قال عنه quot;سقراطquot;: quot;ما فهمته منه شئ رائع، أما ما لم أفهمه فإنني أؤمن بصحته، غير أنه يحتاج إلي غواص من ديلوس!quot;. وأكتفي معاصروه، إما بتسفيه آرائه وأفكاره، أو بإطلاق الألقاب عليه جزافا: المعتم.. الغامض.. الباكي.. فما سبب ذلك؟.
وسط الليل الروحاني الذي كان يلف اليونان القديم، ظهر quot;هيراقليطسquot; كنبي يتحدث بلسان الحقيقة، وأعلن بجرأة: quot;لست أري إلا التحول والتغير. لا تخدعوا أنفسكم ولا تلوموا حقيقة الأشياء، بل لوموا قصر نظركم إن ظننتم أنكم تبصرون أرضا ثابتة في بحر الكون والفساد. أنتم تخلعون علي الأشياء أسماء، وكأنما هي ستبقي إلي الأبد: ولكن النهر الذي تنزلون فيه للمرة الثانية، ليس هو النهر الذي نزلتم فيه أول مرةquot;.
هذه القدرة الفريدة علي التمثل الحدسي جعلت هيراقليطس (وحده)، دون سائر الفلاسفة السابقين عليه أو اللاحقين له، يتحدث داخل (المباشرة) ذاكرا ما يراه وليس ما قد تعلمه. ولكن.. فيما بعد، أي بعد أن وقع الفيلسوف في quot; شباك اللغة quot; حسب تعبير quot; نيتشه quot;، أي داخل مفاهيمه ومعرفة عصره، تحول من (المباشرة) إلي العمل كوسيط أو كسمسار، كما يقول quot;لوفيفرquot;.
لقد أصبح الفيلسوف بعد هيراقليطس، يعلم ويكتب عن حقيقة ذات وجود سابق، وواقعا قبليا، وهذا هو صميم عمل quot;الوسيطquot; وجوهر عملية quot;التوسطquot;. وتكشف شذراته التي وصلت الينا أنه لا يعرض آرءه بطريقة منتظمة، ولم يقدم تحليلا شاملا لها، بل لا يوجد عنده نظام متناسق ومترابط لعرض أفكاره، وإنما توجد quot;وحدة داخلية لتصوراته عن العالم وأسلوبهquot; فأحدهما مشروط بالآخر والعكس صحيح. وهو ما يفسر _ إلي حد بعيد _ بنظريته عن اللغة ومفهومه للعلاقة بين الكلمات والأفكار.
فقد ارتبطت بإسمه، كما يشير ثيوكاريس كيسيديس، نظرية أصل اللغة المسماة (النظرية الطبيعية). ونظرية الأصل الطبيعي للغة التي يوحي بها هيراقليطس دون أن يحاول صياغتها، تكمن من حيث الجوهر فيما يلي: quot;أن الكلمات وأسماء الأشياء ليست اشارات عبثية أو موضوعة وفق هوي الناس، بل هي تولد بالارتباط مع الأشياء وتعبر عن طبيعتها. لذلك فاللغة والكلمات وما يعبر عن هذا وتلك مرتبطة دائما بشكل وثيق فيما بينها من حيث هي شكل الفكر، فالكلمة بالنسبة له تتطابق مع المحتوي الموضوعي للفكر، ومع ما يعنيه هذا الفكر، أي موضوعه. ولهذا يعتبر هيراقليطس أبا لنظرية التماهي بين اللغة والفكر.
فالصورة الايجابية للنهر التي يستخدمها للتعبير عن فكرة التغير الدائم والحركة المستمرة للعالم، عن السيل الجارف للأشياء، في المقاطع التالية من شذراته: quot; أولئك الذين ينزلون في الأنهار عينها تغمرهم مياه متجددة بإستمرار quot; (ش ndash; 12). quot; لا يمكن النزول مرتين إلي النهر نفسه، ولا لمس مادة زائلة مرتين وهي في الحالة نفسها quot; (ش ndash; 91). ليست مجرد استعارة ورمز، وإنما هي quot; النهر quot; بالمعني الحرفي للكلمة.
هيراقليطس لا يلعب دور الوسيط، لأنه لا يوجد عنصر وسيط بينه وبين ما يراه ويسمعه. quot; ليس هناك تجريد بعد أو منطق أو حجاب ايديولوجي أمام عينيه، ولا يقصد أبدا بلورة نسقية للملموس عبر المجرد quot;. وحين يقول: quot;النار فنان الكونquot; فهو يقصد النار نفسها، التي يراها تعمل في كل شئ: داخل المنزل والمدينة والمعبد مثلما توجد في الحرائق والبراكين والبرق، والشئ نفسه بالنسبة للصراع بين الأضداد.
وكما لاحظ نيتشه في كتابه quot; الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي quot;: فإن الصراع عنده يرجع أساسا إلي الجدل الخاص بالإنسان اليوناني،
والألعاب الرياضية (المصارعة)، والمجادلات الفنية وصراعات الأحزاب السياسية ولعبة الديموقراطية بين المدن.وهو تصور يرتقي إلي أعلي درجات التعميم، إلي الحد الذي أصبح يشكل العنصر الذي يتحرك داخله محور quot;العالمquot;.
لكن كيف صاغ هيراقليطس مفاهيمة الخاصة جدا، دون أن يقع في شباك اللغة في عصره؟