في كتابه (موسوعة تاريخ العراق الحديث) متأسفا أنها سبقت عصرها ولو جاءت متأخرة لكانت من أعظم شخصيات القرن.
وكما يقول النيهوم:
quot;المرأة في بلادنا لم تشارك في هندسة مجتمعنا. ولا نعتقد أن ثمة فرقا بين هفوة المرأة والرجل ولا نريد مجتمعا يوزع امتيازاته حسب طول الشوارب، والمساواة بين الرجل والمرأة مستحيلة في أي مجتمع لا تتساوى فيه فرص الكسب. وهل تستطيع أن تفعل شيئا مجديا سوى أن تقف وراء منصة وتتسول من الرجل حقوقها؟quot;
في محفل سياسي بمناسبة عيد الشهداء، ضم العديد من الأمهات، وتقدم الخطباء يتكلمون عن أهمية الأم في تقديم الشهداء للمعارك، قام أحد المتكلمين فقال:
أيتها الأمهات أريد أن أقول لكم أن لا تسمعوا لأقوال هؤلاء، وأن عيد الشهداء هو موسم تقديم القرابين البشرية لآلة الحرب، وأن كل فريق يدعى أن من مات على مذهبه ملاك وشهيد، ومن مات من الفريق المقابل مجرم وشيطان رجيم، فلا يخدعنكن السياسيون بعد اليوم وانتبهوا أن لا تقدموا أولادكم طعاما لفوهات المدافع.
امتقعت الوجوه وكشرت السحنات، وكان الشيخ محظوظا أن لا يناله مصير ابن تيمية فيتطير عمامته ويساق للتعزير عند رفاق الحزب؟